أرجوكَ يا الله أن تُبدلني خيرًا عن كل ما فقدته في الأيام السابقة، وتُبدل الحُزن الذي زار قلبي بأيام وسنين من الفرح وألا أشقى كثيرًا في طريقي فلقد أهلكني الركض وراء الاشياء التي لم تُكتب لي، أرجوكَ ألا أتعلق بشيء لن يُوضع في يدي عما قريب
لم يكن التخرُّج بالنسبة لي حدثا عاديا، كان بمثابة الخروج.
اليوم زرت قبر أبي. ألقيت السلام وقلتها مرة واحدة "قد وفيت بالوعد الأخير، الآن أريد التحرر منك!"
اخترت السير على الركوب. مشيت الطريق إليه ومنه. مع كل خطوة أتقدمها نحوه، كان يزدحم في عقلي الكلام، ومع كل خطوة مشيتها، بعدما خلَّفته خلفي، كانت تتساقط مني سنوات الانفصال والتبدد.
بكيت عليه ملئ صدري من ألم مؤجل. بكيت كما فعلت في المرة الأولى، كأنه قد مات لتوِّه.
اليوم أشعر بالثبات يا أحمد. أشعر بقدمي أخيرا وهي تلمس الأرض. اليوم أتحرر منك.
لكن، أنا لم أتحرر منك وحدك. بل تساقط معك كل ما أهلكني في الثماني سنوات الأخيرة. كنت أحيا بوجه مزيَّف يدَّعي الحياة والتنفُّس. اليوم قد سقط عني هذا الوجه.
لم أتخلص منك وحدك، بل تخلَّصت من كل اللحظات الأخيرة. من السجن الذي يأسرني في حدوده دون ذنب مني. عندما وقفت عند رأسك، وطالبتك أن تبادلني حياتي بموتك، كنت أعنيها. أنا لا يمكن أن أوجد طالما لم تمُت أنت.
جاءني كتابك، وجاءتني حروفك، بل جئتني أنتِ في حروفك بين أسطرهة ومعانيها، أمسكت الرسالة بيدي، أصافحها بل أصافحك انتِ بين يدي رسالتك، وضممتها إلي صدري، بل ضممتك أنت فيها الى قلبي، ليهدأ مني الشوق منكِ وإليك، ليَسكن القلب وما فيه من خفقات مترددة مضطربة، قبلتُ الكلمات حين أقرأها بين شفتاي، كما تقبلينها أنت حين تكتبينها، قرأت فيها سحرا وبيانا بالغا، ورأيت فيها من الجمال ما يُرى في حديقة غنَّاء، تزهوا بجمال زهورها زهوا على الأعين وتسطوا بجمال عطرها على أنفس العابرين فيها، والقادمين إليها، ولقد سمعت من الحروف صدًا يتردد على مسامعي كأنشودة عذبة ولحنا شجيٌ يثير الروح والفؤاد، يقلب فيه أشواقه وحنينه كما لم يعرفها من قبل.
سمعتها حين تخبرين في مطلع رسالتكِ؛
«عزيزي» أشعر بكل العز والفخر وكل الحب من جمال تلك الكلمة، أستشعر ما فيها من شوق وحنين، وما يعتريها من دلال وجمال حين تنطقها شفتاك بشغف الحب فيها، وكأن حديثك بين السطور هو شعاع الفجر بعد ليلة طويلة أهلكني السهاد فيها أرقا، نسيم الصباح على صدر عليل حبست انفاسه بالليل خوفا وغرقا فى أضغاث أحلامه، حرف يبعث من نسيم الصباح سروره وبهجته على روحي وفيها، كما يبعث الندى فى رحيق الزهور حياة جديده.
كلما قرأت سطرا نفد الى روحي منه شيئا من الجمال منك، سكن بأنفاسي عطرك الذي يفوح كن الكلمات بين احرفها ومعانيها، كم أن الحب يحمل كل شيء ويسكب فيه حلاوة من نوع ما أنت مذاقه، ويبعث فيه عطرا شذيا من نوع ما أنت منتهاه.
قرات أول سطرٍ تخبرين فيه «عزيزي؛ أكتب أليك أشواقي بين أسطر الكلمات، أعدد فيه من الحنين إليك صورا مجازية ترسمها المعاني بين السطور، لعلها توصلُ إليك صورة الحب التي طبعت فى فؤادي إليك، تلك الصورة التي نقشت بداخل روحي، فأصبحت تسيطر على خاطري وخواطري.
أخبرني ماسرُ هذا الجمال حين أنظر رسائلك إلي، كيف للحروف أن تصبح مرآة للمشاعر، كيف للحروف أن تسحب روحنا وكأننا نسير بأقدامنا بين المروج فى حديقة غناء بالجمال هكذا، وكيف لتلك الأحرف أن يتغنى بها فؤادي ليل نهار، كيف لبضعمن الكلمات ان تصبح قصيدتي وأنشودتي دون نظم منك.
أخبرني؛ كيف أنت؟
كيف بلغ الشوق منك؟
وكيف نواري عن أعين الناس فينا سوءة الحنين ودموعه على وجهينا؟
إن هذا خاطري استشعر فاجعته وثِقله، قلبٌ خارب لا أعرف كيف السبيل لعمارته، فقد وسجن فأذى ثم منفى تنهار فيه الأشياء قبل أن تبدأ، كيف يمكن لشخص واحد بقلب وجسد واحد أن يتحمل كل هذا؟.
كل الأشياء تنتهي للمرة المليون، الدفاعات تنهار تماما، المزيد من نزيف الخسارة لا يمكن ترميمه، غير أن لا شيء آخر يمكن فقدانه، هذا دائما هو دافع الاستمرار، لم يبقي شيء ليضيع.
ربما كان نتاج التجربة بالكامل أن القلق ينمو داخلي حتى أنه كاد يصل إلى حلقي، ربما هذا لأن القلق بدأ علاقته معي في وقت مبكر جدا، وظلت الأمور تتفاقم حتى كدت أصرخ بأعلى صوت أهلكني القلق.
لا أشك لحظة في أن قلبي مستنزف بالكثير مما مضى، وأشفق على ظهري المسكين، للمصادفة حذرني الطبيب من زيادة الوزن مؤخرا، وبعد رؤية الصور الأخيرة لعظام ظهري واستني الطبيبة “I'm so sorry you're still too young for this”. ربما اعتدت من معظم الأشخاص أن يآسفوا لي لأني كنت ولا أعلم هل ما زلت صغيرا على كل ما يحدث؟.
ما زلت واقفا على القدمين رغم أن اليسرى مر من فوقها حافلة شعبية في الخرطوم ربما كانت تحمل نحو ٦٠ راكبا، أستند إلى ظهري وأكتاف أصدقائي الممتدة للدعم كلما احتجت، إلى جانب عدد لا بأس به من الأدوية التي اعتدت معها التعاطف من الصيادلة وعبارة “çok gencim” أي ما زلت صغيرا جدا.
هناك اقتباس عالق في ذهني دائما لإنعام كجه جي “إن الشق كبير و إبرتنا صغيرة”، وغالبا أدركت كم هي صغيرة، نحن أشخاص عاديون غير أننا تأخرنا جدا في إدراك ذلك فكان الثمن أننا ضعنا في الأرض بطولها وعرضها، في فترة ما كنا مُشردين بلا بيت ولا مأوى ولا عائلة، أطفالُ في المهد انتزعتهم الأقدار من أحضان أمهاتهم ليواجهوا الشتات وحدهم في منفى ربما يكون أبدي، ثم ماذا؟ يصطدم العاديون بقدراتهم في مواجهة العالم، نستكشف كم نحن أصغر من تغيير شيء، ربما يكون إدراك ذلك، هو الإنجاز الوحيد.
لا أعرف الآن إلى أين تتجه الحكاية لأني مازلت أحاول استيعابها، أعترف لنفسي بالوهن الذي أحيانا يفقدني القدرة على السير، والشجاعة في قبول الخسارة حيث نقف مرة أخرى لئلا نظل مهزومين للأبد، الخسارة التي تكمن في العمر والصحة النفسية والجسدية، والغنيمة التي تكمن في كل الأشياء التي تعلمتها من التجربة، أظن أني سأحصد نتاج محاولات الاستمرار يوما ما طامحا لأن يستند ظهري المسكين هذا مطمئنا آمنا قبل أن يعلن عدم استطاعته على الوقوف مجددا.