Don't wanna be here? Send us removal request.
Text
يا وحدنا
"يا وحدنا"، لا أعلم من الذي قالها أول مرة، لكنها من الشعارات التي استهلكت كثيرًا حتى أصبحت تعامل معاملة الكليشيهات، في غزة يقولونها دوما، يقول الواحد منا "يا وحدنا" في كل حرب، وكل تصعيد، ومع كل حزام ناري وصاروخ ومع كل رصاصة، في كل عيد، وفي كل جنازة. "يا وحدنا" ليست تعبيرا عن المرارة والسخط فحسب، إنها توصيف لحالة مزمنة من الشعور بالـ … شعور؟ إنها توصيف لحالة مزمنة من الخذلان، نمط مستمر وحالة حقيقية من التخلي والخيانة.
حدثت النكبة في 1948، هل تعملون قدر ما أُهدر من حبر خلال العقود الماضية من أجل تسجيل وبحث وتحليل تاريخ النكبة؟ الغالبية العظمى ممن سيقرأون هذه السطور لا يعرفون أغلب تفاصيلها، وأغلب الفلسطينيين أنفسهم لا يعرفون أيضًا التفاصيل المرهقة لما حدث خلال الحرب التي استعرت طيلة الشهور تلت قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 وما تلاه من معارك خاضتها مليشيات فلسطينية وجيوش نظامية ومتطوعين عرب ومسلمين ضد العصابات الصهيونية حتى توقيع آخر اتفاق هدنة بين العصابات الصهيونية والدول العربية المشاركة في الحرب في 1949. هناك حد أدنى من المعرفة يُفترض بنا كفلسطينيين أن نعرفه عن ذلك الحدث، ونفترض نحن أيضًا أن العالم يعلم عنه كذلك: لقد كان هناك فلسطين، وفي غمضة عين اقتطع منها جزء ضخم وأصبح فجأة دولة أجنبية، ولم يتبق من فلسطين سوى بقايا وجود مفتت لشعب تعرض للتطهير العرقي ويتعرض منذ تلك اللحظة حتى يومنا هذا إلى الإبادة الجماعية، وظهر مكانه كيان غاصب محتل استيطاني إحلالي سرق ما لا يملك وأعطاه لمن لا يستحق، وفتح أبواب بلادنا على مصراعيها أمام أجانب لم ينتموا يومًا إليها ولا تربطهم بها أي روابط. وما الذي يترتب على حدوث هذه المعرفة في عقل المرء؟ المنطق يقول: أن يُرفض ما حدث ويحدث، وأن يُرفض وجود هذا الكيان الغاصب المحتل الاستيطاني الإحلالي الذي سرق ما لا يملك وأعطاه لمن لا يستحق. لماذا ومنذ عشرات السنين لا نزال نحاول إقناع العالم بهذه البديهيات ولم يلاقينا في مسعانا سوى الفشل الذريع؟ يصل بعض الناس إلى أمدية لا نهائية في التعريص حرصًا، لا على التملص من مسؤوليتهم تجاه الحق الفلسطيني، ولا حتى من الاعتراف به، بل من أجل إنكار وجوده وإثبات شرعية وجود الكيان المعادي لهم!
من المفترض أن يكون التضامن موقفًا أخلاقيًا عمليًا يستند على الإيمان بانتزاع الحق ورده إلى أهله، من المفترض أن يكون التضامن غير مشروط، وألا يفرض المتضامن أيديولوجيته أو مواقفه السياسية أو خطابه على من يتضامن معهم. بالنسبة لنا فإن شيئًا واحدّا يحكم علاقتنا بالناس، ألا وهو علاقتهم بإسرائيل، فمهما طال الزمن لن يتمكن هذا الكيان الإبادي الدنِس المختل من تحويل وجوده إلى شيء طبيعي في هذا العالم مهما ابتعد العالم عن حالته الطبيعية. إن رفض وجود إسرائيل من حيث المبدأ هو الأساس لأي فعل تضامني مع فلسطين، كما أن أي فعل تضامني مبني على هذا الأساس يجب أن يتحرك إنطلاقا من مبادئ واضحة، ستشمل بالبديهة: العمل على تفكيك إسرائيل، ودعم صمود الناس الذين يشكلون رأس الحربة في الحرب ضدها. مرة أخرى؛ يستمد هذا الدعم من موقف أخلاقي، ويكون دعما غير مشروط بالضرورة.
"إن البحث بالتأكيد هو شكل من أشكال العنف والاستخراج المعرفي، وهذا أحد الأسباب التي تدفعنا إلى تأجيل مشاريع البحث أو التخلي عنها بالكلية" - نيرمال بوار.
كان من المفترض أن أقرأ بحثا لنيرمال بوار يتحدث "عما نحمله" كأداة للبحث، استوقفني كلام بوار المذكور أعلاه، إننا نختار أحيانا ألا نبحث في أجساد الآخرين وقصصهم ومعاناتهم لأن البحث فيها هو في جوهره عنف معرفي! أمضيت عدة أيام لا أقدر على استكمال القراءة لأنني في كل مرة أحاول إنهاء البحث أجد أفكاري قد استوقفتني عند هذه الجملة بالذات! وأفكر فيها مرة تلو أخرى. للعنف أوجه كثيرة مستورة بأغلفة مسكَّرة، قد لا يكون البحث أسوأها، ولكنه أحدها بدون شك. أفكر في أن البحث هنا ليس بالضرورة بحث اجتماعي فقط، بل إنه جميع أشكال التنقيب في الأجساد وذاكراتها ومعاناتها، وأتذكر أننا كغزيين منذ عقود طوال نتعرض لأحد أبشع أشكال العنف المغلف هذا عن طريق النشاط الصحفي الذي سلمنا وآمنا في مرحلة ما من أعمارنا أنه ضرورة حيوية وجزء لا يتجزأ من نضالنا المحتاج بشدة إلى توثيق حتى "يعلم العالم كله" عنه، لماذا؟ هل سأل أحد طيلة سبعين عام ونيف عن الذي استفدناه من معرفة العالم عن أشكال جروحنا وعمقها وقدر ما نزفته من دماء؟ هل حرر العالم لنا أرضًا أو رد لنا حقًا؟
لقد كانت السردية المسيطرة على الخطاب الإعلامي العالمي هي السردية الصهيونية، والحق أنها لا تزال كذلك بالفعل، وهذه ليست أخبار جديدة، الفارق هنا أن العقود الأخيرة قد شهدت تطورا في الإعلام الرقمي فأصبح نقل الخبر والتعبير عن الرأي متاحا للجميع بأسعار رخيصة وبوسائل في غاية السهولة، وهي وسائل تصبح أسهل وأرخص باستمرار، فتكونت على إثر ذلك جبهة إعلامية شعبية متمحورة حول سردية (أو سرديات) مناصرة لفلسطين، واستطاعت النفاذ شيئًا فشيئًا إلى الإعلام الرسمي، خاصة وأن الكاميرا أصبحت في كل يد، وللجميع القدرة على تسجيل ما يدور حوله ونشره وإيصاله فعلًا للعالم، وفي خضم ذلك نسينا كيف أن هذا النشر المستمر لأجسادنا وجروحنا وصرخاتنا على الملأ قد ساهم في تجريدنا من إنسانيتنا شيئًا فشيئًا بدلًا من أن يردها إلينا كما كان البعض منا يظن. لا يزال مطبوعًا في ذاكرتي مشهد لرأس طفلة غزية صغيرة ملقى على الأرض، هو كل ما تبقى من جسدها الضئيل، صحافي منا التقط صورة رأسها وعيونها المغمضة وشعرها الأشعث ووجهها المتسخ بغبار الركام، كان ذلك خلال حرب 2008 / 2009، ما أذكره وأغار الجرح في قلبي أكثر أن صورة رأس الفتاة الصغيرة كانت في يد سلام فياض رئيس وزراء حكومة رام الله، والذي رفعها في مؤتمر صحافي أمام عدسات الصحافة العالمية. تخيلت لو كانت صورة رأسي أو جثتي في يد الوغد سلام فياض لحظتها، فتحول غثياني إلى غضب وإحساس بالمهانة. بشكل ما فإن النتيجة البديهية لتوثيق وبحث صحافي مؤسس على العنف تجاه الناس هو حالة تضامنية عنيفة في جوهرها. على التضامن مع الضعيف أن يكون مكلفًا وله ثمن، هذا مما لا مناص منه في عالم تسود فيه قوة إرهابية دولية مثل أمريكا. والسؤال يكون ببساطة، من الذي سيدفع الثمن؟ المتضامنون؟ أم نحن؟ من المثير للسخرية أن الإجابة في أغلب الأوقات مخالفة للمنطق.
من المفترض أن يكون التضامن موقفًا أخلاقيًا عمليًا، أن يكون وسيلة يُخفف بها الضغط الممارس على الضحية، لا أن يتحول إلى وسيلة لممارسة العنف ضدها. عند نقطة ما بدأ العمل التضامني مع القضية الفلسطينية يتسق داخل حدود القانون الدولي وما تتفق المنظمة الإرهابية المسماة بالأمم المتحدة على السماح بممارسته، وطبقًا لتعريفاتها للحق والباطل، أي بدون تجاوز مصلحة إسرائيل أو السماح بتهديدها. عند نقطة أخرى، وبعد اتفاق أوسلو تحديدًا، فإن كثيرًا من الفلسطينيين بدأوا بتبني ذات النموذج، وأصبح حمل السلاح الذي بنت عليه منظمة التحرير وحركة فتح شرعيتها السياسية في الداخل كمنظمة ثورية تحررية، فعلًا إرهابيًا يُحارب على يد جنود سلطة أوسلو الذين كانوا يومًا ما ثوارًا يقاتلون ضد إسرائيل. أما العمل ضد إسرائيل فيجب أن يتم انطلاقًا من ذات المحددات التي يضعها المجتمع الدولي: إسرائيل دولة شرعية، النضال ضدها فعل إرهابي مُستعدى، وإرهابها دفاع مشروع عن النفس - هل تذكرون هذه الإكليشهات المملة؟ - أي قيمة يملكها التضامن وقتها وما هي أهميته إن لم يكن منطلقًا من استعداء إسرائيل بشكل حقيقي ورفض وجودها؟
لم ينته الحديث بعد.
3 notes
·
View notes
Text
دُقة غزاوية، دَقة غزاوية، سلطة غزاوية، فتة غزاوية، شاورما غزاوية، كنافة غزاوية .. في كل زوايا الانترنت بتلاقي هلقيت كائنات بتعمل محتوى عن الأكل بتتعرف وبتعرف متابعينها على المطبخ الغزاوي.
هو فعليا على الأقل المفروض يكون في شوية حياء عند هاي الطحالب إنو تستنى لحد ما خلاص الإبادة تخلص ونموت كلنا ويبلشوا وقتها يخلدوا ذكرى غزة وموروثها الثقافي الضائع، لكن هذول الأوساخ مش بس بيتعاملوا معانا على إنا كلنا خلصنا، مش بس بيتضامنوا مع دم وأشلاء وركام وغرف عمليات ملوثة وناس بتعاني من الأوبئة بفيديوهات 4K مصورة في استديوهات معقمة، مش بس بيعملوش إشي، بيقدموش إشي، ولا أي نوع من الدعم للناس اللي قاعدين بيلموا ريتش وتفاعل وبيجمعوا مصاري على حساب دمهم، لا .. هذا كله مش كافي .. فوق هذا كله قاعدين بيطبخوا أكلنا في أشد وقت لوباء المجاعة وسوء التغذية! في وقت النساء بترضع اولادها فيه شوربة عدس بدل الحليب، في وقت النساء بتخضع فيه للفحص السريري عشان تثبت أنها مش قادرة ترضع مشان يصحلها علبة حليب صناعي لرضيعها، وفي وقت الناس بتموت، والله العظيم بتموت، حرفيا، مش مجازا، عشان تقدر تجيب كيس طحين مغمس بالدم. تفه.
3 notes
·
View notes
Text
مدينة، بحر، إبادة
المسجد العمري في غزة: كان المسجد يشكل جزءا من من كنيسة بيزنطية بنيت في القرن الخامس الميلادي في عهد الامبراطور اركاديوس، وسميت باسم (كنيسة يودوكسيانا) نسبة لزوجته الإمبراطورة يودوكسيا التي ساهمت في إقناعه بهدم المعابد الوثنية في غزة بناء على طلب أسقف غزة في ذلك الوقت بورفيريوس، ومنها معبد المارنيون المخصص لعبادة الاله (مارناس) الفلسطي الذي ربطه اليونانيون بالإله زيوس. في عام ٤٠٢ بعد الميلاد هدم الاسقف بورفيريوس ستة معابد وثنية في غزة وأحرق المعبد السادس (المارنيون) الذي كان أكبرها وأعظمها، وكان الحريق هائلا لدرجة استحال فيها الرخام المستخدم في بناء المعبد إلى حجارة من الجير. (مصدر الصورة: الاتحاد المعماري - ايرلندا).
لهذه المدينة تاريخ سحيق، عمرها يربو على خمسة آلاف عام، ليست هذه بالمدة القصيرة في عمر الحضارة والمدنية، إنه عمر طويل جدا، لو أن في هذه المدينة شخص يملك سلسلة نسب كاملة تصله بالغزاوي الأول فإن اسمه الكامل سيحوي ٢٥٠ اسما، أكثر أو أقل، هذا أطول بكثير من أي سلسلة نسب مزيفة لأي ممن يدعون انتمائهم للأشراف مثلا وهم يستطيعون سرد سلاسل نسبهم حتى سيدنا آدم عليه السلام.
ما الذي فكر فيه الغزاوي الأول عندما حلت رحاله في هذا المكان وقرر أن تكون هذه البقعة مهدا لحضارة؟ من الصعب أن نتخيل صورة كاملة وواضحة عن غزة في ذلك الوقت، الجغرافيا والمناخ والمحيط السياسي، مستوى ال��حر وحدود المدينة وشكل الحياة فيها، طبيعة المجتمع وعدد السكان واقتصادهم ومعاشهم، علاقات المدينة بما يحيط فيها من قرى ومدن وقوى سياسية، كل هذه أشياء يصعب دراستها بدقة في سياق ذلك التاريخ السحيق، وبحسب ما أعلم فلم تُدرس غزة آركيولوجيًا بالكثافة الكافية لتكتمل عنها الصورة المطلوبة.
لنعد الى السؤال الذي سألناه قبل قليل: ما الذي فكر فيه الغزاوي الاول عندما حلت رحاله في هذا المكان وقرر أن يكون ههنا غزة؟ البحر قريب، هل فكر في المكان كبقعة مناسبة لبناء مرفأ؟ أم مجرد مساحة مستوية خالية من الجبال ومناسبة للزراعة؟ أم أراد فحسب الهرب مما يلي غزة من جحيم الصحراء المحيط بها من أغلب الاتجاهات؟ هل كان هناك صحراء أصلا قبل خمسة آلاف عام في بير السبع وسيناء؟ هل كان لديه تصور كاف عن المجال الجغرافي للمكان؟ هل علم أنها تقع في بقعة وسط بين مصرٍ بأدناها وشامٍ بأعلاها؟ هل كان يعلم أنها ستكون بوابة لإمبراطوريات عظيمة، ستدخل عبرها صفحة التاريخ وعبرها ستخرج منها؟ من المتعارف عليه اليوم أن مؤسسي غزة هم شعوب متوسطية هي شعوب الفلسط (او البلست) أتت من البحر ووصلت الى جنوب فلسطين وأسست حضارة على أكتاف خمسة مدن، ومن المنطقي أن يؤسس شعب مرتحل عبر البحر مدينة في أول مكان تطأه قدمه عند وصوله الى اليابسة، لكن لا يوجد تأكيد قطعي لحد الان لقصة التأسيس الاولى للمدينة ولا لأصول شعوب الفلسط والمكان الذي أتوا منه اول مرة.
عندما يتحدث الناس عن لعنات المكان والجغرافيا، تراهم يتحدثون عن مكان مثل استراليا، فيه الكثير من الافاعي والعقارب والحيوانات البرية، مكان مثل اليابان، تكثر فيه الزلازل ولا يوجد به عظيم مساحة تستغل في الزراعة بسبب ازدحام البلاد بالجبال، مكان مثل جزر فيجي حيث اقصى الارض اذ يصعب الوصول اليها الا عبر بحار غادرة أو رحلات جوية طويلة جدا. نادرا ما ستجد من يتحدث عن غزة، وأي لعنة يمكن ان تحل على غزة؟ هذا المكان اللطيف، معتدل الحرارة، المليء بكروم الزيتون ومزارع الحمضيات، القريب من البحر، ذي الشاطئ المستوي الذي يصلح، منذ النظرة الاولى، لبناء المرافئ والموانئ بسهولة، المكان الغني بالمياه الجوفية، وأرضه خصبة للزراعة وتصلح لاستنبات عشرات المحاصيل، مكان يقع على مفترق طريق بين قارتين، وهو بوابة جنوبية لبلاد تقع على مفترق طرق يصل إلى القارة الثالثة.
الا ان جميع ما سبق صنع لهذا المكان لعنته في أوقات من التاريخ مثلما صنع له نهضته وارتقائه؛ فالمساحة المستوية تجعل الدفاع عن هذه المدينة صعبا، اذ لا يوجد اي عوائق طبيعية ضد الغزو، ولو ابتغى حاكم للمدينة أن يبنى حولها سورا، فسيكون سورا ضعيفا، حصاره واختراقه سهل، خاصة وأن لا جبال حول غزة لتكون مصدرا لصخور البناء، ولا إمكانية ليشمل السور ما حول المدينة من مساحات زراعية واسعة، ولذا فإن تجويعها بالحصار أمر في المتناول كذلك، وكروم الزيتون والحمضيات كانت دائما ما تغري مجتمعات الرحل الواقعة على هامش المدينة بمهاجمتها بغية السلب والنهب، أما الشاطئ فلا يستقر فيه مرفأ ولا ميناء، وكلما وضع أحدهم حجرين أو خشبتين في عرض البحر جرفتهما نوة الشتاء، كما أن اغراء الغزو من الصحراء لا يقل شدة عن اغراء الغزو من البحر، ولذا فان مرفئا قويا سيكون مساحة مفتوحة لرسو سفن القراصنة، يصعب الدفاع عنها أمام القوادس الحريية والسفن المزودة بالمدافع، أما وقوع غزة على مفترق طرق قارات العالم القديم، جعلها محطة تجارية هامة لكنه منحها أيضا بعدا استراتيجيا جعل من السيطرة عليها أمرا حيويا في صراع الامبراطوريات التي وقعت غزة على هامشها تارة وجزءا منها تارة؛ لم يقع غزو للشام من مصر الا ومر بغزة، والعكس صحيح، وذلك هو الواقع منذ أيام الحروب الاشورية المصرية وغزوات تحتمس الثالث لبلاد الشام، وصولا الى المساهمة المصرية في حرب النكبة والغزو الإسرائيلي لغزة خلال العدوان الثلاثي ٥٦ وحرب النكسة ٦٧.
الا ان الامر لم يكن دائما على هذه الحال، ففي سنوات ما قبل الميلاد كانت غزة معقلا عسكريا وسياسيا هاما في سياق الحضارة الفلسطية في جنوب فلسطين، وكانت واحدة من خمسة مدن أسسها الفلسط، كانت غزة اعظمهم واقواهم، يحيط بها سور قوي، ويقع فبها ميناء عامر ينشط ضمن الشبكة التجارية المتوسطية التي تمحورت حول المراكز الحضارية الفينيقة اولا ثم الهيلنستية فالرومانية، مع الاخذ بعين الاعتبار ان سفن تلك الفترة كانت اصغر بالتأكيد، ولم تحتج الى مرافئ كبيرة، وكان مفهوم العالم في ذلك الزمن عن الحركة التجارية النشطة يتوافق مع عدد السكان المنخفض في تلك الفترة وحجم ما سمحت التكنولوجيا الراهنة به من انتاج زراعي وصناعي.
غزة مدينة تعرف الحرب منذ ايامها الاولى، وكان طبيعيا ان تنشط فيها حركة عسكرية تتوافق مع الحراك السياسي النشط للعالم القديم، خاصة في سوريا التي صعدت فيها الدول واندثرت بسرعة نسبية، وكانت تقع إلى جوار دول عظيمة مثل آشور ومصر. تعرضت غزة لغزو قوات الاسكندر الاكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، واستطاعت أن تصمد في وجه حصاره خمسة أشهر، لم يعاقب الاسكندر الاكبر غزة على شجاعتها فهو يعلم أهمية وجود هذه المدينة التي ستعمل كجسر لاراضيه واملاكه المترامية ما بين غرب اسيا وشمال افريقيا، وبعدها بقرنين ونيف من الزمن تعرضت لهجوم همجي قاده اسكندر اخر، ملك يهودي حشموني يدعى ألكساندر يانوس Alexander Jannaeus، في تلك الايام تشبعت اليهودية اللقيطة بالتأثيرات الهيلنستية لدرجة أصبحت فيها أسماء ملوك اليهود واحبارهم يونانية خالصة، هاجم يانوس غزة، وحاصر المدينة لمدة سنة كاملة (٩٦ ق.م) قبل ان ينجح في اختراق دفاعاتها فأعمل فيها وفي أهلها السيف والنار حتى أزالها عن الوجود! وظلت لأربعة عقود أثرا بعد عين قبل أن تبدأ جهود اعادة بناءها مرة أخرى! في ٩٦ ق.م تعرضت غزة للإبادة.
في ١٩١٦ حاول الانجليز احتلال سوريا انطلاقا من مصر بعد أن فشلوا بشكل دراماتيكي في انهاء الجهود العثمانية في الحرب الكبرى عن طريق حملة مباشرة على جنا قلعة استهدفت احتلال اسطنبول، فقاموا بعدها بمحاولة افتكاك الاملاك العثمانية في الشرق الادنى عبر حملات على العراق انطلقت من الخليج الذي اشتروا إماراته بثمن بخس منذ عقود أو قرون، واخرى على الشام انطلقت من مصر التي احتلوها بخيانات أخرى قبل ما يزيد على ٤ عقود، وتعارك الجيش البريطاني مع الحامية العثمانية في غزة مرتين في ١٩١٦ وفشلت في احتلالها الى ان نجح ادموند ألينبي في المرة الثالثة في ١٩١٧ بعد خيانة من أحد وجهاء البدو الذين دلهم على محور طريق وادي الشريعة الواقع جنوب شرق المدينة والذي يسهل اجتياحه بعيدا عن الاستحكامات العثمانية، ففعل بعد أن دمرت مدافعه جل المدينة وكثيرا من معالمها الاثرية.
في ١٥١٦ سرى عسكر سليم الاول من حلب الى الخليل بدون معركة واحدة بعد انتصاره المدوي على قانصوة الغوري سلطان المماليك في مرج دابق، ولم يقاتله في الشام بعدها سوى عسكر غزة بقيادة جان بردي الغزالي، وانكسر امام العثمانيين وقائدهم العسكري المخضرم سنان باشا الخادم قرب خانيونس، وعندما تراجع سنان باشا الى غزة وجد الغزيين قد ثاروا مع فلول المماليك على حامية العثمانيين الصغيرة التي تركها سنان الخادم في المدينة فقتلوها، في الوقت الذي كان فيه وجهاء الشام من طرابلس الى الخليل يحجون الى دمشق لتقديم فروض الطاعة والولاء لسليم الاول، وانتقم العثمانيون من ثورة الغزيين فوضعوا فيهم السيف وقتلوا ألفا من سكان غزة الثلاثة آلاف في يوم واحد. وبعد أن خلت غزة من فلول المماليك وأُورد ثلث سكانها في المقابر، فُتح الطريق أمام سليم الاول، فزحف الى مصر واخذها والحجاز بعد معركة اخرى واخيرة ضد المماليك في الريدانية. لم تنقذ غزة السلطنة المملوكية في ١٥١٦، ولم تنقذ بعدها الامبراطورية العثمانية في ١٩١٧ ولم تنقذ الجمهورية المصرية في ١٩٦٧، لقد ادت غزة دورها دائما، حاربت حتى استنفذت قدرتها على الحرب، وانكسرت. يشهد لي عمي رحمه الله عن محارب عراقي كان يقاتل ضمن صفوف العسكر المصري الذي انكسر في غزة خلال حرب النكسة، قال لي: ظل الرجل، وكان ضابطا برتبة صغيرة، معتليا برجا للمراقبة داخل معسكر للجيش في شمال غزة، ويجلس خلف مقود رشاش ثقيل من عيار ٢٥٠ ملم مضاد للطيران، لم نسمع يومها رصاصا أطلق في جباليا سوى من ذلك البرج، وظل يستهدف الطائرات الإسرائيلية برشاشه حتى عاجلته احداها بصاروخ احرق البرج الذي يعتليه وارتقى شهيدا.
في ١٩١٦ قام باشا تركي آخر يدعى احمد جمال، طوراني هذه المرة، بتحويل غزة إلى خط حربي، فهجر أهلها منها وأجبرهم على ترك المدينة لتصبح ساحة للعمليات العسكرية ضد الانجليز، فغادر اهلها منها مجبرين، وبينما كان العسكر العثماني ينهب بيوت المدينة حتى أنهم خلعوا الأخشاب من سقوف بيوتها، كان قسم من الغزيين ينتقلون إلى القرى المحيطة بغزة بينما اخرون يواصلون الزحف على طريق الهجرة حتى وصلوا الى بر الشام وما يليه يحثون الخطى هربا من رعب الحرب ومن جوع ما بعد سنة الجراد ومن الكوليرا.
في العقود الاخيرة من القرن الثالث عشر افتك المماليك اثناء فتوة سلطنتهم غزة من فلول الايوبيين في الشام، وأصبحت قاعدتهم الاساسية في فلسطين بجانب صفد، وفيها جمعوا قواتهم ومنها انطلقوا لتطهير فلسطين وساحل لبنان من بقايا الدنس الإبادي الصليبي المختل، وبعد عقود طويلة بدأت غزة تتراجع اقتصادا وأمنا، وأصبحت ساحة للنهب والسلب، وكل ما يؤدي اليها من طرق قد احتل على يد البدو بلا رادع، خاصة مع تراخي قبضة السلطة المملوكية على طريق القوافل الواصل بين مصر والشام. ولكن في عهد سليمان القانوني وريث سليم الاول، عادت غزة تتحول بالتدريج إلى أكبر حواضر الشام الجنوبية وعاصمة لفلسطين، على الرغم من أنها خسرت ثلث سكانها في مجزرة سنان الخادم خلال الفتح العثماني. وعندما نقول "عاصمة لفلسطين" نقصد أنها مركز الثقل السياسي والاقتصادي، كانت غزة سنجقا (لواء) في ايالة (ولاية) شام شريف، ومما كان متعارفا عليه أن يحكم الباشا او البكلربك (الوزير) الايالة أما السنجق فيحكمه البك (الامير)، ومن العوامل التي حددت هذه الرتب كان حجم الضرائب التي يُطلب من كل من الباشا والبك دفعها سنويا للحكومة وحجم العساكر الذين سُمح لهم أو طلب منهم تجنيده، وكانت غزة من الاستثناءات النادرة التي ولى فيها العثمانيون وزيرا برتبة الباشا على سنجق صغير المساحة، وذلك لأن اقتصادها سمح لها بثقل ضريبي كاف كما أن موقعها القريب من طريق الحج المصري ألزم العثمانيين بمنح مسؤوليتها لموظف كبير حتى يتمكن من تجنيد الموارد اللازمة لحماية ورعاية قافلة الحج، ولأجل ذلك أيضا أولت الدولة مسؤولية رعاية قافلة الحج الشامي في كثير من الاحيان لوزير غزة وذلك قبل أن تبدأ بتوكيل هذه المسؤولية لوزراء الشام بعقود طويلة.
يعرف الجغرافيون مفهوم القارة، في ابسط صوره، على أنها كتلة ضخمة من اليابسة محاطة بالماء من جميع الاتجاهات، افريقيا واسيا قارتان، والجسر البري الواصل بينهما صغير جدا في ميزان مساحة المكانين الشاسعة، فلا يعتبر كسرا للقاعدة، الا ان هذا الجسر كذلك كان سببا في تحويل هذه المنطقة التي توسطت العالم القديم الى حلقة الوصل الاهم بين اكبر تجمعين بشريين في التاريخ، واذا ما عدنا بالذاكرة أبعد سنجد انها كانت سببا في انتشار الانسان الاول لاول مرة من افريقيا الى اسيا واوروبا، وقد كان هذا الجسر الذي تقع الصحراء على جانبيه في كثير من الاحيان حدا فاصلا بين دول وامبراطوريات، أو حاجزا طبيعيا بين أقاليم الامبراطورية الواحدة، فهو وصل وفصل في ذات الوقت، وعندما انهى الاسكندر المقدوني سيطرة فارس على الشرق الادنى، وضم مصر والشام الى فلك العالم الهيلنستي، قسمت مصر والشام بعد وفاته بين البطالمة والسلوقيين الى دولتين منفصلتين، قاد كل منهما واحد من قواد الاسكندر المقدوني العسكريين. بالنسبة للغزاة الأجانب فقد كان هذا الجسر أحيانا بمثابة عقبة يخافون المغامرة بعبورها، لقد انقذ هذا الجسر السلطنة المملوكية من غزو سلطان تركمنستان الشرقية تيمور لنك، حيث وصل الى الشام في بداية القرن الخامس عشر خلال عام أباد فيه وباء الجراد معظم المحاصيل في البلاد، فخاف مستشاروه من عبور الصحراء بلا مؤن او موارد وأخبروه بأن سلاطين الجراكسة الزائفين محصنون يقينا خلف الصحراء ولا سبيل لغزوهم إلا بحرا، وعليه حولت هذه البقعة الصغيرة مسار التاريخ وحثت تيمور لنك على مهاجمة الاناضول والسلطنة العثمانية عوضا عن مصر. من المثير للسخرية أن وضع المماليك في الشام في ذلك الوقت قد اوحى بأن مهمة تيمور لنك في مصر ستكون أسهل من مثيلتها في الأناضول، وعلى الأقل، لن يضطر الى محاربة عسكري مخضرم وقوي مثل السلطان العثماني يلدرم بايزيد، هذه الاحتمالات لا تطرح اليوم ولا يُعمل فيها اي تفكير، لأن تيمور ببساطة نجح في هزيمة بايزيد الاول، وقتله في سجنه، ومما يثير السخرية أيضا أن تيمور، الذي عرف عسكره بشراسة قتالهم وشناعاتهم ضد الجيوش والسكان على حد سواء، لم يضطروا الى منح الشام الجنوبية نصيبا من مجازرهم، وقد تولى هذه المسؤولية قبائل البدو في بير السبع وسيناء، والتي هاجمت بكل شراسة مجاميع اللاجئين من فلسطين الى مصر، الهاربين من خطر الموت، قتلا على يد تيمور او جوعا على يد الجراد، فاستقبلهم البدو بالسيوف ونهبوهم وجرى عليهم أشد مما جرى على الناس من تيمور لنك وجيشه كما يفيد بعض الرواة.

قصر الباشا: متحف ومبنى أثري في غزة بُني في عهد السلطنة المملوكية واستخدم مقرا لنائب غزة ودار للحكومة، وظل يستخدم لذات الغرض في العهد العثماني وكان مقرا لأمراء آل رضوان، وفي عهدهم بُني طابقه الثاني، يظهر واضحا اختلاف نوعية الحجارة المستخدمة في بناء الطابقين.
ان غزة مكان قد يجيد الانتصار أحيانا، فهي مجبرة دوما على الحرب، وإن ليس الحرب فهي مجبرة على الثورة، ولكنها تفوز حينا وتخسر أحيانا، على أن ما تجيده غزة ببراعة هو الاستشهاد، بأكثر الصور دموية على الإطلاق، كما أنها تجيد الزج بنفسها في أتون النار بلا هوادة، من الأحمق الذي فكر في بناء مدينة في هذا المكان بالذات؟ خلقت للحرب ولكن ليس للمجد ولا الانتصار! ترفض غزة الغازي مهما اختلف شكله ولونه، هي مكان يرفض الشذوذ، وطينة لا تقبل الا ما اعتادت أن يزرع فيها شجرا وبشرا! هل سمعتم تميم البرغوثي يتحدث يوما عن القدس؟ فيها الزنج والافرنج والصقلاب والبشناق؟ فيها كل من ورد الثرى؟ أوهمنا الرجل أنه يتحدث عن حجاج لكنه كان فعلا يتحدث عن غزاة، حاول تصوير حاضرة كوزموبوليتانية تمثل رمزا للتعايش، لكنها في الحقيقة صهريج نفط راكد فوق جمر يكسوه الرماد. لم تتسامج غزة يوما مع الغزاة! إنها تمثال الرفض الذي لا يقبل الغريب، قبل سنوات طويلة بدأت في غزة مشاريع لزراعة الأفوكادو ونخيل البلح الأصفر لتوفير تكاليف استيرادها، واستغرقت حتى تنجح سنوات طويلة وصعوبات بالغة وتجارب كثيرة فاشلة، ولحد الان لم تنجح كما يجب! هل تعلم لماذا يحب الغزيون شجر الزيتون؟ إنه شجر سهل الزراعة يكبر وينتج بغزارة بقليل من الرعاية ولا يحتاج الى الكثير من السماد ويتأقلم من المياه المالحة، وبالتالي يزرع في كل مكان في غزة مهما بلغت درجة اقترابه من البحر او ملوحة المياة الجوفية فيه، بعد ١٩٦٧ زرعت اسرائيل مساحات كبيرة من الاراضي الفارغة في غزة بأشجار الكينيا والصنوبر، هناك هوس غير مفهوم عند الاسرائيليين بالصنوبريات! بعد العام ١٩٩٤ زحف العمران في غزة على كل السوافي الفارغة التي ملأتها إسرائيل طيلة عقود بأشجار الكينيا، بيتنا في جباليا كان جزءا من مشروع سكني بُني فوق غابة كينيا زرعتها إسرائيل غرب جباليا، أخبرني أبي أنه كان يغادر منزله في مخيم جباليا كل يوم خلال سنة التوجيهي ويذهب الى تلك الغابة الصغيرة من أجل الدراسة فيها.
بأي حال، لست أتحدث هنا عن مكان يرفض الاختلاف بالجملة والكلية، إن لغزة وأهلها نصيبهم من العنصرية مثل غيرهم من أهل هذه البلاد، لكن ما أقصده أنها في نهاية الامر لا تخضع بسهولة لسيادة الاغراب، من يريد ان يسود في غزة عليه ان يتطبع بطبع المدينة لأنها لن تقبل ابدا ان تتطبع بطباعه، إن إحدى أشهر عائلات المدينة، آل رضوان، ينحدرون من نسل وزراء اتراك حكموا المدينة طيلة عقود طويلة ايام العثمانيين، وهم بالنسبة لأهل المدينة الان، غزيون، ولم يعودوا اتراكًا.
استمرت غزة طيلة عهد آل رضوان ساحة السياسة الرئيسة في فلسطين. للحكم العثماني في الاقاليم البروفنسالية انماط متعددة، وهي تعتمد على الاعيان المحليين في كثير من الاحيان مع وجود رقابة عليا تمثلها طبقة من النبلاء العثمانيين، والعناصر المحلية تزودهم بها سلالات حاكمة توراث اغلبها الحكم في مناطق محددة مئات السنين، وصعدوا واندثروا طبقا لمحددات سياسية محلية، استطاع العثمانيون غالبا التأثير فيها ولكن ليس تغييرها، يعرف العثمانيون انهم بحاجة دوما للعنصر المحلي من اجل الحكم، ولا يعتمدون على الباشوات الاتراك من اجل الاتصال المباشر بالناس، ولا يعطونهم الثقة الكافية من اجل استمرار بقاءهم على رؤوس الايالات لفترة طويلة، كي لا يراكموا ثروة او نفوذا، في حالة غزة، فقد استمر ال رضوان، الأتراك الاناضوليون، في حكم سنجق غزة، لمدة زادت عن ١٣٠ سنة، وتوارثوا الحكم فيها كأي أعيان محليين، وتركوا فيها اوقافا ومعالم كثيرة، وبعد نهاية حكمهم ظل قسم كبير منهم في غزة حتى الان. في تلك الفترة تولى كثير من امراء آل رضوان إمارة قافلة الحج، كما أموا قلعة خانيونس (برقوق) بحامية من الفرسان الذين كُلفوا بحماية طريق القوافل القادم من مصر، وانيطت بهم مسؤولية فرض سلطة الدولة على الضفة الشرقية من نهر الاردن حيث بادية الشام التي انتشرت فيها عديد من القبائل البدوية المتمردة، سيطروا على ميناء يافا الذي كان بوابة أوروبا للحج المسيحي في المدن الفلسطينية المقدسة، ولم يُسمح لأي أجنبي، حاجا كان ام ديبلوماسيا، بالتجول داخل فلسطين بدون إذن من باشا غزة. في بعض الاحيان منحهم العثمانيون مسؤولية ادارة سناجق اخرى في فلسطين، فحكموا نابلس احيانا ومناطق الخليل والقدس كذلك. لم يستمر هذا الوضع كثيرا بعد انتهاء عهد ال رضوان والعهد القصير لآل مكي في غزة، وبدأت قوة غزة العسكرية والاقتصادية في التراجع، وبدأت القبائل البدوية في الصعود والسيطرة بحرية على طرق القوافل الرئيسية، فانتشر الخراب وانعدم الأمن، وأصبحت الحركة التجارية المارة بغزة أكثر ضعفا، فانسحبت على اثر ذلك غزة من شبكة التجارة الاقليمية وبدأ نجم يافا جارتها وربيبتها الصغيرة، ذات الميناء الواسع والسور القوي، يصعد بالتدريج، وبدأت يافا تأخذ مكان غزة، أو جزءا منه على الاقل، في السياسة المحلية. في تلك الفترة كانت قوة وزراء دمشق الضاربة قد وُجهت ناحية صغار الاعيان ومشايخ الفلاحين، حيث أنهكوا الارض واهلها بالضرائب، في ستينات القرن الثامن عشر تولى وزارة دمشق رجل يُدعى "عثمان باشا الكرجي"، وهو عبد جورجي نشأ في خدمة آل العظم في شمال سورية وأصبح مستشارا لكبيرهم أسعد باشا وزير دمشق من قبله، وقد خانه وتآمر عليه وعندما أزاحه العثمانيون من وزارة دمشق تقدم هو فدل مبعوثي الباب العالي على أماكن أمواله وخزائنه، فكرمه الباب العالي ومنحه الباشوية ولقبه بالباشا "الصادق"، وقد كان هذا الصادق ذا جبروت عظيم، استغل موقعه من اجل تعزيز نفوذه في اسطنبول، وعلى العكس من ال العظم الاثرياء أعيان حمص وابناء المنطقة، لم يجد الكرجي لنفسه منفذا سهلا الى شبكة التجارة الاقليمية ليسعى الى مراكمة الثروة كما فعل اسياده السابقون، ولذا فقد قسم ما تبقى من وقته كل سنة بعد اتمام مهام امارة قافلة الحج الشامي خلال فترة ولايته ما بين استخدام القسوة المفرطة لاستئصال الضرائب من الارض و��ين التحرش بأمراء الزيادنة في الجليل، وفي ١٧٧٠ بينما يقود عثمان باشا في جنوب فلسطين قافلة الدورة، وهي قافلة سنوية مخصصة لجمع الضرائب لتمويل قافلة الحج، وصل عثمان باشا الى حدود غزة وطلب متسلميها للمثول بين يديه، وقد كان أهل المدينة وقتها في ضائقة شديدة بسبب عثمان باشا وضرائبه القاسية، فخرج من المدينة وفد من علمائها يناشدونه أن يعفي غزة من جباية الضرائب، وقد كانت هذه سابقة في تاريخ عثمان باشا وفي تاريخ العلاقة بين وزراء دمشق وأهالي غزة، وقد كانوا يتوسمون أن يمنح هذا الرجل بعض الاعتبار للعلماء ومكانتهم الدينية، فقام هذا المتوحش بإعدامهم بالدفن أحياء! وهاجم المدينة وأجبر أهلها على الدفع من قوت أبناءهم.
ربما كانت غزة لتتأقلم مع التغيرات التي حصلت خلال القرون الماضية لو كان لديها ميناء واسع وقوي، فضعف الامن الذي ترافق مع تراخي قبضة السلطة العثمانية على الايالات الشامية، عمل على تنشيط حركة التجارة البحرية، خاصة مع دخول عدد من الدول الاوروبية في ميدان التجارة مع أقاليم بلاد الشام، وقد كانت تجارتهم مع العثمانيين، او معظمها، تتم عبر طرق برية تتمركز حول حلب او طرق بحرية تتمركز حول اسطنبول وازمير، ولكن البحر لم يعد في ذلك الوقت صديقا لغزة مثلما كان أيام المدينة الفلسطية الهيلينسنية الرومانية، فعلى العكس من مدن ساحلية أخرى مثل يافا وعكا، فإن التجمع السكاني الرئيسي في غزة كان يبعد عن البحر عدة كيلومترات، إن صورة غزة اليوم كمدينة تقع على شاطئ البحر هي صورة تشكلت حديثا بعد ان زحف العمران الغزي على المناطق الغربية من المدينة وتأسست أحياء جديدة مثل حي الرمال في العقد الثالث من القرن العشرين، هل كان ذلك بسبب محاولة الغزيين الابتعاد عن ملوحة المياة الجوفية التي تزداد كلما اقتربت من الشاطئ؟ خاصة وأن زراعة الحمضيات، على العكس من زراعة الزيتون، تتطلب توفر مياة عذبة؟ قد يكون هذا سببا منطقيا في سياق يكون فيه عمر المدينة أقصر من عمرها الحقيقي بكثير، خاصة أن زراعة الشجر المعمر تعتمد في جزء كبير منها على مياه الامطار، والتي غالبا ما تكون غزيرة في غزة، أو ربما تغير موقع التجمع السكاني الرئيسي في غزة على مدار الزمن، ما نعلمه أن اولوس جابينوس حاكم سوريا الروماني أعاد بناء مدينة غزة في ٥٧ ق.م بعد أن دمرها الحشمونيون، وربما غير مكانها القديم، فأبعدها عن الشاطئ لسبب ما، مع أنها ظلت في العهد الروماني مدينة ميناء هامة، ليس كنافذة للبضائع الفلسطينية والاسيوية الى اوروبا الرومانية فحسب، بل كنافذة للحجيج المسيحي الذي بدأ يتدفق على غزة في القرون التالية بعد اعتناق قسطنطين الاكبر للديانة الجديدة ومساهمته مع أمه هيلينا في إعادة انتاج الطرف الشرقي من امبراطوريته كأرض مقدسة.
اذا ما هو سياق العلاقة المتوترة بين غزة والبحر؟ البعض يرى الامر من منظور موروثات ثقافية عميقة ومتجذرة حكمت علاقة سكان جنوب فلسطين، الفلاحون منهم على وجه الخصوص، مع البحر، بدون شرح كاف لابعاد هذه العلاقة، وهذه طريقة اخرى ليقول عالم الاجتماع: لقد لاحظت الظاهرة ولكني لا أملك لها تفسيرا! يتبرك اهل جنوب فلسطين بمياة البحر، وفي عيد اربعاء ايوب تذهب النساء الى الشاطئ وتطلب من النبي أيوب أن يباركهن بالحمل والزواج، جدتي رحمها الله قالت لي ذات مرة أن أمها أخذتها وهي بعمر الرابعة عشرة الى البحر في هذا العيد، واجلستها على الشاطئ عند حافة انكسار الموج، وطلبت منها ترديد اهازيج تدعو فيها لنيل بركة الزواج. لا يتقن أهل غزة السباحة، قد تبدو هذه مبالغة بعض الشيء، لكن بمعايير مدينة شاطئية يعتبر البحر متنزه أهلها الاول، وربما الأخير، فإن نسبة من يتقنون السباحة من اهل غزة تعد قليلة، هذه مشاهدة شخصية لاحظتها على مدار سنوات طويلة، من ضمن كل لائحة أصدقائي التي كونتها منذ المدرسة الابتدائية حتى الان لم أعرف أحدا يتقن السباحة سوى اثنين فقط، وأعرف أناسا يهابون البحر ويخافون الاقتراب منه. في القرون الاخيرة من تاريخ المدينة كان مرفأ غزة صغيرا على الدوام، لا يمتد كثيرا في البحر، ولا يستقبل سفن شحن بحري او سفنا عسكرية ولكن مخصص بالكامل للصيادين، عندما حكم حسين باشا آل رضوان توسعت تجارة المدينة الخارجية بشكل كبير، وقد أرسى الباشا علاقات موسعة مع عدد من التجار الأجانب وموظفي السفارات والقنصليات الاجنبية في الامبراطورية العثمانية، إلى الحد الذي أثار حوله الشبهات إذ ظنت الحكومة العثمانية أنه يحشد دعما سياسيا دوليا لاعلان التمرد، في تلك الايام كان حسين باشا يصدر بضائعه الى أوروبا عبر ميناء يافا، حيث كانت تنقل هناك أما برا أو عبر مراكب صيد صغيرة تتنقل بين ميناء يافا ومرفأ غزة الصغير، أو على الأقل، ترسو السفينة في عرض البحر قبالة غزة وتنقل البضائع إليها عبر مراكب الصيد أيضا.

جزء من لسان مرفأ (ميناء غزة) المعروفة باسم (ميناء الصيادين). الصورة من تصويري في ٢٠٢١.
مع دخول القرن التاسع عشر وابتداء عصر التنظيمات، وقبلها سيطرة محمد علي باشا على سوريا لمدة تسعة سنوات (١٨٣١ - ١٨٤٠)، انفتحت فلسطين على عصر جديد للتجارة الدولية، شهد تغيرات عديدة بسبب التطورات التكنولوجية التي طرأت على قطاع النقل والشحن، البري والبحري معا، سُحب البساط من تحت اقدام مدن شكلت لفترة طويلة مراكز تجارية هامة، وانتقلت هذه المهمة الى مدن أخرى، أوضح مثال على ذلك كان التبادل الذي تم بين كل من عكا وحيفا، حيث كانت عكا في الفترة ما بين ١٧٤٠ - ١٨٢٠ ، ميناء طبيعيا ومدينة عامرة ومحطة لسوق دولي استطاع دفع الانتاج الزراعي في شمال فلسطين ناحية التخصص نسبيا في المحاصيل التجارية مثل القطن والقمح، الا ان ميناء عكا الضيق ضاق في النهاية عن الاستجابة لمتطلبات السوق الدولي التي فرضتها زيادة الطلب على المواد الخام وتسارع الانتاج الصناعي والزراعي على السواء، وتوجهت الانظار ناحية حيفا التي كانت حتى النصف الاول من القرن الثامن عشر ميناء قراصنة وقرية صيادين، الا انها اصبحت لاحقا وجهة تجارية دولية استمرت بالنمو حتى هذه اللحظة (حتى أصبحت أحلى من برلين)، طرأ ذات التحول على يافا، وتحولت بدورها الى مركز تجاري متخصص في تصدير المحاصيل التجارية، وأصبحت تعرف بيافا البرتقال، أو كما يحب أهل الاكليشيهات الوطنية وصفها: أرض البرتقال الحزين، في ذلك الوقت كان جزء لا بأس به من برتقال يافا يصلها من حقول وبيارات غزة، هل تذوقتم يوما برتقال غزة؟ لا؟ عادي يعني .. لم يضع عليكم شيء كثير، ولم يضع على أحد شيء إن لم يتذوق برتقال يافا أيضا. لقد ظلت تجارة البرتقال الغزاوي مزدهرة حتى بعد النكبة، وانحسرت بشكل قاس بعد احتلال غزة في ١٩٦٧، إذ اجتذبت إسرائيل عمالة السوق الزراعي في غزة للعمل داخل الخط الأخضر.
كانت حرب ٦٧ فاتحة لما عرف لاحقا بسياسة الجسور المفتوحة، كثير من العائلات ممن فرقتهم النكبة وأبعدتهم عن أرضهم اجتمعت لاحقا بعد النكسة، وأصبح متاحا لجميع الفلسطينيين التجول بحرية والانتقال بقليل من القيود بين الضفة وغزة والخط الأخضر، كان ابي وقتها طالبا في المدرسة الاعدادية، وقد بدأ يعمل خلال الاجازة الصيفية ليساعد في اعالة عائلته، عمل وقتها بائعا للقرطاسية، وكان يذهب كل يوم من مخيم جباليا الى ش. فهمي بك الحسيني في وسط غزة مشيا على الاقدام حاملا بضاعته في فرش خشبي معلق في رقبته باحثا عن "الزبائن اليهود" .. وهم إسرائيليون يأتون إلى غزة للتسوق من أجل الاستفادة من الفارق المهول في الاسعار، فهي جزء ضئيل من الاسعار داخل الخط الاخضر، أما أبي فكان يستهدفهم بالذات لأنهم يستطيع أن يبيعهم بضاعته بأسعار أعلى بكثير مما كان يبيع للغزيين! لا تعارض بين الجملتين. أيضا كانت هذه المرة الاولى التي يحتك فيها أبي أيضا ببعض الاسرائيليين العرب (المعروفون أيضا بمسميات أخرى، فلسطينيو الداخل، عرب ٤٨ ... الخ)، والمرة الأولى التي ينمو الى مداركه حقيقة وجود تجمعات سكانية أخرى تنتمي هوياتيا الى ذات الشعب الفلسطيني الذي ينتمي إليه، كان أبي يعلم أن له أخوالا في جنين، لاجئون مهجرون من قرية النعاني القريبة من الرملة، لكنه لم يل��ق بهم أو يحادثهم ولم يعرف عنهم شيئا حتى وفاته!
لقد سفك الكثير من الحبر خلال العقود الماضية في بحث أمر الهوية الفلسطينية، فالنقاشات حول شرعية وجود إسرائيل تتمحور حول انتفاء الهوية الفلسطينية على الرغم من الاعتراف بـ (او عدم القدرة على انكار) وجود الفلسطينيين، فهم أشخاص، عشوائيون، يشكلون مجموعات بشرية متناثرة، لا علاقة حقيقية بينها، حدث وأن تواجدوا هنا في ذات الوقت الذي استعجل فيه بعض اليهود وعد الرب بإعادة تأسيس إسرائيل، أي أن هناك فلسطينيون، صحيح، لكن ليس هناك شعب فلسطيني، وبالنسبة للشعب الفلسطيني، ممثلا بحركة فتح وإعلامها وأكاديمييها، فقد قاد الخطاب المضاد عبر تأكيدات تتفاوت في درجة حدتها على وجود هوية واحدة شكلت بوتقة جامعة للمجموع السكاني الموجود داخل حدود الخريطة الاستعمارية، التي تتطابق بحسب كثير من النصوص التاريخية مع فلسطين الحقيقية، التاريخية، وأن شعب فلسطين الحالي تعود جذوره إلى شعوب كنعان والفلسط الذين يملكون أصولا أقدم وأكثر تجذرا من التاريخ العبري المزيف. لأجل ذلك: كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين، وبكرة ان شاء الله رح يظل اسمها فلسطين، وحبة فوق .. وحبة تحت. هل تعلم أن محمود درويش هو أعظم شاعر للعربية منذ المتنبي؟ ليس هذا كلامي، بل هو كلام استاذ للعلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، قاله أثناء سيمينار عقد في الجنة من أجل تقديم دراسة لمجموعة من الملائكة عن الحياة الثقافية لاهل الأرض، وفي ذات اللحظة التي قال فيها مقولته، كان المتنبي قد دخل الى قاعة السيمينار، وكان الرجل قد خرج لتوه من الجحيم بعد أن طهر من ذنوبه، فعاد أدراجه الى النار وقال لمالك:
أعدني إلى ابي نواس فرفقته
من جيرة الخولات أعلى وأشرف
وبينما مالك يرافقه إلى ركن العربدة الخاص بأبي نواس ويزيد بن معاوية وفريدي ميركوري والكلاميديا سمع صوتا يناديه من بعيد، فإذا به محمود درويش يرتدي بزة بنية اللون ويقف خلف منصة بينما يحمل في يده كأسا من عرق الينسون ويلوح له بيده الاخرى مبتسما ويقول: مش قلتلك أنهم خولات؟ فيلوح له المتنبي بإصبعه الأوسط وهو يقول: شكرا قطر.
لاحقا ظهرت أصوات تحاول صياغة وجهة نظر لا تقع في فخ رد الفعل الشعبوي، فهي تعطي الاعتبار لطبيعة المجتمع الطبقية والقبلية في فلسطين العثمانية والمرجعيات التي اعتمد عليها الفلسطينيون عندما مارسوا السياسة والسياقات التي مارسوها فيها، بالاضافة الى الدور السلبي للانتداب البريطاني، لكن بالنهاية فإن النكبة قد حسمت الأمر عندما أصبحت عند حدوثها العامل المشترك بين جميع الفلسطينيين والمكون الاساسي في وعيهم الجمعي لهوية فلسطينية مشتركة. المشكلة في وجهة النظر هذه على الرغم من وجاهتها ليس ما تقوله ولكن ما تسكت عنه، صحيح أن النكبة حدث اشترك جميع الفلسطينيين في التأثر به وبتبعاته، إلا أنه لم يؤثر عليهم جميعا بنفس الدرجة ولا بنفس الطريقة! لا في ١٩٤٨ ولا الان! لقد انقسمت المجموعة السكانية العربية الفلسطينية التي كانت تقطن في فلسطين قبل النكبة الى مجموعات متعددة، وانفصلت كل واحدة منها عن الاخرى، وتطورت كل منها اجتماعيا وسياسيا بشكل منفصل عن البقية، وصحيح ان بالامكان تتبع ودراسة هذه التغيرات والتطورات باستخدام حدث النكبة كإطار مرجعي، الا ان كل مجموعة سكانية جديدة انتجتها النكبة قد وُضعت على مسار تطوري مختلف ومغاير عن ذاك الذي وضعت عليه المجموعات الأخرى، لقد أثرت النكبة علينا جميعا، صحيح، ولكن تأثيرها انتج علاقة مختلفة لكل منا مع فلسطين واسرائيل والنكبة ذاتها، واليوم بعد مضي ٧٧ عام على النكبة كحدث، ما الذي يمكن أن نجده كعوامل مشتركة بين هذه المجموعات السكانية مقارنة بما كان يتوافر اصلا قبل حدوث النكبة من الاصل؟ المقلوبة؟ بزهرة ولا من غير زهرة طيب؟

قدر مقلوبة في المسجد الأقصى قبل وقت الافطار خلال شهر رمضان (مارس ٢٠٢٥) بعد ايام من اغلاق المعابر بشكل شبه نهائي في غزة وبداية الموجة المستمرة حتى اللحظة من عملية التجويع الممنهجة في غزة.
ستة رجال، واحد منهم هاجر من سحماتا الى صيدا، واخر هاجر من صفد الى دمشق، واخر هاجر من جورة عسقلان الى غزة، واخر من نابلس ولد فيها ولم يهاجر منها، واخر من غزة ولد فيها ولم يهاجر منها، واخر من الناصرة ولد فيها ولم يهاجر منها، جميعهم انخرط في العملية السياسية الفلسطينية التي انتجها الفلسطينيون كمحاولة للرد على النكبة، هل تستطيع أن تقول ان ذاك الذي اصبح وزيرا في الحكومة الاردنية، وذاك الذي اصبح رئيسا للسلطة ومندوبا للاحتلال في الضفة، وذاك الذي ورث رئاسة بلدية غزة وعمل مندوبا للاحتلال في غزة بعد النكسة بعد ان كانت عائلته عملاء للانتداب قبل النكبة، وذاك الذي أصبح عضوا في الكنيست ممثلا لحزب مباي، يتساوون جميعا، ويشتركون في ذات الهوية، وينتمون جميعا الى ذات الشعب الذي ينتمي إليه ذاك الذي استشهد في قصف همجي على عين الحلوة في ١٩٨٢ او ذاك الذي استشهد بقصف لطائرات الاباتشي على كرسيه المتحرك خلال الانتفاضة الثانية؟
عندما أنهى أبي الثانوية العامة، قرر أن يذهب للدراسة في مصر، وقتها كان متاحا، بقرار من عبد الناصر، للطلبة الغزيين ان يدرسوا في الجامعات الحكومية المصرية وان يعاملوا معاملة الطلبة المصريين لا الطلبة الاجانب، لكن بعد النكسة كان التنسيق لعملية القبول والتسجيل للطلبة الغزيين (الذين كانت تشرف على امتحاناتهم دائرة التعليم والمعارف التابعة لاسرائيل) في الجامعات المصرية يستغرق سنة دراسية كاملة، وقرر أبي، يتيما وفقيرا ومعدما وغير قادر على تحمل كلفة الحياة في مصر بدون أهل يدعمونه ماديا، أن يعثر خلال هذه السنة على عمل في إسرائيل، وهناك تنقل بين عدة وظائف في القطاع الخدمي الى ان عثر على وظيفة في مطعم، لم يكن العمل سهلا ولم يكن مجزيا ولكن على الاقل كان يأكل اللحم في بعض الأيام خلال استراحة الغداء عوضا عن الشمينت، وقد كانت هذه ثاني مرة يحتك ابي بالاسرائيليين العرب، أولهم كان موظفا طرده صاحب المطعم بعد أن وظف أبي لأن أبي كان يتقاضى أجرا أقل ويبذل ضعف المجهود، وآخرون كانوا من سكان يافا العرب، احدهم كان زبونا دائما في المطعم يصر دوما على مخاطبة أبي بالعبرية حتى بعد ان عرف انه من غزة.
أمي أنهت الثانوية العامة مع أبي في ذات السنة، وفورا انتقلت للدراسة في معهد المعلمات التابع لوكالة الغوث (أونروا) في رام الله، وكما جميع المؤسسات التعليمية التابعة للوكالة، كان جميع المستفيدين من خدمات المعهد طالبات لاجئات، أي ممن تحمل عائلاتهم "كرت التموين"، درست أمي في المعهد لمدة سنتين، وعرفت خلالها عشرات الزميلات، ولم تكون سوى صداقتين فقط، واحدة منهن مع شابة من خانيونس والاخرى مع شابة من الخليل، أذكر أنني سألت أمي وقتها عن السبب الذي جعلها تكتفي بهذا العدد القليل من الاصدقاء، فقالت لي: مكاننش يرضن! بدك بنت رام الله تصاحبني أنا الغزاوية؟ ولم أفهم السبب وراء هذه العنصرية، هل كان مخيم الأمعري وقتها حيا راقيا ونساءه مثل السيدات اللاتي أشاهدهن في مسلسل هوانم جاردن سيتي؟ من وين يا حسرة؟
لا اعلم ما السبب، لكن في سياق فلسطين يتفق الجميع على نظرة استعلائية تجاه غزة، لم أحاول من قبل أن أفهم سببها، أعرف أن اتفاق الغالبية على الانتقاص من أقلية قد يكون مرده سببا من اثنين، الاول أن يكون الاغلبية لديهم مبررات حقيقية لهذا الانتقاص، بصرف النظر عما اذا كان منطقيا استخدام هذه المبررات للتعميم، والثاني أن يكون الاغلبية اولاد وسخة! وخذ بالاعتبار إمكانية توافر السببين معا كذلك، عن نفسي لا اعترض على التعميم في سياقات محددة، من يقرأ كلامي لحد الان سيكتشف ذلك بسهولة، لكن لا اجد اي سياقات مفهومة يمكن أن ينشأ منها هكذا نظرة تجاه أهل غزة! ولا حتى أفعال فردية متواترة يمكن أن ينشأ عنها صور نمطية. خاصة وأن احتكاك أهل هذه البلاد ببعضهم البعض محدود منذ النكبة أصلا، فإن كانت هذه النظرة المشتركة عند غالبية الفلسطينيين تجاه غزة قديمة وسابقة على النكبة، فستكون مرتبطة بسياقات اقتصادية وسياسية، فحتى نهاية الانتداب كانت غزة المدينة الساحلية الوحيدة بدون ميناء، وهي المدينة الوحيدة التي تأكل مما تزرع لا مما يزرعه الپروفنس المحيط فيها، على الرغم من أن عشرات القرى تحيط بغزة وتعتمد بشكل اساسي على الزراعة كنشاط اقتصادي، الا ان غزة ذاتها تحيط بها مساحات زراعية كبيرة، تشكل جزء من المدينة نفسها ولا تتبع اداريا لقرى محيطة ولا تشكل جزءا من "غوطة" تحيط بالمدينة وتشكل عمقا جغرافيا لها، أحد أكبر أحياء المدينة التاريخية يدعى "حي الزيتون" وحي آخر يُدعى "حي التفاح" .. أي أن غزة، ببساطة، كانت تعتبر "مدينة فلاحين". خلال الهزيع الأخير من تاريخ السلطنة العثمانية، كانت غزة آخر مدينة تنشأ فيها بلدية في فلسطين كما أنها آخر المدن كذلك استجابة للتحديثات الصناعية التي استحثتها التنظيمات العثمانية وما تبعها من تدخلات اقتصادية أجنبية، ومن المثير للسخرية أن كثيرا من هذه الامتيازات شاركت قوى استعمارية في تهيئة الظروف لظهورها في فلسطين، أي أنها لم تكن نتاجا صرفا لحراكات اقتصادية او سياسية او اجتماعية داخلية اختصت بها مدن في فلسطين دونا عن مدن أخرى. على الأقل؛ عندما نشأ حي جديد في غزة في تلك الفترة، لم يكن هذا الحي مستوطنة، سواء ألمانية أو يهودية، بل كان حيا عربيا منذ البداية.
ولكن ماذا إن لم تكن هذه التصورات النمطية عن غزة والنظرة الاستعلائية تجاهها شيء قديم؟ ماذا لو كانت وليدة مرحلة ما بعد النكبة؟ إن صورة غزة الوحيدة التي ستتشكل عند المجموع الفلسطيني، في هذه الحالة، ستكون تلك التي ستتشكل بناء على علاقة غزة مع الاحتلال وطريقة تقاعلها معه، وعلاقة الاحتلال مع غزة وقدر ما يفرضه عليها من قمع مقارنة بالباقي من تجمعات الفلسطينيين داخل فلسطين او خارجها! وهل يعني ذلك أن غزة كانت تملك امتيازا لدى الاحتلال؟ أنها كانت تهادنه، تسالمه، تخضع له؟ وأنها لذلك كانت الأقل تعرضا للقمع منه؟ في واقع الأمر فإن العكس هو الصحيح!
لقد حملت غزة بعد النكبة النصيب الأكبر من الحمل الثوري، واستجابت بسرعة أكبر للحدث، وكانت أكثر نجاعة في تجاوز هوله والتحول إلى الفعل المضاد، إن غزة هي من أصدرت الرعيل الأول من القيادة السياسة والعسكرية للعمل السياسي الفلسطيني بعد النكبة، فمنها خرج قادة فتح والجيهة الشعبية الأوائل، وفيها تأسست حركتا حماس والجهاد الإسلامي قبل أن تنتشر كلاهما إلى الضفة، وكذلك فصائل أخرى مثل لجان المقاومة الشعبية وحركة المجاهدين التي لم توسع نشاطها إلى الضفة على الإطلاق، وفيها نُفذت العمليات العسكرية الأشد قسوة ضد الاحتلال بعد النكبة وبعد بداية العمل الفدائي المسلح، وهي من تعرضت للدرجة الأعلى من القمع الانتقامي الممنهج، وفيها كان عسكر الجيش يختبر دوما جديد الأسلحة وتكتيكات الردع. وأعتقد أن حراك غزة الثوري الأقوى والأكثر تقدما وتطورا كان السبب في إلهام الجيش والمخابرات لابتكار سياسات القمع المتفاوتة واستخدام مناطق العمل المضاد للاحتلال كأمثلة لبعضها البعض! أقصد أن غزة دوما كانت فزاعة للضفة الغربية مثلما كان كلا المكانين عصا مشرعة في وجه الإسرائيليين العرب جاهزة للضرب في أي لحظة يفكرون فيها بتوليه وجوههم عن الجزرة.
لا يفسر أي من الخيارين لوحده الأمر، لكنهما يتفاعلان سوية بدون شك، تمثل قيادة غزة للعمل الثوري ضد اسرائيل مشكلة عند المجموع الفلسطيني، فمن جانب، يعني ذلك أن غزة هي التي تتصدر واجهة الممارسة السياسية، ومن جانب آخر يعني أنها تختار تحديد استراتيجية هذه السياسة وتكتيكاتها وأدواتها، وبالنسبة للمجموع الفلسطيني، الذي لا يؤمن بالمقاومة "المكلفة"، فإنه يجد نفسه أمام معضلة كبيرة، فمن جهة لا يستطيع أن يترك غزة في الميدان لوحدها فيوصم بأنه قد تخلف عنها، وفي ذات الوقت لا يريد ان يدفع ذات الثمن الذي تدفعه غزة عندما تتبنى اشكالا متطرفة للعمل الثوري.
في عام ١٩٨٧ اندلعت الانتفاضة الاولى، وقد استثارت ردا اسرائيليا عنيفا ودمويا، حاولت اسرائيل صياغته على شكل تحرك عسكري منخفض الكثافة، واستخدمت خلالها الكثير من أدوات القمع والتحكم والسيطرة التي أتقنتها خلال فترة السبعينات والثمانينات، وخرحت فلسطين من الانتفاضة بخسارة مثقلة تمثلت باتفاقية أوسلو التي دشنت هزيمة حقيقية رمى فيها ياسر عرفات وحركة فتح عذابات وتضحيات شعب كامل في بالوعة مجاري، خلال هذه الانتفاضة ظلت القوى الاسرائيلية العربية في حالة من الحياد، كانت جماهير الشمينت تحاول النجاة من جنون العنف الذي غلف الضفة وقطاع غزة، لقد ظنوا أنهم بدفن رؤوسهم في الأرض فإنهم سيحمونها من القطع! الغريب في الأمر أنهم كانوا على حق.
اذكر أني قرأت مرة لعميد صعابنة قوله بما معناه أن انفتاح الاقتصاد في إسرائيل في التسعينات واستغنائها عن نموذج دولة الرفاه عاد بالنفع على الاسرائيليين العرب، اتاح لهم فرصة للخروج من حالة الفقر ومراكمة رأسمال اقتصادي ساعدهم على تشكيل "طبقة وسطى عربية" داخل إسرائيل، وقد حدث ذلك في ذات الفترة التي كانت الانتفاضة الاولى تصل إلى نهايتها، وهو ما أعطى شعورا عاما لدى الاسرائيليين العرب بأنهم حازوا على جائزة الطالب المثالي في الفصل من اكثر الاساتذة عنفا في المدرسة.
أما في الضفة الغربية وغزة، فقد ساعدت أوسلو على تشكيل طبقة رأسمالية جديدة، وأقصد رأسمالية أخرى غير التي استوردتها من الخليج وأمريكا (منيب المصري وحسيب صباغ ومن لف لفيفهم)، فقد فتحت الاتفاقية سوق الاستيراد، كما أنها عززت ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاسرائيلي، وقد عاد انفتاح الاقتصاد في اسرائيل أيضا بالنفع على طبقة محددة من المهنيين والصناع في غزة والضفة، فقد ارتفعت اجور "عمال اسرائيل" بشكل كبير، وتحولوا بذاتهم إلى طبقة جديدة داخل المجتمع، وصار متاحا لهم العمل داخل مجالات أخرى في اسرائيل بخلاف قطاعي الانشاءات والخدمات، وأصبح بعضهم مقاولين يصنعون دخولا تصل الى ٧٠ ألف دولار سنويا، أما الانتفاضة نفسها فقد تراجعت بشكل كبير لأن محركات العمل الشعبي كانت تدار من الخارج بواسطة ذات الجهة التي أدارت مفاوضات الاستسلام التي أوصلتنا إلى أوسلو، وعاد مقاتلوا بيروت ٨٢ الى غزة ورام الله حراسا للاحتلال، ضباطا برتب عالية وكروش منتفخة بدافعون عن أمن إسرائيل بسلاحهم ذاته الذي هربوا من بيروت وهم يحملونه بفخر .. كانت الدنيا حلوة واحلى سنين وحنعيشها واحنا يا ناس عاشقين، لكن كان هناك مشكلة.
قلت مرة لواحد من أصدقائي أن إسرائيل عدو أهوج وغبي لا تدرك من أين تؤكل الكتف، مجموعة سكانية ضخمة مصابة بعقد نقص حادة ومثقلة بتاريخ آلاف السنين من المذلة التي يحاولون التعويض عنها بسلوك انتقامي أهوج موجه ضد الفلسطينيين، ليس هذا دقيق بالضرورة، اعتقد أن مشكلة إسرائيل ليست في أنها لا تعرف كيف تسالم أعدائها وتحتويهم، فالسلام والاحتواء هذا يتطلب في جزء منه تحقيق شيء قليل من العدالة لهؤلاء الاعداء، وتحقيق هذه العدالة، ولو في حدها الادنى سيعني حدوث العكس، اي احتواء اعداء اسرائيل لها، وتحييدها، وهو ما يفقدها معناها والمغزى من وجودها، هذا كلام يُقال منذ زمن ولا زال: اسرائيل كيان استيطاني احلالي، أُوجدت في مكانها الذي هي فيه تلبية لمصلحة قوى استعمارية، ولا يعرف هذا الكيان كيف يؤدي هذه المهمة بطريقة أخرى سوى البقاء على تناقض تام وعداء مستمر للمحيط الذي زُرع فيه، بالنسبة لإسرائيل فإن الطريقة الوحيدة التي تصل فيها الى الى نهاية للصراع هي باستسلام اعدائها.

صورة جوية لمنتزه وحديقة الجندي المجهول وشارع عمر المختار (غرب غزة) - حي الرمال الجنوبي. وُضع حجر الأساس لهذا الحي في ١٩٢٨ في فترة ولاية أول مجلس بلدي منتخب للمدينة في عهد الانتداب البريطاني، حيث قامت البلدية بناء على توجيهات رئيسها فهمي بك الحسيني بتخطيط الحي وبناء خزان للمياه ورسم الشوارع وتقسيم أراضي المنطقة إلى قطع تبلغ مساحتها ما بين ٣٠٠ م² إلى ثلاثة دونمات، وقد بيعت القطعة بمبلغ أربعة جنيهات، بحيث يدفع المشتري جنيه واحد مقدم ويقسط الباقي على دفعات يمكن أن تمتد لحد عشرين عام، وقد استفاد من هذه العروض غالبا موظفو البلدية أنفسهم بالإضافة إلى الموظفين الحكوميين.
لكن غزة لا تستسلم! في ١٩٩٣ تعرض العمل الثوري في فلسطين لضربة موجعة، وكان أول صدام بين المقاومة والسلطة الجديدة هو أحداث مسجد فلسطين، والتي راح ��حيتها حوالي ١٤ مشيعا في جنازة لأربعة شهداء قتلتهم اسرائيل، حاولت الجنازة الخروج من مسجد فلسطين ولكنها تعرضت لحصار من قوى امن اوسلو، كانت هذه الحادثة بمثابة موقف معلن من المقاومة الاسلامية ضد اوسلو وضد فكرة السلام مع اسرائيل، واستمر العمل العسكري والشعبي ضد إسرائيل في حالة حرب منخفضة الكثافة تعد استمرارا للتطور العسكري الذي وصلت اليه الانتفاضة في سنواتها الاخيرة، لم تكن السنوات ١٩٩٤ - ٩٩ سنوات سلام ووئام، لقد نفذت المقاومة خلالها أشرس العمليات الاستشهادية، يطيب للكثيرين النظر الى الانتفاضتين باعتبارهما حقبتين منفصلتين بينهما قاطع واضح، الا ان الحالة الثورية من قبل الانتفاضة الى حد ٢٠٠٥ مستمرة، ربما مرت بحالات فتور وانتعاش وربنا انتكاسات ولكنها استمرت وفي كثير من الاوقات تطورت كذلك نحو المزيد من العنف. وقد كانت الاحداث التي تلت اقتحام ارئيل شارون للمسجد الاقصى في سبتمبر ٢٠٠٠ انتعاشة للعمل الثوري، ساهم في تعزيزها زخم الحدث ومحاولة السلطة وحركة فتح استغلال الأحداث من اجل القيام بضغط على حكومة ايهود باراك في سبيل تحقيق مكاسب سياسية داخل فلك اوسلو وما بعدها، مكاسب ظن ياسر عرفات أن المجتمع الدولي قادر على ضمان التزام اسرائيل بتقديمها، أجل، لقد رعت السلطة الانتفاضة، وتوقفت عن قمع المقاومين، وانتهجت سياسة أكثر تساهلا مع العمل المسلح وأسست كتائب شهداء الأقصى التي نفذت عمليات نوعية شد الاحتلال، وقد تعرضت أجهزة أمن اوسلو ومؤسساتها على اثر هذه المساهمة لعملية تدمير ممنهجة، ولا زلت أذكر الى اليوم حملات القصف العنيف التي شنتها طائرات F16 على مقار الأمن في قطاع غزة، إلا أن مشاركة السلطة وفتح في الانتفاضة كانت تكتيكية وليست استراتيجية، ولم تكن انقلابا على اوسلو. والواقع أن ياسر عرفات لم يتمكن من حمل جميع مكونات السلطة وحركة فتح على الالتزام بخطته الجديدة، لقد ترك الرجل كثيرا من ضباطه يلعقون حذاء إسرائيل لفترة طويلة لدرجة أفقدته السيطرة عليهم، يُروى عن ياسر عرفات أنه رد مرة على سؤال حول العدد الكبير من الفاسدين الذين يحيط نفسه بهم، فقال: هؤلاء هم الاحذية التي سأعبر بها مستنقع الوحل. لقد غرق الرجل في الوحل.
بالإضافة إلى ما سبق، يمكن الإشارة إلى أن "الإجازة" التي منحها ياسر عرفات للتنظيمات المسلحة خلال فترة الانتفاضة الثانية من القمع والملاحقة، قد تضمنت افتراضا منه بقدرته على فرض سيطرته عليهم، والتحكم في درجة العنف الذي يوجهونه ضد إسرائيل بحيث لا يتجاوز حدود ما سيتمكن من توظيفه وتحويله الى مكتسب سياسي، كما قلت قبل قليل، لقد غرق في الوحل.
في نهاية الامر، ألقت إسرائيل بأوسلو خلف ظهرها، ولم تعد تعطي مسرحية "عملية السلام" أي اهتمام، وبعد رحيل ياسر عرفات عن المشهد، تبقى في الصورة مجموعة من رجالات السلطة وضعوا رهانهم منذ اليوم الأول بعد أوسلو على إسرائيل، وفهموا بوضوح موقعهم الحقيقي في العملية السياسية التي انتجتها، وان احتفاظهم بمواقعهم منوط بتأديتهم لدور وظيفي محدد، لا يمكن أن يحيدوا عنه، وكلما نظر أحدهم خلف كتفه، يرى عشرات من أقرانه مستعدون لشغل موقعه بكل بساطة في حال سخط عليه الباب العالي التل-أبيبي ..
في خضم ذلك، كانت المقاومة تتقدم باستمرار، وردود الفعل ضدها كما قلنا كانت قد خرجت عن إطار أوسلو المسرحي، وخلال السنوات ٢٠٠٢ - ٢٠٠٥ قام ارئيل شارون رئيس وزراء اسرائيل باتخاذ عدة خطوات في الضفة وغزة بهدف إنهاء حالة الحرب منخفضة الكثافة المستمرة التي أرهقت إسرائيل وشكلت تهديدا مستمرا لأمنها. في عام ٢٠٠٥ قرر شارون تنفيذ خطة انسحاب أحادي الجانب وفك الارتباط، شملت الخطة إخلاء للمستوطنات وانسحابا من المواقع العسكرية في محافظات قطاع غزة وجنين، لقد أثارت خطة ارئيل شارون عاصفة من الانتقادات داخل إسرائيل لأنها عنت تراجعا عن عقيدة الضم والتوسع الاستعمارية، وكان ضربة قاسية لليمين أن تصدر تلك الخطة عن أرئيل شارون الذي يتزعم حزب الليكود اليميني، على الأقل، عندما انسحبت إسرائيل من لبنان في ٢٠٠٠ كان الانسحاب قد تم على يد رئيس وزراء عمالي هو إيهود باراك. لقد لاقت خطة شارون اعتراضات جمة حتى داخل الليكود نفسه، فلم يكن من شارون إلا أن انسحب من الليكود وأسس حزبا جديدا سماه كاديما (= إلى الامام بالعبرية)، وأعاد موضعة نفسه داخل الخريطة السياسية في إسرائيل وفاز بالانتخابات ونفذ خطته بنجاح.
لقد كانت معادلة شارون بسيطة، العبء الذي يمثله الوجود العسكري والاستيطاني في غزة أكبر بكثير من الفائدة المرجوة منه، لذلك لا بد من التخلص منه، يرتبط العمل العسكري خلال الانتفاضة الثانية في أذهان الكثيرين بالعمليات الاستشهادية التي نُفذت انطلاقا من الضفة الغربية، تلك العمليات التي تضاءلت بالتدريج حتى انتهت الآن بشكل كامل، إذ لم تنفذ أي عملية تفجيرية داخل إسرائيل انطلاقا من الضفة الغربية منذ سنين طوال، وذلك على اثر خطوات متعددة نفذها الجيش، بدأت بعملية السور الواقي في ٢٠٠٢ ومن ثم بناء الجدار العازل، بالاضافة الى اعادة تأهيل أجهزة أمن سلطة أوسلو العميلة بعد عام ٢٠٠٧ والتي عملت وقتها بصراحة في حراسة المستوطنات وتفكيك ما تبقى من شبكات المقاومة واعتقال الفدائيين والمطاردين لصالح إسرائيل. لقد فرضت ظروف الميدان على كل من ساحتي الضفة الغربية وقطاع غزة العمل بأدوات مختلفة، ولكن العمل فيهما كان تبعا لقرار سياسي موحد، لكن مع الاخذ بالاعتبار ان الادوات التي استخدمتها المقاومة في غزة كانت اكثر راديكالية وابداعا في ذات الوقت! وذلك لأن الساحة الميدانية أضيق، ومساحة الاحتكاك بالجنود والمستوطنين أقل، والقدرة على النفاذ الى قلب المستعمرة الاسرائيلية شبه معدومة، وأيضا، وهو الأهم: فقد كانت القوة الاسرائ��لية في غزة أشرس وأغشم، لم يكن خيار "الباصات ذات السقوف الطائرة" متاحا امام مقاومي غزة، رغم أنه أكثر إغراء، فقام جنود المقاومة في غزة باقتحام المواقع العسكرية والحواجز والمستوطنات والمعابر وحفروا الانفاق وفجروها أو اقتحموا المواقع العسكرية من خلالها، لقد قدمت اسرائيل في ١٩٩٠ دبابة ميركافا مارك 3 كأقوى مدرعة في التاريخ قادرة على التصدي لأي مضاد دروع أو عبوة ناسفة، فقامت غزة بتحويلها الى أشلاء، كان الشهيد جمال أبو سمهدانة يحب طبخ ال TNT في براميل المندي عوضا عن الضأن والدجاج. وعندما أغلقت أبواب المستوطنات وأسوارها العالية في وجه الشباب، وعندما خلت المواقع العسكرية المتقدمة من الجنود، كان شباب غزة قد ابتكروا المقذوفات المحلية الصنع لأول مرة، فصنعوا مدافع الهاون أولا ثم الصواريخ قصيرة المدى التي كانت دافعا لاستثمار اسرائيل مليارات الدولارات من أجل تطوير القبة الحديدية، لقد نفذت قوات الاحتلال في ٢٠٠٤ عملية قوس قزح في حي تل السلطان في رفح الملاصق لرفح المصرية، فهدم الجيش حوالي ١٢٠ بيتا وقتل ٥٩ مواطنا وذلك ردا على استهداف مركبة عسكرية في رفح، هل تتذكر عملية قوس قزح؟ لا؟ هل تتذكر مذبحة جنين؟ لقد استشهد في مخيم جنين ٥٨ فلسطينيا وهدم حوالي ١٤٠ منزل بشكل كامل، عندما نزحنا الى رفح في فبراير ٢٠٢٤ هربا من الموت في خانيونس، كانت آثار عدوان الاحتلال على المباني السكنية في حي تل السلطان الذي تم في ٢٠٠٤ لا تزال ماثلة أمامنا، آثار إطلاق النار والقذائف المدفعية من الدبابات على جدران مباني وعمارات الإسكان الأحمر كانت لا تزال واضحة وشاهدة على حالها منذ ٢٠ سنة!
كانت فكرة شارون هي بالتراجع الى ما وراء جدار حصين لمنع الاحتكاك المباشر بالغزيين، كان يعلم ان النظام الحاكم في مصر سيبقى على موقفه من غزة أيا كان سواء كانت اسرائيل داخل حدودها أم خارجها، واذا ما خرجت القوات الإسرائيلية من غزة وتراجعت الى خلف حدود الخط الأخضر مع الاحتفاظ بمنطقة عازلة، سيعني ذلك أن مقاومي غزة لن يجدوا ما يحاربونه سوى طواحين الهواء، لقد قاد بنيامين نتنياهو المعارضة الاشد للانسحاب في حزب الليكود، ومن بين اقتراحاته على شارون يومها أن يبقي على الأقل على احتلال محور فيلاديلفي من أجل منع تهريب السلاح وفرض رقابة لصيقة على المقاومين وإتاحة المجال للتدخل البري داخل قطاع غزة عند اللزوم، لكن شارون كان يعلم أن وجود الجيش في محور فيلاديلفي سيعني استمرار استهدافهم.
لقد كان شارون على حق. لقد نجحت خطته فعلا، لقد تقلصت العمليات العسكرية في غزة ضد الجيش بعد انسحاب ٢٠٠٥ حتى انعدمت تقريبا، وبدأت الفصائل تعتمد بشكل شبه حصري على المقذوفات قصيرة المدى، والتي كانت تشكل إزعاجا لاسرائيل لكنه ازعاج يمكن التعامل معه، خاصة وأن الصواريخ كانت قصيرة المدى وبدائية ودقتها وقدرتها التفجيرية ضعيفة. في ذات الوقت كانت عملية السور الواقي في الضفة الغربية قد أتت أكلها بشكل كبير، وكذلك المراحل الاولى من عملية بناء الجدار العازل، وفوق ذلك فقد نجحت اسرائيل بتفكيك الهرم القيادي الميداني للمقاومة في الضفة بعد أن نجحت في اعتقال عدد كبير من قادة الكتائب المسلحة واغتيال عدد آخر، وهي خسارات لم ينجح ميدان الضفة الغربية في تعويضها الى اليوم! ونتج عنها تفكيك العمل العسكري المنظم والذي وصل إلى ما يفترض أنه درجة متقدمة من التطور خلال التسعينات والانتفاضة الثانية. لقد حسب شارون أنه سيقدر على تحقيق نجاح في غزة مماثل لما حققه في الضفة باستخدام ذات التنكيك، العزل، السور العالي المانع والحامي الذي سيعزل إسرائيل ��ن أعدائها وأخطارهم، مع الاخذ بالاعتبار العدد الكبير من عمليات الاغتيال التي نفذتها اسرائيل في غزة خلال ذات الفترة. لقد قلت قبل لحظات أنه "نجح"، ولكن أقصد أنه نجح إلى اللحظة التي استمر فيها رئيسا للوزراء قبل أن يغيبه المرض في رحلة طويلة استغرقها قبل الوصول الى مزابل التاريخ أما غزة ومقاومة غزة فكان لديها رأي آخر.
كان الانسحاب الاسرائيلي من غزة بصرف النظر عن المسميات والمواقف "الرسمية" الفلسطينية منه انتصارا لفكرة المقاومة، لقد حققت فيه المقاومة هدفا مرحليا مهما، وهو طرد الاحتلال من أرض فلسطينية محتلة، أرض لم ينجح اتفاق أوسلو بإخلاءه منها، أرض تواجد فيها الاحتلال عسكريا واستيطانيا، أذكر أن السلطة كانت ترفض الانسحاب أحادي الجانب وتراه تملصا من الاتفاقيات الموقعة، وأن أي انسحاب يجب أن يتم بالتنسيق مع منظمة التحرير! لقد فرضت المقاومة على التجمع الاستيطاني في غزة ضغطا شعبيا وعسكريا استمر لعقود، وحاولت المستوطنة عزل نفسها عن المقاومة الغزية عن طريق الوكيل الذي قامت باستئجاره في أوسلو ليحل محلها كأداة قمع، ولكن المقاومة في النهاية صنعت مستحيلها الخاص وحققت مرادها وأفقدت الاحتلال قدرته على الاستمرار في تحمل الضغط وأجبرته على التراجع، وبالنسبة للسلطة لم يكن هناك ما هو أسوأ من هذا السيناريو او أكثر إيذاء لشرعيتها! لقد كان انسحاب اسرائيل من غزة هو المرة الثانية في التاريخ التي تنسحب فيها قوة الاحتلال من أرض محتلة تحت الضغط العسكري بعد جنوب لبنان في العام ٢٠٠٠، لقد اثبتت المقاومة انها فعالة وقادرة على تحقيق نتائج.
لقد شكلت الفترة من ٢٠٠٥ - ٢٠٠٧ نقطة بداية لوضع جديد في الساحتين الثوريتين الرئيستين في فلسطين، لقد تعرضت كلا الساحتين لتغيرات حادة على مدار السنوات اللاحقة في اطار العلاقة مع إسرائيل والتكتيكات المستخدمة للمواجهة والموقف من فكرة المواجهة بحد ذاتها، إلى أن وصل الامر إلى ما هو عليه الان، لقد بدأ العمل الثوري المنظم، مسلحا كان ام شعبيا، بالتراجع في الضفة الغربية مع بدأ بناء الجدار الفاصل وبعد سيطرة حركة حماس على غزة وطردها لحركة فتح، والذي تلاه إعادة هيكلة الاجهزة الامنية في الضفة على يد فريق امني مختص تحت قيادة الجنرال الامريكي كيث دايتون، وهي الخطة التي كلفت عشرات ملايين الدولارات والتي كان من المفترض تنفيذها في ٢٠٠٥ ولكنها توقفت بعد فوز حماس الساحق في الانتخابات التشريعية في يناير ٢٠٠٦ وتشكيلها للحكومة الفلسطينية العاشرة، لقد فككت حركة فتح كتائب شهداء الأقصى وجمعت سلاحها وهاجمت الفصائل الاخرى عقب استيلاء حماس على مقاليد السلطة في غزة، وكانت هذه الإجراءات نكسة لم يتعاف منها العمل المسلح في الضفة الغربية حتى الآن!
على الجانب الاخر، اتهمت المقاومة الاسلامية في غزة بعد تشكيل الحكومة أنها تتقاعس عن أداء واجبها النضالي، وذلك في وقت خرجت فيه اسرائيل من غزة ولم تعد على احتكاك مباشر مع المقاومة، وقد كان رد المقاومة هو عملية "الوهم المتبدد" التي خطط لها الشهيد جمال ابو سمهدانة أمين عام لجان المقاومة الشعبية ونفذتها بالاشتراك مع كتائب القسام وجيش الاسلام، وهي العملية التي أُسر فيها الجندي الاسرائيلي الفرنسي جلعاد شاليط، ووراء هذه العملية قصة مثيرة للـ .. سخرية، ربما؟ لا أعلم! لكن ستوضح درجة الفقر اللوجستي التي عملت خلالها المقاومة في غزة!
لقد قضى الشهيد ابو سمهدانة شهورا طويلة يخطط لهذه العملية، وقد حفر رجاله نفقا بطول عدة مئات من الامتار يصل الى نقطة عسكرية شرق رفح قريبة من معبر كرم ابو سالم، ولكن لم يأمر ابو سمهدانة باستخدام النفق لتنفيذ العملية، لأننه ببساطة لم يملك اللوجستيات الكافية، لقد توجه ابو سمهدانة الى الشهيد رائد العطار قائد كتائب القسام في رفح، وأخبره بوجود النفق، وقال له أنه بحاجة الى سلاح ورجال وتدريب لتنفيذ العملية، وتواصلت حينها كتائب القسام مع جيش الاسلام ومؤسسها ممتاز دغمش، والذي كان مرتزقا ومهربا للسلاح، يرأس تنظيما مسلحا ويعمل لصالح من يدفع أكثر، وعندما علم ممتاز دغمش بطلب القسام، اشترط من أجل توفير السلاح والذخيرة المطلوبة لتنفيذ العملية والتدرب عليها أن يشارك رجاله في تنفيذها أيضا. وهكذا اجتمع ٨ - ٩ مقاومين سوية من التنظيمات الثلاثة (حماس - لجان المقاومة - جيش الاسلام) من اجل اقتحام الموقع العسكري المذكور، وتم ذلك في ٢٥ يونيو ٢٠٠٦. هذه ليست قصة رسمية، وليست "متداولة" كثيرا بين الناس، وقد سمعت بها بعد تنفيذ العملية بسنوات طويلة، وقد لا تكون دقيقة بالكامل ولكني أصدقها لأنها تتقاطع كثيرا مع قصص أخرى رويت عن الشهيد جمال أبو سمهدانة وعن حقائق يعرفها جميعنا عن اللوجستيات المزرية التي عملت في ظلها المقاومة في غزة خلال الانتفاضة الثانية وما بعدها. لقد نفذت العملية في ٢٥ يونيو ٢٠٠٦، لقد استشهد المقاوم الثائر البطل العسكري المخضرم أبو عطايا جمال أبو سمهدانة في ٩ يونيو ٢٠٠٦، لقد كان المقاتل الوحيد في تاريخ العمل الثوري الفلسطيني الذي يخطط لعملية الثأر لاغتياله قبل أن يُغتال.

جنود إسرائيليون في قطاع غزة يبحثون عن بقايا أشلاء زملائهم بعد تفجير دبابة ميركافاه 3 في رفح
ظلت حماس بعد سيطرتها على غزة في يونيو ٢٠٠٧ "تناوش" إسرائيل بقدراتها الصاروخية، وذلك حتى بداية حرب ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ التي دمرت فيها إسرائيل قدرا كبيرا من قدرات المقاومة ومقدرات وموارد الحكومة في غزة، ونفذت فيها اجتياحات برية واسعة متزامنة في محافظات مختلفة، وارتكبت مجاز�� مروعة على نطاق واسع لم تشهده فلسطين منذ النكبة! كما كانت الحرب هذه أول مرة نشاهد قذائف وقنابل الفسفور الأبيض، وقد خاضت غزة الحرب في وقت فرض عليها حصار شديد مستمر منذ فوز حماس في الانتخابات في ٢٠٠٦، واستمر حتى بعد انتهاء الحرب بعد ٢٣ يوما من التدمير والقصف المستمرين. لقد ظل عداد شهداء حرب ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ مستمرا حتى بعد سنوات طويلة من انتهاء الحرب، اذ ظل جرحاها يستشهدون متأثرين بسنوات طويلة من إصابات لم يتمكنوا ابدا من التعافي منها.
بينما كانت بلدوزرات الجيش تمسح بيت لاهيا عن الوجود، كانت الضفة الغربية تحرس المستوطنات التي خلت من الجيش، أكبر لواء مشاة في الجيش الاسرائيلي هو لواء كفير المنتشر في الضفة الغربية، قامت اسرائيل بسحبه من الضفة وأعادت نشره على حدود غزة عشية اجتياح جولاني وجفعاتي للقطاع، لم اعرف هذه المعلومة من مصدر اخباري بشكل مباشر، لكن عرفتها بسبب منشور على منصة فيسبوك نشره ناشط ضفاوي تضمن شهادته على تصدي قوات الامن الفلسطينية لمظاهرة حاولت الوصول من سجن عوفر، استغربت وقتها من السبب الذي يدفع الجيش للاعتماد على الامن الوطني او الامن الوقائي بدلا من قناصته وجنوده، وعرفت لاحقا أن قناصته وجنوده قد تركوا مواقعهم في الضفة الغربية وأعادوا انتشارهم في غزة.
لقد اصيبت قوات المقاومة في غزة بحالة من الصدمة العميقة تجاه ما حدث، لم يكن تدريبهم ولا تسليحهم ولا استعداداتهم ولا نمط قتالهم على قدر كاف من الاستعداد للتعامل مع القوة النارية الغامرة التي تعرضوا لها، لقد خرجت حماس من المعركة التي سمتها "معركة الفرقان" معلنة عن انتصار ميداني وسياسي، وقالت وقتها انها أثخنت العدو وأجبرته على التراجع ومنعته من تحقيق أهدافه، كان هذا خطابا مخصصا للاستهلاك الإعلامي فقط، أما على الأرض فقد كانت الصدمة مروعة، لقد فعل الشباب على الأرض كل ما في وسعهم ولكن للأسف فإن ما في وسعهم لم يكن كافيا.
انتهت الحرب بعد خلق وضع مزر على الأرض، لن يضير أي مقاومة في العالم أن تعلن استسلامها بسببه، لكن ما حدث هو العكس، بدأت المقاومة في سد مواطن الخلل، وتعزيز ترسانتها من الصواريخ، وزيادة مخزونها من الاسلحة الاستراتيجية، بدأت بامتلاك صواريخ ذات مدى أبعد واعتمدت على تعزيز خبراتها في التصنيع، كان الحصار شديدا ولكن تمكنت من خلال شبكة من الانفاق التي تربط القطاع بسيناء من تهريب شحنات الاسلحة ونماذج الصواريخ الايرانية التي قامت بنسخها واعادة انتاجها، استفادت أيضا من التجربة الخاصة بحزب الله في مجال الأمن الاستخباري وأنشأت شبكة واسعة من الانفاق الدفاعية واللوجستية ونصبت داخلها شبكة اتصالات سلكية مغلقة. خاضت المقاومة خلال السنوات التالية (٢٠١٢ و ٢٠١٤) معركتين كبيرتين، قدمت فيهما لاول مرة صواريخ قصفت تل ابيب والقدس وعرف خلالها الصاروخ الأيقوني M75 الذي يعتبر نسخة من صاروخ فجر 5 الايراني قصير المدى، خسرت المقاومة خلال هاتين الحربين العديد من القيادات الوازنة والمعروفة من كتائب القسام وسرايا القدس أهمهم رائد العطار المذكور سابقا بالإضافة إلى أحمد الجعبري قائد الكتائب والرجل الثاني فيها بعد محمد الضيف والذي بدأت حرب ٢٠١٢ على إثر اغتياله، كما أنها استخدمت لأول مرة انفاقا هجومية ونفذت عمليات جريئة جدا داخل خطوط العدو، منها العملية الأيقونية داخل موقع ناحل عوز والتي تضمنت هجوما على الموقع العسكري المعروف شرق غزة في وضح النهار مع عودة المشاركين في الهجوم بسلام، بينما تمكن الشباب من تصوير العملية كاملة، وقد تمكنت كتائب القسام في حرب ٢٠١٤ التي كانت اطول الجولات العسكرية التي خاضتها المقاومة في تاريخها واستمرت لـ ٥١ يوما من اختطاف جنديين على الأقل خلال المعركة.
أهم ما ميز نشاط القسام خلال المعركة قدرته المتميزة على ادارة المعركة الإعلامية بامتياز، وقد ظهرت هذه القدرات بشكل واضح خلال ٢٠١٢ أولا ثم في ٢٠١٤، خاصة بعد الابتعاد عن المبالغات وتقديم بيانات صحيحة ودقيقة الى حد كبير للجمهور الغزي وتوافق كثير من البيانات الصادرة في الإعلام مع المعطيات على الأرض. اكتسبت شخصية المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام المعروف بكنيته (أبو عبيدة) شهرة واسعة، وتعامل الجمهور العربي والفلسطيني معه باعتباره قائد المقاومة الفعلي، فهو وجهها الاعلامي الابرز. لقد برز أبو عبيدة كذلك بسبب تحدياته العلنية والمباشرة لجيش الاحتلال ورئيس أركانه في ذلك الوقت شاؤول موفاز، وقد استفزت بياناته الجيش لردود اعلامية مضادة تميزت بداية بالسذاجة، وقد اجبرت الاحتلال على تطوير خطابه الإعلامي الموجه للمتابع العربي. لا زلت اذكر اليوم الذي اعلن فيه أبو عبيدة عن أسر القسام للجندي شاؤول اورون بطريقة سينمائية، وفي أنسب وقت يمكن أن يعلن فيه عن ذلك الأسر على الإطلاق، لقد أسر أورون خلال اجتياح وحشي لحي الشجاعية، نتج عنه مجزرة بشعة راح ضحيتها أكثر من ٣٠٠ شهيد وقد هرب سكانه من وجه القصف بينما قذائف المدفعية تتساقط فوق رؤوسهم. نزح أهل الشجاعية الى غرب غزة ووصل جزء ضخم منهم إلى مستشفى الشفاء. كان الناس يشعرون بالصدمة وغير قادرين على تصديق هول ما حدث، في الليلة التالية ظهر أبو عبيدة في تسجيل مصور يتحدى فيه الجيش الاسرائيلي أن يكشف عن مصير جنديه شاؤول اورون صاحب الرقم 6092065 .. لقد خرجت يومها إلى شرفة بيتنا في جباليا وبدأت أصرخ: "الله أكبر الله أكبر" بدون وعي وبأعلى صوت. بعد ساعة فقط وصلتني رسالة من رقم خاص على هاتفي الخلوي فيها أربعة كلمات فقط 'حذيفة كحلوت كذاب أشر" .. لكنه لم يكن كذابا أبدا.
خمس سنوات فقط فصلت بين حربي ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ وحرب ٢٠١٤، انتقلت فيها المقاومة من تنظيم متهالك الى قوة عسكرية معتبرة قادرة على مقارعة جيش دولة نووية، وهي قوة امتلكت الجرأة على إعادة تهيئة جغرافيا ساحة القتال لتتخلص من نقاط ضعفها، فبنت شبكة من الأنفاق أسفل أرض مستوية نصفها فارغ من السكان ويفصل بين حدودها مع العدو وأقرب تجمعات سكنية إلى هذه الحدود أراض مفتوحة خاضعة للرقابة المشددة من الأرض والجو والفضاء بأحدث الوسائل التكنولوجية. والأهم من ذلك أنها صنعت كل هذا داخل مساحة لا تتجاوز ٣٦٥ كلم مربع، وأنجزته فقط خلال خمسة سنوات.
في واقع الأمر لم تصنع المقاومة في غزة شيئا مستحيلا، ولو كان مستحيلا لما صنعته، لكن حرب ٢٠١٢ وكذلك حرب ٢٠١٤ من بعدها، وبخاصة الأداء "الإعلامي" للمقاومة خلالهما، قد أسس لطريقة جديدة من تعامل المجموع الفلسطيني مع غزة ومقاومتها ومع فكرة المقاومة اجمالا باعتبارها منطقيا مسؤولية تقع على عاتق فلسطين بمجملها وليس منطقة واحدة فيها، يمكن استنباط مجموعة من المبادئ التي حاولت المقاومة ترسيخها عمليا بالأداء الميداني والإعلامي خلال حربي ٢٠١٢ و٢٠١٤ وما بعدها، مثلا:
الانسحاب الاسرائيلي من مكان هو مدعاة لمزيد من التقدم وليس للتراجع.
العوائق الميدانية التي تحول دون الاحتكاك بالعدو مدعاة لابتكار الحلول الابداعية لتجاوزها وليس للجمود والتصلب.
الخسائر المادية والبشرية يمكن تعويضها مهما كانت ضخمة.
والمبدأ الأهم الذي حاولت المقاومة في غزة ترسيخه منذ عام ٢٠٠٠ على الأقل (أي منذ بداية إنهاء الربط الجغرافي بين ساحتي الضفة الغربية وقطاع غزة): كل ساحة تملك ظروفها الخاصة وهذه الظروف تتطلب تكتيكات مختلفة، وليس من الضروري تطبيق ذات النموذج على كل ساحات القتال حتى لو ظهر باعتباره الأكثر نجاعة، وفي مسألة النجاعة هنا فإننا نتحدث عن كل العمليات والنشاطات العسكرية التي قامت بها المقاومة في غزة بعد العام ٢٠٠٧ مقارنة بالعمليات الاستشهادية التي انطلقت من الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية، مفاجأة، صح؟
لكن الذي حدث في الضفة الغربية كان العكس، لم تكن الحالة التي مثلتها المقاومة في غزة كافية لاستحثاث بداية عمل منظم، أقصد اعادة العمل المنظم مرة أخرى، في الضفة الغربية. انما بداية حالة شعبية احتفائية احتفالية مشوهة تفتقد للقدرة على (أو ربما الرغبة في) الاستمرارية.
نعم لقد بدأت انتفاضة السكاكين في ٢٠١٥، وبدأت العمليات المنفردة وتطور الأمر في لاحق الأيام إلى خلايا عسكرية نفذت عمليات ضد مستوطنات اسرائيلية في الضفة، وأيضا فإن الردع الذي طبقته إسرائيل ووكلائها في المقاطعة كان شرسا، فنُفذت اعتقالات كثيرة واغتيالات واستهدفت الشبكات الناشئة، وكان معروفا أن الخلية التي تنفذ عملية وتتمكن من الانسحاب من موقع العملية نادرا ما تجد الفرصة لتنفيذ عملية جديدة. وتمكن الجيش ووكلائه من السيطرة على هذه الحالة ومنع تطورها قد كان سببه الاول هو عدم وجود مزاج عام متوافق مع الحالة الثورية من الاساس. لقد حاول القسام وسرايا القدس اعادة تنشيط خلاياهما في الضفة، او تجنيد خلايا جديدة، ولكنهما فشلا في تأسيس قاعدة دائمة تحافظ على زخم العمل المسلح، ولا حتى بالدرجة التي كان عليها الامر بعد أوسلو. مع الأخذ بالاعتبار أن التنظيمات المسلحة في الضفة قد امتلكت قاعدة شعبية واسعة خلال تلك الفترة، علما بأنها عملت أولا في مكان يخضع للسيطرة الإسرائيلية، ومن ثم بدأ يخضع لسيطرة إسرائيل وأمن السلطة معا، أي أن الظرف الأمني في ذلك الوقت لم يكن يختلف كثيرا عن الظرف الأمني الحالي.
إن الوضع الذي ساد في الضفة الغربية خلال حربي ٢٠١٢ و ٢٠١٤ كان مرتبطا بمزاج عام متقبل لحالة الخمول والسكون، ورافض للانخراط بالمجمل في العمل الثوري او تحمل أي تكلفة متوقعة له. قد تتوافر في الضفة طبقة تسعى لممارسة العمل السياسي على أساس استعداء إسرائيل، ولكنها لن تضع نفسها في ذات الصف الذي تقوده غزة، ولنترك مسألة العنصرية تجاه غزة على الرف قليلا على الرغم من أهميتها، فحتى مع تحييد هذه المسألة، تظل غزة ومقاومتها على درجة من الحدة والعنف والجذرية في الموقف أكثر تطورا من كل ما يمكن أن يدفع أغلب الضفاويون ثمنه أو أن يتحملوا تبعاته. في ذات الوقت فإن القسام في غزة قد سلم ملف العمل العسكري في الضفة لأسير محرر من الضفة مبعد إلى غزة بعد الإفراج عنه في صفقة وفاء الأحرار (٢٠١١)، وهو الشهيد مازن فقها، وكان مسؤولا عن التواصل مع الخلايا الحديثة التشكل في الضفة الغربية وكانت يمدها بالتوجيه والتمويل اللازم لشراء السلاح، أدري أن الأمر قد يبدو مثارا للسخرية، ولكن حدسي يخبرني بأن تسليم ملف القسام في الضفة لأسير مبعد من الضفة كان سببه، بجانب كونه أكثر خبرة بالساحة نفسها، هو لكونه ضفاويا من الأصل، لأن لا أحد سيستمع إلى أوامر قائد غزاوي. في نهاية الأمر اغتال الشاباك مازن فقها وضحى في سبيل ذلك بشبكة كاملة من العملاء والمتعاونين.
لقد أظهرت مقاومة غزة درجة عالية من المرونة أثناء مواجهة إسرائيل في ٢٠١٢ و ٢٠١٤، ولكن الحرب في كلتا المرتين ظلت حدثا قاسيا دُفعت فيه دماء غزيرة وحل على غزة بسببهما دمار واسع، لقد سقط مئات الشه��اء ودمرت مناطق واسعة في الأجزاء الشرقية من قطاع غزة، بالنسبة للضفاويين فهذا أمر يمكن أن يحدث في غزة فقط، لكن من المستحيل أن يُسمح بحدوثه في رام الله أو الخليل أو نابلس. لربما يملك الغزيون القدرة على تحمل هذه الكوارث، أن يروا مدينتهم تنتزع من سياق العمران وتتحول إلى كومة من الركام وتصبح منشآتهم الاقتصادية من أسواق ومصانع أثرا بعد عين، لكن لا يمكن أن يحدث ما يبرر للجيبات العسكرية أن تتجول بأريحية داخل رام الله. تُبنى هنا أسطورة عن الغزاوي، البطل، المغوار، الأسطورة، كاسر رأس إسرائيل، قاصف تل أبيب، المقاوم المرن الذي يتمكن من العودة أقوى في كل مرة يتعرض فيها لهزة عنيفة وتجري فيها على مدينته آلة الدمار، هذا ليس تمجيدا، وليست أسطرة، إنها عنصرية مختزنة داخل خطاب يستبطن الهزيمة كخيار عقلاني، ما يقصد بما سبق هو أن الغزيين هؤلاء أغلاظ أجلاف قساة يتحملون من المصاعب ما ليس في وسع "الناس العاديين تحمله".

مسيرات العودة في غزة (مايو ٢٠١٨)
وفي خضم هذا التمجيد المسرحي يتم انتاج خطاب "الضفة ليست مثل غزة"، فالظرف الميداني في غزة هو ما يسمح لها بأن تصنع صنيعها، ساحة خالية من المستوطنات خاضعة لسيطرة المقاومة كجهة حكم وإدارة وقادرة على اختراق حدودها الجنوبية باتجاه ساحة دولية للتهريب، فليست هذه الظروف مواتية في الضفة، لا يوجد مساحات للعمل في التصنيع العسكري او حفر الانفاق كما ان الرقابة اللصيقة على الضفة مدنا وقرى والاقتحامات المستمرة والاعتقالات بالجملة تمنع وجود حركة مقاومة مستقرة، ما هذا الهراء؟ لقد كانت غزة تعاني الأمرين من أجل القدرة على الوصول الى الاحتلال والاحتكاك به، في الوقت الذي كانت الحواجز العسكرية في الضفة تخترق الشوارع وتقطع اوصال المدن، ما الذي دفع غزة الى الدخول في مجال تصنيع الصواريخ؟ وما الذي دفعها الى تطوير مهاراتها في حفر الانفاق، ليس في ٢٠١٤ بل منذ ٢٠٠٢، هل تذكرون عملية موقع ترميد؟ لا أظن. وفوق ذلك؛ كيف أصبحت غزة ساحة خالية من المستوطنات؟ وهل الرقابة على ساحة مستوية نصفها فارغ من السكان أصعب من الرقابة على مساحة أوسع منها بستة عشرة مرة مليئة بالجبال والتلال؟ وكيف يا ترى أصبحت غزة تحت سيطرة المقاومة كجهة حاكمة؟ هل كسبت حماس غزة في اليانصيب؟ وهل غاب عن هؤلاء الناس حقيقة أن الجبهة الجنوبية لغزة، خاصة بعد ٢٠١٣، تحولت الى جبهة معادية يقع منها من الحصار أشد مما يقع من إسرائيل نفسها أحيانا؟ ومن الذي يحتاج ساحة دولية للتهريب مثل سيناء بينما عصابات المافيا الاسرائيلية موجودة ونشاطها ممتد إلى الضفة؟ لقد نُفذت كثير من العمليات العسكرية الفردية في الضفة الغربية في ٢٠١٥ وما بعدها باستخدام أسلحة مهربة من إسرائيل. هل تذكرون الخلاف العائلي الدموي بين عائلتي الجعبري والعويوي في الخليل قبل ٤ سنوات؟ لا زلت أذكر صور المسلحين الملثمين في ديوان آل الجعبري وهم يحملون عشرات القطع من بنادق M16 الأمريكية الصنع! هل سمعتم يوما عن عملية "موقع الـ١٦"؟ كانت واحدة من خمسة عمليات نفذها القسام خلف خطوط العدو في ٢٠١٤ وقد كانت المجموعة التي نفذت العملية قد خرجت من نفق شمال حاجز إيرز وتقدمت على الاقدام باتجاه موقع عسكري اخر معروف باسم (موقع الـ ١٦) ولكنها تقابلت مع دورية للجيش في الطريق واشتبكت معها، كانت مجموعات القسام التي نفذت العمليات خلف الخطوط في حرب ٢٠١٤ ترتدي زيا عسكريا إسرائيليا كاملا من أجل التمويه، والسبب الوحيد الذي تسبب في كشف أمرهم وقتها هو البنادق التي يحملونها، إذ كانت من طراز AK47 السوفيتي. أتدرون لماذا وقع القسام في هذا الخطأ الجسيم وقتها؟ لأن غزة كلها لم يكن يوجد فيها قطعة سلاح أمريكية واحدة في ٢٠١٤، بينما في الضفة جميع السلاح أمريكي وإسرائيلي!
ان هذا الهراء الفارغ وسيلة تستخدم من أجل تحاشي الوقوع في فخ غزة، هذا الفخ الذي رسمت إسرائيل حدوده بعناية، لقد قلت قبل قليل أن الاسرائيليين العرب حرصوا في نهاية الثمانينات على النأي بأنفسهم عن فخ الانتفاضة، ووجدوا أن إسرائيل قد كافأتهم على ولائهم، وقد وسعت إسرائيل حدود هذا المفهوم ليصبح أوسع ويشمل الضفة الغريية كذلك، لقد بنت إسرائيل سلما للقمع وضعت كل منطقة فيه على درجة مختلفة، ومدفوعين بمشاعر عنصرية راسخة في أساس المجتمعات الفلسطينية، بنى الفلسطينيون وهمًا نظر الى هذا السلم مقلوبا باعتباره هرما لتوزيع الامتيازات. إن درجة القمع الاستعماري في غزة أشد وأصعب وتتمظهر على شكل مجازر دموية ودمار واسع في جولات عنف متكررة كل عدة سنوات، هذا القمع هو عقاب غزة على رفضها للانصياع، أما سياسات القمع الناعمة ومنخفضة الكثافة في الضفة وداخل الخط الأخضر، وهي سياسات قاسية ودموية كذلك، فهي في واقع الامر بالنسبة لمعتنقي عقيدة الرضوخ امتيازات تُمنح مكافأة لعدم التماهي مع نموذج غزة، بينما يُسمح في بعض الاوقات لمن هم خارج غزة بممارسة السياسة المضادة للاحتلال ضمن قيود مشروطة وداخل ساحات محددة بعيدا عن العنف العسكري المنظم، وحتى هذه الممارسة السياسية تتعرض لقمع عنيف، فتمنح انطباعا أنها مهمة ولها تأثير، على الرغم من حرص الاحتلال على أن يكون هذا القمع فرديا قدر المستطاع، ولا يتعدى حدود الشخص نفسه وعائلته فقط.
إن السؤال الذي يؤرقني منذ سنوات طويلة عن الضفة الغربية هو "كيف" .. كيف تحولت الى هذه الصورة الممسوخة عن تاريخها قبل ٢٠ سنة فقط؟ لقد نشأت في طفولتي داخل غزة على تمجيد أسماء عظيمة مثل يحيى عياش وإبراهيم حامد وسعيد الحوتري وعز الدين المصري وآيات الأخرس، أين ذهب هؤلاء؟ ولماذا اختفى الحراك المسلح الذي مثلوه؟ لقد خسرت كتائب القسام في غزة مؤسسها شهيدا منذ ٢٠٠٤، ومنذ ذلك الوقت وهي تقدم القائد تلو الآخر، اكتب الآن هذه الكلمات في اليوم التالي (٢٤ يونيو ٢٠٢٥) لعملية عسكرية في شرق خانيونس قتل فيها ٧ جنود بعد قرابة ١٩ شهرا من القتال في هذه المدينة بالذات، مُسحت فيها أجزاء واسعة منها عن الخريطة وأصبحت أرضا حراما، لا حياة فيها لبشر او شجر، ولكن الأهم من ذلك أن القيادة العسكرية لكتائب القسام في هذه المدينة والتي قادت المعركة طيلة الشهور الماضية قد ارتقوا جميعا شهداء! لقد رحل محمد الضيف ورافع سلامة ويحيى ومحمد السنوار ولا ابالغ لو قلت: المئات غيرهم، ومنهم من ارتقى في القصف الغادر بعد انتهاء الهدنة في رمضان الماضي (١٩ مارس) والذي استهدف اعدادا كبيرة من قيادات وعناصر المقاومة التي أظهرت نفسها خلال الهدنة كذلك، هل استمرار القتال في هذه الظروف معجزة؟ كلا، لكن غيابه في منطقة لا تعاني من الحد الادنى من هذه الظروف بسبب اجراءات اتخذت منذ ٢٠٠٧ هو بدون شك عار، عار لا بسبب انعدام الخيال ونضوب الإبداع فحسب، ولكن بسبب غياب تام للإرادة. لا قتال في الضفة، لا قتال حقيقي في الضفة، ليس لأن خيار القتال غير متاح، لكن لأن لا أحد يرغب فيه. هو ذاك ولا شيء سوى ذاك.
لقد شخصت المقاومة في غزة مشكلة خطيرة في الاستجابة الشعبية في الضفة الغربية للأحداث الجسام، في الضفة وغزة على السواء، قبل الحرب في ٢٠١٤ وبعدها، إن عملا عسكريا غير مسبوق كالذي نفذته إسرائيل في غزة خلال ٢٠١٤ لمدة ٥١ يوم كان مدعاة لحراك شعبي هادر لا يتوقف، يتحرك عبر الضفة الغربية بكاملها، ويتطور باستمرار ليتحول الى عمل عسكري منظم.
إلا أن القدرة على الحشد في الضفة كانت محدودة جدا، وكان أقصى ما قامت به القوى الوطنية هناك هو تنظيم مظاهرات الـ ٤٨ في رمضان داخل المسجد الأقصى، وقد كان أيضا تحركا محدودا وغير مؤثر ولم يملك القدرة على المراكمة والاستمرار.
ذكرت أن تنظيمات فلسطينية مسلحة نشأت وازدهرت في قطاع غزة ولكن دون أن تملك قدرة على الانتشار الى الضفة، وذلك لأنها ظلت محاصرة بعد نشأتها عقب الانتفاضة الثانية، لقد نشأ العمل المنظم في الضفة دائما بعد الاحتكاك بعناصر خارجية، إما خارج فلسطين أو من داخل السجون او عندما كانت القيود على الحركة بين الضفة وغزة محدودة، لا شك في أن حماس والجهاد الإسلامي قد أسستا قواعد في الضفة الغربية خلال الثمانينات والتسعينات، وقد توسعت هذه القواعد ونمت قوتها وأصبح لها أظهرة شعبية معتبرة، ولكن ظلت دائما تتبع القواعد والقيادة السياسية والروحية في قطاع غزة. في الغالب فإن حماس قد فسرت تشخيصاتها عن العطب في قدرتها على تحريك الشارع والعمل العسكري في الضفة بسبب قلة التفات القيادة لهذه الساحة المهمة، وأن ما يحدث هو فقط نقص في المتابعة والتوجيه، وقد أثبتت الأيام خلال الفترة من ٢٠١٤ إلى ٢٠٢١ عكس ذلك تماما.
كما قلنا فإن حرب ٢٠١٤ كانت قاسية، وتبعاتها جعلت المقاومة في غزة تتوصل إلى استنتاج مفاده أن ليس بإمكانها أن تستمر دوما في مراكمة القوة من أجل أن تخسرها في حروب عوائدها السياسية محدودة ولا تتناسب مع حجم الدمار والانهاك الذي تتعرض له جبهتها الداخلية. كما أن غزة لوحدها بدون حراك مقاوم متواتر داخل فلسطين بكاملها ستظل تراوح مكانها بدون تحقيق الهدف الاستراتيجي الأهم وربما الأوحد الذي يحفز فكرة المقاومة اجمالا ألا وهو التحرير.
كان على الضفة أن ترقى إلى مستوى الحدث، وقد حاولت غزة مرارا دفعها الى ذلك، وفي عام ٢٠١٨ فتحت غزة باب المدرسة للشعب الفلسطيني بكامله مرة أخرى، وبينما كان المتظاهرون في حيفا يقفون على الرصيف بدون حركة كي لا يسجنوا بتهم التظاهر بدون ترخيص وبينما كان المتظاهرون في الضفة قد حولوا ضرب المقاليع إلى استعراضات للدبكة، خرجت غزة إلى الحدود مع فلسطين المحتلة في أكبر تظاهرة شعبية على طول الخط الفاصل، عشرات الآلاف خرجوا على مدار أسابيع طوال، وتمكنوا عديد المرات من اقتحام الحدود ووصلوا الى المواقع العسكرية الاسرائيلية، وقد دفعت غزة مرة أخرى اثمانا غالية رسخت موقعها في أعلى سلم القمع (ادنى هرم الامتيازات)، عشرات الشهداء ومئات الجرحى كل أسبوع، ووصل الأمر إلى ذروته في يوم الجمعة ١٤ مايو ٢٠١٨، إذ ارتقى ٦١ شهيدا وأصيب ٢٤٠٠ متظاهر في غضون عدة ساعات فقط، لم يُسمح ابدا لجنود الجيش في الضفة أن يحولوا المظاهرات التي قمعوها لاستعراضات لتفجير الاطراف وانتاج الاعاقات الحركية. أما مشهد الاطراف المقطعة والاطباء المنهكين بعد ساعات طوال من العمليات الجراحية فقد اختصت به ماكينة الإجرام غزة لوحدها.
هل ورطت نفس�� في الحديث؟ هل ما أقوله هو أنني أريد أن تتعرض الضفة لذات القمع في غزة؟ أن تُصعد الضفة من مقاومتها الى الحد الذي تبدأ فيه بالتعرض لذات درجة القمع؟ في واقع الأمر: أجل، هذا ما أقوله بالضبط، وهذه الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها قطع الطريق أمام الكيان الإبادي المختل للاستفراد بغزة لوحدها، والطريقة التي يمكن أن تُترجم من خلالها العملية الثورية إلى نتائج ملموسة. ان هذا سلوك ثوري معروف، على الناس أن تتورط ولو رغما عنها في العمل الثوري، وقد مارسته المقاومة الفيتنامية ضد الامريكان والفرنسيين، وكان مقاتلو الفيتكونغ يهاجمون القوات المحتلة انطلاقا من القرى "الخاملة ثوريا" والتي ينجحون في تثويرها بعد العمليات الانتقامية الأمريكية.
لا يغيب عن بالي أبدا الهتافات الكاريكاتورية التي انتشرت في طول الضفة الغربية وعرضها وفي القدس، والتي هُتف بها عديد المرات داخل ساحات المسجد الأقصى، "مشان الله .. يا غزة يلا" .. لقد اصبحت اشاهد هذا الهتاف في كل مكان، منشورات شبكات التواصل الاجتماعي لافتات المظاهرات وأصبح يُطبع على التيشرتات، وقد رسم بخطوط ركيكة ونشر بفخر على مواقع انستاجرام وپاينترست (رسامة من الضفة نشرت رسما للشعار على انستاجرام قبل بداية الإبادة بعدة أشهر ثم قامت بحذفه عقب بدايتها مباشرة). وتحول (مشان الله .. يا غزة يلا) إلى خطاب سياسي ووسيلة لتصدير أي ورطة أو سياسة احتلالية جديدة الى معركة مع غزة، وكان هذا الخطاب هو المنتهى الطبيعي للحالة التعيسة التي تطورت إليها الضفة الغربية طيلة سنوات، إن غزة أقوى ولديها صواريخ وبها مقاومة قوية، ولذا فإنها تتحمل مسؤولية معارضة سياسات الاحتلال في أي مكان، لأن الضفة ضعيفة وأعجز عن إصدار أي فعل مضاد، وبكلمات أكثر دقة: غزة أرخص دما وأكثر اعتيادا على عنف إسرائيل، أنت كبير وتتحمل أقلام من المخبرين.
يمكن الافتراض أن قيادة المقاومة في غزة كانت على قناعة بأن الاستجابة لنداء (مشان الله يا غزة يلا) هو فرصة لها من أجل فرض ما أسمته "وحدة الساحات"، وذلك بعد أن تمكنت "ساحة الضفة" من فرض قطيعة مع قيادة التنظيم العسكري في غزة، وقيادة غزة لم تتمكن من مجابهة الأمر، ويمكن لمس ذلك في ضعف المحاولات العسكرية التي تمت خلال الفترة التي تلت انتفاضة السكاكين في ٢٠١٥ واعتماد العمل العسكري على "الذئاب المنفردة". في مايو ٢٠٢١ بدأت هجمة إسرائيلية جديدة استهدفت المسجد الأقصى، وقد خرجت هتافات "مشان الله يا غزة يلا" مرة أخرى من داخل المسجد بينما الجيش والشرطة يتصدون لمجاميع من المتظاهرين من القدس والضفة والاسرائيليين العرب، نتج عنها عشرات الاصابات في يوم الجمعة ٧ مايو والاثنين ١٠ مايو، في ذلك الوقت كانت القدس وعبر نشاط إعلامي إلكتروني وشعبي مكثف قد لفتت الأنظار بسبب قضية مصادرة بيوت حي الشيخ جراح الشهيرة واستطاعت تكوين ما يمكن وصفه بجبهة تضامن دولية، في يوم ١٠ مايو أصدرت كتائب القسام في غزة تهديدا صريحا على لسان قائدها العام محمد الضيف يمهل اسرائيل ساعة واحدة (حتى السادسة مساء) قبل الانسحاب من المسجد الأقصى، وقد نفذ الضيف تهديده وبدأت جولة جديدة من القتال استمرت ١١ يوما. إن ظهور صوت الضيف على الإعلام وخطاباته المسجلة حدث بالغ الندرة، وكان يمكن أن يضطلع بهذه المهمة الناطق العسكري أبو عبيدة، ولكن صدور هذا التهديد على لسان الضيف كان له مغزاه.
قدمت لنا اسرائيل خلال هذه الحرب نسختها المعدلة من أسلوب القصف السجادي carpet bombing الذي ابتكرته قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وقد ظهر إلى العلن تسمية محلية لنمط القصف هي الحزام الناري fire belt (كلا، ليس الهربس)، والمقصود بها قصف متتالي لنقاط متعددة على خط مستقيم بكمية كبيرة من القنابل، وكان الهدف الرئيسي لهذا النمط من القصف هو تحقيق هدف عملياتي محدود، مثل تتبع مسار نفق تحت الارض من اجل هدمه و/أو إغلاق مداخله ومخارجه. لا ينطبق هذا الوصف بالضبط على القصف السجادي، الذي تستخدم فيه غالبا قاذفات استراتيجية تحمل كمية كبيرة من القنابل وتقوم بإلقائها على مساحة عمرانية واسعة دون تمييز بين أهداف مدنية أو عسكرية. طبقا للتعريف الموضح أعلاه، فإن الأحزمة النارية هي أسلوب من القصف نفذته إسرائيل عديد المرات، في الحروب السابقة، وخاصة في رفح أثناء ملاحقة الوحدة التي نجحت في أسر الجندي هدار جولدين في ٢٠١٤ من أجل تنفيذ أمر هنيبعل المخصص لمنع أسر الجنود أحياء. اغتالت إسرائيل الشهيد باسم عيسى قائد كتائب القسام في مدينة غزة بحزام ناري نفذته ضد مدخل ومخرج أحد الانفاق جنوب مدينة غزة، واستشهد يومها رفقته مجموعة من مهندسي كتائب القسام ومنهم جمال وأسامة الزبدة، واستخدمت أسلوب الحزام الناري بشكل شديد الكثافة خلال قصف شارع الوحدة خلال ذات المعركة وهدمت عدة مباني سكنية بقنابل شديدة الانفجار، ولكن المرة الأولى التي استخدمت فيها القصف السجادي في غزة كانت خلال عملية "مترو حماس"، القصف الذي استهدف شبكة أنفاق القسام في منطقة بيت لاهيا ليلة ١٢-١٣ مايو.
حاولت اسرائيل تمرير معلومات مزيفة إلى الإعلام عن عملية عسكرية برية شمال غزة، وقامت بوضع "حشود" عسكرية في منطقة زيكيم، كتائب القسام قد استجابت أولا للتهديدات ونشرت قوات النخبة في انفاق بيت لاهيا الدفاعية، وبعد عدة ساعات أمرت بانسحابهم. كانت تقديرات بعض الافراد في المستويات العليا من قيادة لواء الشمال بأن الحشود زائفة ولا تتماشى مع النمط المعتاد للاجتياحات الاسرائيلية، في حدود الساعة الثانية عشرة ليلا بدأت جولة القصف، لا ازال اذكر بوضوح تام ذكرى الاربعين دقيقة التالية، كنا ٩ أشخاص، أربعة بالغون وخمسة أطفال، في شقة واحدة داخل مبنى مكون من ثلاثة طوابق، بيتنا في غرب جباليا، كانت الإنفجارات عظيمة، اذكر انني كنت ادفع الكل بعيدا عن النوافذ بينما احاول فتحها جميعا منعا لانفجار الزجاج بسبب ضغط الهواء الناتج عن الانفجارات، الأطفال يبكون بهستيرية والبالغون يحاولون تهدأتهم، وانا ادور حول نوافذ المنزل أحاول تحديد إن كانت الانفجارات قريبة ام بعيدة، عشوائية أم محددة بدقة، تذكرت الشهادات التي سمعتها عن القصف المدفعي في جباليا والشجاعية في حرب ٢٠١٤ ولكني متأكد من أنني أسمع صوت الطائرات بوضوح، بيتي ليس في "محور اجتياح" ولم يحدث أن وصلت الينا قذائف المدفعية خلال أي قصف مدفعي تمهيدي خلال الاجتياحات السابقة سواء من شمال بيت لاهيا أو شرق جباليا، استمر القصف أربعين دقيقة، كان هناك نمط واضح للانفجارات .. بوم بوم بوم بوم .. أربعة انفجارات في أقل من ثانيتين، واضح أنها حمولة طائرة واحدة، وبعد مهلة لعدة ثوان أربعة انفجارات أخرى .. بوم بوم بوم بوم .. حاول أخي الصعود إلى سطح البيت لتحديد مكان الانفجارات لكني أذكر أنني منعته وأنا أصرخ بما معناه "ان كنت تشتهي الموت فقر هنا ومت مع صغارك لأنني لن أربي أيتاما".
في اليوم التالي تكشفت الاخبار عن هول ما حدث وعلمنا أن كل القصف الذي سمعناه بالأمس بالاضافة الى قصف مدفعي بري وآخر من الزوارق البحرية كان موجها فقط الى بلدة بيت لاهيا، كانت الأخبار المتداولة تتحدث عن عملية تدمير لشبكة الانفاق الدفاعية والهجومية لكتائب القسام داخل البلدة، في تالي الأيام أصدر جيش الاحتلال بيانا يصف فيه الهجوم، إذ شارك فيه ١٦٠ طائرة مقاتلة متعددة الاستخدامات من طرازي F15 و F 16 (البيان ذكر فقط طائرات F15 ولكن الاحتلال لا يملك ١٦٠ طائرة من هذا الطراز)، انطلقت من سبعة مطارات عسكرية، وقامت هذه الطائرات بإلقاء ٤٥٠ قنبلة (غالبا من طراز GBU 39 وكذلك من طراز GBU 28 المخصصة لتكسير الانفاق) خلال فترة ٤٠ دقيقة فقط. لا تملك إسرائيل طائرات قاذفة استراتيجية بعيدة المدى مثل B2 او B52 الأمريكية (استخدام القاذفات هو ما يميز النمط الامريكي/البريطاني للقصف السجادي)، ولكنها شحنت مقاتلاتها F15 و F16 بحوالي ٨٠ طنا من المتفجرات (حسب التقديرات) وأرسلتها لنسف جزء من بلدة لا تتجاوز مساحته ١٥ كلم مربع. كان من الممكن أن نخسر بضربة جوية واحدة ما يزيد عن ٨٠٠ من مقاتلي وحدة النخبة في لواء شمال غزة في كتائب القسام. لكن بالنهاية فإن حكمة وخبرة قيادة القسام نجحت في تلافي هذه الكارثة.
استمرت الأحزمة النارية خلال الحرب، قصفت إسرائيل بشراسة العديد من الشوارع والمباني التي ادعت أن أسفلها مداخل ومخارج لأنفاق، كما استهدفت إسرائيل عشرات المباني والأبراج السكنية العالية، والتي وقع معظمها في قلب المدينة، أما المقاومة فقد
كشفت عن قدرات صاروخية جديدة، وقصفت للمرة الأولى صواريخ وصل مداها الى ٢٥٠ كلم وصلت الى إيلات ورامون، وقدمت صواريخ ذات قدرة مناورة عالية ضد القبة الحديدية واستخدمت لأول مرة صواريخ بتقنيات إطلاق متعدد، كانت هذه ثمرة جهود عظيمة لمهندسي الكتائب وأبرزهم الشهيدان د. جمال الزبدة أستاذ الهندسة في الجامعة الإسلامية وابنه المهندس أسامة الزبدة، وكلاهما ارتقى شهيدا في بداية المعركة.
لاقى تدخل حماس وهجومها على اسرائيل تأييدا شعبيا دوليا واسع النطاق، ربما للمرة الأولى في تاريخ المعارك التي تصنف باعتبارها حروبا "بين إسرائيل وحماس"، ولم يعد يُنظر للمقاومة باعتبارها حركة ارهابية معتدية تتخذ المدنيين دروعا بشرية، او لنكن أكثر دقة؛ لا تزال السياسة الدولية تصنف المقاومة بحسب المفردات التي تستخدمها إسرائيل لتوصيفها، ولكن جموع القوى الطحلبية وجيوش المرتزق�� الذين اعتاشوا أعمارا كاملة على الارتزاق من القضية وظلوا طيلة الوقت في مواقع آمنة بدون اتخاذ أي مواقف جذرية، هؤلاء كانوا قد استثمروا كثيرا من الموارد في سبيل قضية الشيخ جراح، وقد اضطروا مرغمين على تقبل اقتحام حماس لملعبهم بالصواريخ، وحاولوا صياغة خطابات مائعة مميعة كالعادة، منها واحد اشتهر كثيرا في اوساط الصحافة الليبرالية الغربية، يحيل الجهد العسكري الفلسطيني في غزة إلى وسيلة لكسر الحصار المستمر عليها منذ ٢٠٠٧!

حط السيف قبال السيف
احنا رجال محمد ضيف
ترافقت الحرب مع موجة احتجاجات داخل الخط الأخضر والضفة الغربية والقدس، وقد شعر أولئك الذين يناضلون بمنشورات الانستاجرام ورسومات الجرافيتي واستعراضات الدبكة بالحرج، وقد علموا أن هذا الوقت ليس وقتهم واحتفظوا بالصمت. اندلعت احتجاجات في مدينة اللد المحتلة، وأطلق المتظاهرون النار على الشرطة، وصورت الكاميرات مشهد المستوطنين الخائفين وهم يغادرون المدينة التي تحولت إلى ساحة معركة، كان هذا أكثر المشاهد كاريكاتورية في الحرب، أذكر أنني سألت نفسي وأنا أشاهد حالة الانتشاء التي اتخمت وسائل الاجتماعي بأخبار إطلاق النار ضد الشرطة: ألا يعلمون أن الذين أطلقوا النار عصابات مافيا تقوم "بتخليص" مشاكلها مع الحكومة؟
انتهت الحرب مرة أخرى بوقف لإطلاق النار، استمرت الحالة الاحتفالية المحيطة بالمقاومة في الضفة وقد وصلت إلى مؤشرات بالغة الخطورة بالنسبة لعديد من الأطراف، قدرة فتح والسلطة على الاحتواء بدأت بالتراجع، اذكر أن مظاهرة "تحتفل" بانتصار المقاومة قد خرجت في شوارع رام الله ليل الحادي والعشرين من مايو وصرخ فيها المتظاهرون بهتاف "حط السيف قبال السيف .. احنا رجال محمد ضيف" .. ضباط من الأمن الوقائي كانوا متواجدين في المظاهرة وهتفوا بذلك مع الهاتفين. أيضا فإن قدرة حماس على تجنيد المزيد من العناصر والخلايا في الضفة، في شمالها تحديدا، بدأت تتعاظم، بعض المصادر تحدثت عن مسؤولية الشهيد صالح العاروري عن الخلايا الجديدة، وهو صديق يحيى السنوار وعمل رسميا ممثلا للحركة في لبنان. كيف "واجهت" قيادة حماس في الضفة "خطر" تعدي قيادة غزة على صلاحياتها وتجاوزها للمبدأ الذي سعوا لترسيخه بفصل الساحات؟ بعد حرب ٢٠٢١ وكامتداد لتأثير الحرب وكمحاولة وسعي لاحتواءه، بدأت التنظيمات في الضفة بتشكيل كتائب عسكرية محلية عملت كل منها داخل حدود مخيم أو مدينة مختلفة، وتمركزت ثلاثة كتائب في البلدة القديمة في نابلس وعملت تحت رايتها عناصر من فتح وحماس والجهاد الإسلامي، وأخرى في نور شمس بطولكرم، وأخرى في مخيم جنين تشكلت في غالبها من عناصر من الجهاد الاسلامي. كانت الحدود الفاصلة بين الخلايا والعناصر العاملين تحت توجيهات قيادة المقاومة في غزة والساحات الأخرى (سوريا - الضفة - الحركة الأسيرة) غامضة وغير واضحة للعيان، ولكن يمكن لمسها في بعض التفاصيل الهامشية التي لا تُلحظ بسهولة، لقد تعرضت التشكيلات العسكرية هذه لهجمات متواصلة من إسرائيل والسلطة، وفي بعض الاحيان اغتالت إسرائيل بعض عناصرها، ولكن لم تكن التنظيمات في غزة، والقسام بخاصة، دائما تعلن تبنيها للشهداء، إنما تتبنى فقط عناصرها التي تعمل بناء على أوامرها وتحت إشرافها. وهذا بالمناسبة أسلوب القسام منذ زمن طويل، كثير من العمليات المحدودة التي نفذها عناصر من الكتائب في غزة نفسها قبل وبعد الانسحاب الاسرائيلي في ٢٠٠٥ لم تصدر الكتائب بيانات تبني رسمية لهم، ولم تسجل معلوماتهم وبياناتهم على موقعها الالكتروني الرسمي، وكان هدفها من ذلك منع أي أعمال فردية خارج نطاقها.
إذا كيف واجهت حماس في الضفة سعي كتائب القسام في غزة لتجنيد عناصر من الضفة نفسها؟ قاموا بتجنيدهم بنفسهم، وضعوهم في وجه المدفع الاسرائيلي وحولوهم إلى مطلوبين، ولم يزودوهم بأي خطط واضحة للعمل أو القتال! ولذا لم يكن من المستغرب أن تتعاون هذه الخلايا مع عناصر من فتح على علاقة وثيقة بالأجهزة الأمنية!
بالتزامن مع ذلك بدأ هجوم إعلامي على يحيى السنوار، قاد الهجوم صحفيون ونشطاء محسوبون على تيارات سياسية تتلقى تمويلها من جهات متعددة، الحكومة القطرية وحكومات خليجية أخرى بالإضافة الى السلطة الفلسطينية، لبنانيون وسوريون ومصريون وخليجيون وأهم من ذلك فلسطينيون يتمركزون داخل فلسطين وخارجها وبعضهم يتبع لحركة حماس نفسها، يتحدثون بكل ما يخطر في بالهم من هراء، مجنون، استعراضي لا يجيد القيادة، بلطجي لا يستحق القيادة، بالنسبة له فالحرب ضد إسرائيل نزاع شخصي مع نتنياهو قد علق فيه الشعب الفلسطيني في المنتصف. في ٢٠١٨ قال يحيى السنوار خلال مقابلة صحفية: "عندما تمشي على الشاطئ وقت الغروب، ترى شبابا يتسامرون ويتحدثون عما يبدو عليه العالم خلف البحر، وما هو شكل الحياة ورائه، إنه لأمر كاسر للقلب، وحري به أي يكسر قلب أي أحد، أريدهم أحرارا". كانت حرب ٢٠٢١ هي المعركة الرابعة التي تخوضها حماس ضد إسرائيل انطلاقا من غزة (بخلاف العديد من التصعيدات المحدودة)، وكانت هي الحرب الأولى التي تخوضها غزة تحت قيادة الشهيد يحيى السنوار، وكان وقتها عضو في المجلس العسكري وقائد الشق المدني في حركة حماس ورئيس الحركة في غزة، قبل بداية الحرب كان السنوار قد وجه بتشكيل لجنة تحت إشراف مكتبه كانت مهمتها "تجهيز" غزة للحرب، قبل بداية الحرب كانت مخازن الطعام والأدوية والمهام الطبية ممتلئة، وكان عناصر الأمن مستعدين للتعامل مع أي تاجر يرفع أسعار الطعام أو يرفض بيعه، أما البلديات فكانت جميع آلياتها ومعداتها على أتم الاستعداد للتعامل مع أي قصف خاصة لو استهدف أبراجا سكنية ونتج عنه إغلاق للشوارع لم يمنع عنا يحيى السنوار الموت والصواريخ والدمار، لكنه لم يتركنا وحدنا ساعة القتال، كما أنه قاتل من أجلنا أيضا! أي بلطجي استعراضي مجنون يفعل ذلك يا أبناء العاهرات؟
ما الذي يجعل الشعب شعبا؟ لقد ساهمت اعتبارات سياسية واقتصادية في أوروبا في قرون عصر النهضة وما بعدها في نشأة الأفكار والأيديولوجيات القومية، وتمكنت هذه بفضل عنف نخبوي ثقافي وسياسي من صهر مجموعات كبيرة ومتنوعة من السكان داخل بوتقات قومية متعددة، لقد اعتمدت الايديولوجية القومية على استثناء الاختلافات وتضخيم أهمية التجربة المشتركة، بالترافق مع اختراع روابط وهمية بماضي سحيق لانتاج هوية موحدة متخيلة، ما الذي يجمع بين الباسكيين والنورماند في فرنسا؟ او بين القطلونيين والقشتاليين في إسبانيا؟ لقد استوردت الافكار القومية من أوروبا وانتشرت في المنطقة العربية، وتطورت مع الوقت الى افكار وطنية قطرية لا تقل سخافة عن سابقتها، لكنها بالنهاية سُمح لها بالنضوج وتبنتها النظم السياسية الحاكمة وحشرتها في حلوق الناس رغما عبر السياسات التعليمية، لكن في فلسطين فإننا لا نزال نبحث عن طريقة لصياغة هويتنا كما يجب، ولم يحدث أن وُجدت في تاريخ شعبنا القصير قوة دافعة تجاه تشكيل هذه الهوية وتشكيل وجهة نظر مشتركة عنها يؤمن بها غالبية (على الاقل، لا اريد ان اقول جميع) المنتمين إليها باعتبارهم فلسطينيين. لا تعنيني الفكرة القومية أو الوطنية أبدا، ولكني أعرف مصادرها، وفي الحالة الفلسطينية بالذات فإن لها مصادر مثيرة للاهتمام، هناك من يتتبع خطوات الآخرين باعا بباع وذراعا بذراع، وينقبون في التاريخ عما يلوون عنقه فيصبح مرجعا لهراءهم، لن اعترض على وجود هوية فلسطينية موحدة، لا مانع لدي، لكن إن قرر غبي عديم الموهبة محدود الخيال، سواء كان روائيا أردنيا أو أكاديميا عربيا إسرائيليا أو يخبرني أن ظاهر العمر الزيداني هو مؤسس أول دولة فلسطينية مستقلة فسأردح له! ومن سيخبرني أنه يملك صلة جينية وثقافية وهوياتية مستمرة تصله بالفلسط أو الكنعانيين أو الفينيقيين فسوف "أشيله وأبوسه ؤاحطه جنب الحيط"، وإن أخبرني آخر أن النكبة حدث مؤسس في وعي الفلسطينيين لهوية مشتركة، فسأصعد معه على قمة أعلى جبل في شرق الأردن وأعطبه تلسكوبا وسأقول له: انظر غربا "وطلعلي اياها الهوية المشتركة".
حتى ما سردته في بداية هذا النص من حوادث تاريخية يظهر فيها ��يء من النمط المتكرر في التاريخ السياسي لمدينة غزة، فإنها ليست بأي حال ذريعة لتشكيل هوية انعزالية أو فصل لغزة عن سياقات أكبر منها، إنما هو ببساطة توضيح للسياق الجيوبوليتيكي لهذه المنطقة، وكيف أنه، وعلى مر الأزمان المختلفة، قد أثر على غزة بديناميات متشابهة. لقد قلت سابقا أن النكبة لم توحد الفلسطينيين، بل قسمتهم، وكان من قبيل تقسيمها لهم أنها حرمتهم من التفاعل من أجل تشكيل هوية مشتركة مثل بقية شعوب المنطقة وأنظمتها الحاكمة، وأصبحت النكبة هي بذاتها محور هذه الهوية، ولكن ذلك لم يكن كافيا، لأن "الفلسطينات" التي تشكلت على إثر النكبة، لم تقم بصياغة علاقتها بالنكبة وبإسرائيل بذات الطريقة.
قبل النكبة مارس المجموع السكاني العربي الفلسطيني السياسة في نطاق الفئويات التي كانت مفروضة على المجتمعات المنضوية تحت نطاق العالم العثماني، مسلمون ومسيحيون ويهود، سنة وشيعة ودروز، قيس ويمان، مدنيون وفلاحون وبدو، أهل بحر وأهل جبال، ان مساحة فلسطين العثمانية كانت أقل من مساحة سنجق دمشق لوحده! ورغم ذلك كانت مقسمة بين ايالتين وفيها ٥ سناجق! هي تقسيمات إدارية، أعلم، ولكنها كانت ضرورية من أجل إحكام سيطرة السلطة المركزية على التنوع الفسيفسائي الذي تشكل من المكونات الطائفية والعرقية والقبلية المختلفة! في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي بدأت منظمة التحرير بزعامة فتح في محاولة تشكيل مجموعة من الرموز ��لوطنية وفرضها باعتبارها مكونات للهوية الفلسطينية، كان لدى ياسر عرفات اهتمام عميق بإظهار نفسه زعيما للكل الفلسطيني وصاحب قرار في جميع الساحات التي يتواجد فيها الفلسطينيون، ذكر عز الدين المناصرة مرة قصة عن زيارة قام بها ياسر عرفات لمقر مجلة فلسطين الثورة في بيروت برفقة وفد طلابي عربي، وحدثهم الرجل بحماسة عن رسالة وصلت إليه من مجموعة من الطلاب الفلسطينيين في الداخل المحتل، وطلب فجأة من المناصرة أن يحضرها له، وقد توتر الرجل ولم يعرف كيف يجيبه وكيف يتخلص من هذه الورطة التي أوقعه فيها عرفات، وحاول الاعتذار له وسؤاله عن أي رسالة بالضبط يتحدث؟ فتبرم عرفات بصوت مسموع ثم عاد يتحدث مع ضيوفه بابتسامة عريضة وكأن شيئا لم يكن، ولاحقا قال أحد زملاء المناصرة في المجلة ان هذه هو "عوايد ابو عمار" وأنه لا يوجد رسالة من الأصل، خطر في بالي تساؤل إن كان عرفات يعرف وقتها أن "الطلاب الفلسطينيين في الداخل المحتل" ينشدون النشيد الوطني الاسرائيلي صباح كل يوم في مدارسهم أم لا. كان ياسر عرفات يريد ان يرتدي جميع الفلسطينيين الكوفية، وأن يكون لدى كل فلسطينية ثوب تراثي، وأن يأكلوا المقلوبة والمسخن والفلافل والمناقيش ويرقصوا الدبكة، وأن يغنوا نشيد "فدائي" كل صباح، وأن يأمنوا جميعا أنهم أبناء شعب واحد، لست معنيا بتفنيد أي من هذه الرموز أو معارضة فلسطينية أي منها، لكني لن أقبل أبدا بتحويل فلسطين إلى مجموعة رموز يصبح اعتناقها وتكريمها مرادفا لحمل السلاح وبديلا عنه، ولن أقبل أن تُختزل فلسطين في مظاهر احتفالية، فيصبح شعب فلسطين هو شعب أوسلو، ويتحول الناس من أهل حق وأولياء دم وأصحاب ثأر إلى مجموعة من الخولات، وفي هذه اللحظة تصبح الرموز التي تستخدم لتعريف فلسطين هي هلاكها واندثارها. أنا أعرف أن هذه الرموز قد اخترعت في لحظة ما من أجل الرد على السردية التي فرضت من خلالها الصهيونية إسرائيل على هذه الأرض، ولكن ينسى الناس في خضم معركتهم على هوية الحمص والشاورما أن المجزرة الصهيونية الاولى قد ارتكبت قبل صناعة صحن الحمص الاسرائيلي الأول.
أعرف أن هذا كلام خطير بميزان الكثيرين، لأن هؤلاء الكثيرين يعرّفون حقهم بقدرتهم على تفنيد ادعاء من يعتدي عليهم به، ولست أعلم ما الوجاهة في الرد على هراء العودة إلى الأرض الموعودة بهراء الهوية المستمرة في التاريخ القديم؟ فكلاهما هراء. أنا لا أريد تحرير فلسطين، لم يعد هذا من أولوياتي، لا أريد العودة إلى قرية جدي، وماذا أعرف عنها؟ هل لي فيها عرق ودماء وقبور منبوشة وكرامة مسفوحة؟ أنا فقط لا أريد أن أعيش في نفس العالم الذي توجد فيه إسرائيل، وبإمكاني ببساطة أن ابني هويتي وانتمائاتي بناء على ذلك. هل خلقت النكبة هوية موحدة؟ كلا، لأنها لم تخلق مجموعا سكانيا يجمع بكليته على ضرورة زوال إسرائيل.
في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ بدأت عملية عسكرية واسعة النطاق اقتحم فيها مئات المقاتلين من كتائب القسام خط الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل، وهاجموا مستوطنات وكيبوتسات منطقة غلاف غزة، تحت غطاء آلاف من القذائف والصواريخ، خاضوا قتالا ضد فرقة غزة في الجيش الاسرائيلي قوات الشرطة، اقتحموا المواقع العسكرية وقتلوا وأسروا الكثيرين، اقتحم الحدود رفقتهم آلاف من الناس، واستمرت فوضى الحدود هذه لعدة أيام، استشهد الكثيرون في هذا الهجوم وعدت إسرائيل حوالي ألفي جثة وقبل أن تنتهي من العد خفضت العدد إلى حوالي ١٢٠٠ لأن الباقين كانوا من المقتحمين وكان من الصعب التمييز بينهم وبين القتلى الاسرائيليين بسيب التشوه الكبير الذي طال الجثث بسبب كثافة النيران. خلال العملية ظهر تسجيل للشهيد محمد الضيف القائد العام لكتائب القسام يدعو فيه الناس الى المشاركة في العملية العسكرية التي أسماها "طوفان الأقصى"، كان الشهيد يتحدث عن الجميع بلا استثناء، وأظنه كان يخص بالذكر كل أولئك الجبناء الذين هتفوا طيلة السنوات الماضية قائلين "حط السيف قبال السيف .. احنا رجال محمد ضيف"، لقد بحث محمد الضيف عن رجاله يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ولم يجد إلا أولئك الذين كانوا حوله منذ عقود، الذين دربهم بيده، وحفر معهم الأنفاق، الذين قاتل بجوارهم، وشاهدهم يستشهدون واحدا تلو الآخر، لم يجد معه سوى رجال غزة فقط الذين لم يحتج أي منهم إلى دعوة للقتال.

فرع جامعة الأقصى في خانيونس بعد نهاية الاجتياح الاسرائيلي لغرب خانيونس (أبريل ٢٠٢٤).
في الأسبوع الأول من الحرب كنت أتحدث مع أصدقائي بقلق عن الوضع، وأخبرهم أن محور المقاومة لن يترك غزة لوحدها، كيف يمكن أن تستعدي إسرائيل وتقبل بتهشيم رأس السكين الذي توجهه نحو حلقها؟ (لا أعلم كيف لا زلت أذكر هذا الهراء اليوم)، لكن لم يحدث أن ذكرت الضفة أو الداخل ولو بشق كلمة، فمفارخ الخولات هذه لا رجاء منها، وما خيب أي منهم الظن.
في ١٩٤٩ استخدم ديفيد بن غوريون الاسرائيليين العرب كخزان أصوات للحصول على حجم أكبر من التمثيل البرلماني في الكنيست، لم يكن حزب مباي في ذلك الوقت يقبل العرب أعضاء، لذلك كان الحزب يطرح قوائم انتخابية أخرى مرتبطة به يترأسها بعض العرب، في تلك الانتخابات شارك ٩٢٪ من العرب في التصويت، وفي الانتخابات التالية ١٩٥١ ارتفعت النسبة إلى ٩٧٪، هذه النسب العالية، وحقيقة تصويت العرب في إسرائيل لمتعاونين مع بن غوريون ولقوائم مبام والحزب الشيوعي، ينظر اليها الفلسطينيون العرب في سياق ما يسمونه بسياسات الصمود، شخص واحد فقط هو عزمي بشارة تحدى هذه السردية ووصف الفعل هذا وسلوك الاسرائيليين العرب في إسرائيل عشية النكبة بأنه محكوم بسياسات الخوف، هم ليسوا مضطرين للتماشي مع المؤسسة الإسرائيلية ويمارسون السياسة تحت سقفها وفي سياقها لأنها الوسيلة الوحيدة لتعزيز صمودهم داخل أراضيهم (وبهذه الطريقة نجحوا في حماية أنفسهم من خطر التهجير)، هم ببساطة خائفون.
ما هي المشاعر التي استثارتها عملية السابع من أكتوبر والرد الإسرائيلي عليها، المستمر حتى اللحظة، في نفوس الضفاويين والإسرائيليين العرب؟ هل شعروا بالخوف؟
بعد مضي عدة أيام من بداية الإبادة ظهر تسجيل مصور لمجموعة من الاسرائيليين العرب في بلدة رهط في النقب، كانوا يرابطون على مدخل البلدة من أجل "حمايتها" بعد وصول أخبار عن نجاح بعض مقاتلي القسام في تجاوز خط بلدات الغلاف، كان السفلة يتضاحكون ويفتخرون بتقديمهم الدعم لقوات الشرطة، ولكن خلف معنوياتهم العالية كان يختفي شعور عميق بالخوف، ليس من إسرائيل، لا من شرطتها ولا جيشها، لكن من القسام، الغزيون الاغلاظ القساة، القادمون لتدمير حياتهم الآمنة المستقرة.
في ١٧ أكتوبر قصفت إسرائيل ساحة خارجية داخل أسوار المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) وسط مدينة غزة، ��قتلت بصاروخ واحد حوالي ٤٨١ شخصا! كانت هذه الخطوة الأولى في سلسلة من الخطوات المستمرة حتى الآن، والتي ستدفع بواسطتها إسرائيل الإبادة إلى حدها الأقصى كممارسة روتينية مستمرة تتكون من تشكيلة واسعة من جرائم الحرب، لم يتخذ العالم أي ردة فعل، لم يتخذ الإقليم أي ردة فعل، لم يتخذ الفلسطينيون أي ردة فعل، واستمرت على إثر هذا السكوت المخزي الإبادة كماكينة فعالة متواصلة حتى اللحظة.
أذكر أن المظاهرات قد اندلعت في عدة أماكن، ولكنها لم تنجح في التدحرج إلى ظاهرة شعبية، أما في الضفة، أذكر أن الأمة النابلسية قد أخذت اجازة لعدة ساعات من أكل الكلاج والكنافة ونظمت "وقفة" احتجاجية في أحد ميادين المدينة، يبلغ عدد سكان مدينة نابلس التقديري حسب الجهاز المركزي للإحصاء حوالي ١٧٥ ألف نسمة، وقد ظهر في هذه الوقفة الاحتجاجية مشاركون عددهم أقل من عدد المشاركين في مظاهرة طلابية في مصر، لم تخرج من جامعة عين شمس او القاهرة او الاسكندرية، بل من جامعة طنطا!
شن الجيش حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية، وبحلول ٣٠ أكتوبر كان عدد المعتقلين ١٧٠٠ شخص، وبسبب هذا العدد العالي من المعتقلين ادعى كثيرون أن العمل الشعبي والعسكري في الضفة مصاب بالشلل لأن جميع المسؤولين عن تنظيمه في السجون! يبلغ عدد سكان الضفة الغربية حوالي ثلاثة ملايين وربع المليون نسمة، منهم ما نسبته ٤٢ - ٤٣ ٪ من البالغين من عمر ١٨ - ٥٩ سنة، ولأن الاعتقالات طالت غالبا الذكور، ولأن العمل الشعبي في فلسطين هو ذكوري بالمجمل، سآخذ بالاعتبار أن نسبة الذكور في الضفة مقارنة بالإناث تربو قليلا على النصف، فهذا يعني أن اعتقال أقل من 2.4٪ من عدد سكان الضفة المؤهلين لممارسة العمل الشعبي طبقا لمعايير هذا العمل في فلسطين (0.07٪ من إجمالي السكان في الضفة) قد كان كافيا لإصابة قدرة هذه الساحة على إنتاج أي رد فعل تجاه الاحتلال بالشلل، ولو صدقت معادلتي فهذا يعني ببساطة أن هذه البقعة النجسة لم يكن يُرجى منها أي أمل بجميع الأحوال!
لا يزال الضفاويون والاسرائيليون العرب يستبطنون ذات الفكرة: نحن لسنا مثل غزة! في هذه الأوقات العصيبة سيشعر أي روبوت يعيش في هذه البلاد بالخطر! إن كنت غير قادر على تصور الفظائع التي أتت بدول�� إسرائيل إلى حيز الوجود وغير قادر على لمس هول المقتلة وجريمة الحرب التي ارتكبت بحق سكان هذه الأرض عام ١٩٤٨، وإن كنت قد اعتدت جرائم الاحتلال بكثافتها المنخفضة تجاهك خلال السنوات الماضية واستطاع عقلك أن يحولها إلى مشاهد روتينية وأحداث أقتنعت أن لديك القدرة على النجاة منها، فكيف تستطيع تجاوز الابادة المهولة التي يصورها الغزيون مباشرة وتعرض على الشاشات كل يوم! كيف يمكنك أن تعيش حياة طبيعية بينما قتل ٤٨٠ شخص في مستشفى بصاروخ واحد هو أمر عادي، ومسح مدينة كاملة عن الوجود هو أمر عادي وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها هو أمر عادي؟ كيف يمكنك أن تعيش حياة طبيعية وكل ذلك يحدث على مرمى حجر منك؟ كيف يمكنك أن تقبل بتمرير كل ذلك الهول على يد ذات الكيان المختل الذي يحتل أرضك ويتحكم في كل تفاصيل حياتك؟ أظن أن الجواب بسيط: "هذا هول يحدث في غزة فقط، نحن لسنا مثل غزة". ليس الأمر أن إسرائيل قادرة على ارتكاب الإبادة، بل أنها تحدث في غزة، فلا مشكلة في ذلك. لست أصدق أن المكان الذي شارك في انتفاضتين وانتج عشرات العمليات المسلحة وأغلبها كان عمليات استشهادية، قد أصبح عاجزا عن إنتاج أي فعل ثوري أو مقاوم فقط لأن عدة مئات (أو آلاف) من سكانه قد اعتقلوا!
حنى الهجمة التي نفذتها إسرائيل على مخيمات شمال الضفة بالتعاون مع وكلائهم في سلطة أوسلو، لم تتخذ أي جهة وطنية ضدها أي ردة فعل، لقد وصل البلل إلى لحاهم ولا زالت عيونهم مغمضة وقلوبهم قد ظلت سواء السبيل!
بعد ٧ أكتوبر اعتقلت إسرائيل العديد من "عمال إسرائيل" القادمين من غزة، وجزء كبير منهم هرب الى الضفة الغربية، هؤلاء أناس هاربون بلا مأوى ولا أهل، استقبلتهم رام الله واحتجزتهم في ظروف سيئة ومن ثم أجبرتهم على الانتقال إلى معسكر اعتقال في أريحا! ليس لعداء السلطة الأيقوني لحماس علاقة بهذه المعاملة القذرة، لكن هي الطريقة التي تتعامل فيها سلطة رام الله مع غزة إجمالا!
لقد وصلت الضفة إلى درجة وضيعة من اللا اكتراث تجاه غزة، ولم يكن الأمر نتاج حالة متطورة بالتدريج من البلادة بسبب استمرار الإبادة، بل هو ذات النهج المستمر منذ سنين طوال. في نهاية نوفمبر توقف القتال في غزة في هدنة استمرت لمدة 7 أيام، وقد وافقت إسرائيل على الهدنة في مقابل إجراء تبادل للأسرى، أفرجت إسرائيل عن عدد من الأسرى الفلسطينيين إلى الضفة الغربية، وقد استقبلتهم عائلاتهم باحتفالات شعبية وافراح غامرة في مشهد أثار غيظ الكثيرين، ليس عيبا أن تفرح عائلة بابنها المحرر من الأسر، لكن هناك ضوابط بديهية يجب أن يفرضها الفرحون على أنفسهم وطريقة تعبيرهم عن فرحتهم، خاصة إن كان ثمن هذه الفرحة هو دماء ١٤٨٠٠ شهيد حتى تلك اللحظة! بينما كان الضفاويون يحتفلون بخروج ابنائهم من السجون، استغل الغزيون فترة الهدنة هذه من أجل حفر الركام واستخراج جثث شهدائهم. في مخيم خانيونس ظل أفراد من عائلة محتجزون على قيد الحياة تحت الركام لأسابيع لأن منزلهم المهدم فوق رؤوسهم في المخيم كان محاطا بالمنازل من جميع الاتجاهات ولا يتسع أي من الشوارع المؤدية إلى المنزل لإدخال معدات للحفر، وقد ظل جيرانهم يزودونهم بالماء والطعام من فتحات في الركام! أخبرني هذه القصة أحد موظفي الأنروا العاملين في المجال الاغاثي خلال الحرب، ولم تصل تفاصيل هذه القصة الى الاعلام واستشهد راويها في قصف للجيش على مركز للإيواء قبل أن يتاح لي سؤاله عما حدث لهذه العائلة.
أشعر أن الحديث عن الإبادة بلا فائدة، لن أضيف شيئا جديدا لمن سيقرأ، لن أضيف أي معلومة مهمة ولن تغير أي معلومة مهما بلغت أهميتها من الأمر شيئا، لقد مات الناس على الهواء ولم يغير ذلك من الأمر شيئا، لقد صورت إسرائيل قصف البيوت ونسف المجمعات السكنية وإذلال الناس على حواجز التفتيش، وتفاخر جنودها ومرتزقتها بكل وقاحة بكل ما ارتكبوه من فظائع ولم يغير ذلك من الأمر شيئا، إن ما يحدث في غزة ليست أول إبادة جماعية في التاريخ، ولكنها أول إبادة جماعية تحدث أمام الكاميرات، يقوم بها كيان إبادي مختل بدون اكتراث للعالم أجمع. في العادة فإن من يخطط لارتكاب الإبادة، أي إبادة، يحرص على القيام بجريمته بسرعة وفعالية، قبل أن تصل الكاميرات! قبل أن ينمو إلى علم العالم ما يفعله! لأن العالم، بحسب توقع أكثر المجرمين بشاعة وأكثرهم لا اكتراث، سيتدخل لوقف الإبادة عاجلا أم آجلا! ابادتنا تلقى التشجيع من العالم! لست أريد أن أتحدث عن الإبادة ولا عن تجربتي الشخصية فيها، وأنا مدرك أن معاناتي مما حدث في غزة خلال الشهور الماضية هو أهون بكثير من معاناة الغالبية من الناس هنا، المشكلة ليست أنكم لا تعرفون ما يكفي عن الإبادة، بل أن إيقافها ممكن وفي متناول أيديكم ولستم مستعدين لبذل أي ثمن لتحقيق ذلك.
لقد قبلت الشعوب الفلسطينية وشعوب الإقليم وحكوماته أن بإمكان العالم أن يستمر بدون غزة وبدون الغزيين، ولذلك فهم في انتظار مستمر منذ ما يقارب السنتين لتنهي إسرائيل مهمتها، إن هذه عملية جراحية مهمة، أو ربما لا ضرر منها، ماذا تفعل عندما تلتهب الزائدة الدودية؟ تستأصلها.
لكن المشكلة أن غزة ليست زائدة، هي فيصل في هذا العالم بين الحق واللا حق، إحدى جبهات القتال القليلة المتبقية المستمرة والفعالة في العالم ضد قوى الاستعمار والاستبداد بجانب الصحراء الغربية، الدليل الوحيد المتبقي على وجود خير في نفوس البشرية، وأن لديهم القدرة على الصمود في وجه الظلم، والمكان الوحيد الذي يرفع السلاح في وجه إسرائيل وكل ما تمثله من شر. إن غزة هي المكان الوحيد الذي يؤمن بأن تحرير فلسطين ممكن وفي المتناول، وأن إسرائيل كيان زائل يمكن تفكيكه والتخلص منه كما تم التخلص من معظم المستعمرات التي خلقها الأوروبيون على مدار القرون الماضية، لن يغلف تاريخ العالم عار أسوأ من ترك غزة تواجه هذه الإبادة الممنهجة بدون أي فعل حقيقي لإيقافها. لقد فتحت غزة باب التحرير أمام جميع الشعوب الفلسطينية بلا استثناء، وهرب الجميع. وعندما فتحت أبواب الجحيم على غزة قالوا: لقد كنا على حق!
إن أشد ما يثير غيظي هو الإحساس المتعجرف والفخور بحالة العجز التي تجتاح الكيانات والساحات الفلسطينية والعربية بلا استثناء، وبخاصة تلك التي كانت ساحة للربيع العربي قبل أقل من عقد ونصف! لقد سُألت نفس السؤال عديد المرات خلال الشهور الماضية: ماذا تريد منا أن نفعل؟ ما الذي بيدنا أن نفعله؟ لو أن بيدنا أن نفعل شيئا لفعلناه ولكننا عاجزون! كيف يُسأل من يساق إلى المقصلة عن كيفية إنقاذه؟ لقد أخذتكم غزة إلى مدرسة الثورة عشرات المرات خلال العقود الماضية، لقد حاربت بالحجارة والرشاشات والصواريخ، حفرت الانفاق وسبحت إلى المستوطنات، حتى عندما نفذت ذخائرها صنعت منها المزيد، لقد علمتكم حتى معنى التضامن، كانت غزة من أوائل الأماكن على وجه هذا الكوكب التي اندلعت فيها المظاهرات ضد الغزو الأمريكي لأفغانستان، مظاهرات تعرضت للقمع والتفريق وإطلاق النار وسقط فيها شهداء وجرحى على يد كلاب أوسلو! ماذا بيدكم أن تفعلوه؟ انظروا إلى غزة واقرأوا تاريخها وتعلموا أيتها الشعوب الوضيعة!
يقودني الجلاد إلى ��عدامي وحولي عشرات الملايين من الأردنيين والمصريين والضفاويين والاسرائيليين العرب ينظرون لي بكل وقاحة وهم يصرخون: ماذا نفعل؟ ننقذك؟ ولكن كيف؟ وأرى في عيونهم خلف الأسئلة الوقحة شمانة يندر أن يمتلكوا الجرأة ليصرحوا بها بألسنتهم، ولو فعلوا لقالوا ببساطة: جنت على نفسها براقش!

مخيمات النازحين في مواصي رفح
أصدر أكاديمي من جامعة هارفارد تقريرا يقدر فيه تقلص أعداد الغزيين من 2.227 مليون إلى 1.85 نسمة خلال الفترة من أكتوبر ٢٠٢٣ حتى مايو ٢٠٢٥! نعرف أن حوالي ١٠٠ ألف شخص تمكنوا من الخروج من غزة (أغلبهم عبر معبر رفح)، وذلك يعني أن ما يقارب ٢٧٧ ألف شخص قد "اختفوا" من الوجود، أكثر من ربع مليون شهيد ومفقود لا نعلم سوى عن حوالي ٦٠ ألف منهم، وصلوا إلى المستشفيات ونجح موظفوا وزارة الصحة في عدهم، والبقية لا نعلم عنهم شيئا. لقد استجاب عقلي ببطء شديد لإدراك هذه التقديرات، وفي قرارة نفسي أعلم أن الوضع أشد هولا وبشاعة.
ما الذي يجعل الشعب شعبا؟ كيف يمكن أن ينتمي ٢٧٧ ألف شهيد ومفقود إلى ذات الشعب الذي ينتمي إليه ملايين آخرون سمحوا بقتلهم وانتهاك أجسادهم دون أن يفعلوا شيئا؟
10 notes
·
View notes
Text
شمينت هرموني
تعرفت من بعد حرب ٢٠١٤ على بعض الاسرائيليين العرب عن طريق فيسبوك وتويتر، كانت يومها كوفية أبو عبيدة عاملة عمايلها في هرموناتهم وأجهزتهم التناسلية، لدرجة كانوا بيسعوا يتعرفوا على غزازوة بأي طريقة، وكانوا يحاولوا وقتها يتنكروا كـ "فلسطينيين"، كان الانترنت ايامها كله عبارة عن حفلة هالووين كبيرة برعاية عدوى فرط افراز الهرمونات الجنسية اللي كانت منتشرة بسبب كوفية أبو عبيدة وقميصه المفتوح وأكمامه المشمرة.
واحدة من اللي تعرفت عليهم ايامها كانت بنت من طمرة، كان من ضمن متطلبات ال Halloween Costume اللي كانت لابساه انه تاخذ موقف من الانتخابات البرلمانية في إسرائيل وترفض المشاركة بالتصزيت للأحزاب العربية (ايامها كان في نسبة حسم عالية وطلعوا لأول مرة بفكرة القائمة المشتركة) .. وبتذكر في هذيك الفترة البنت المقصودة كانت تخوض نقاشات على صفحة فيسبوك مع معارفها من مؤيدي المشاركة في الانتخابات وهيك.
بعد ما خلصت الانتخابات وفاز اليمين (كما هو متوقع) وشكل نتنياهو حكومة من تحالف اليمين اللي كان جزء منه نفتالي بنيت واللي دخل الحكومة يومها كوزير للتعليم، كانت أول المحطات اللي زارها بنيت وقتها هي "طمرة" .. وزار هناك رئيس البلدية وقعد مع المجلس البلدي اللي كانت عضو فيه قريبة للبنت الطمرواية اللي بلش الحكي عنها. بتذكر يومها حكتلي عن الموضوع وسألتها هو رئيس البلدية تبع مين بالضبط؟ يعني جبهة ولا تجمع ولا حركة اسلامية؟ حكتلي انه بينزل كل انتخابات محلية ضمن قائمة "عائلية" وبيفوز بعد ما ياخذ دعم من حزب سياسي، مرة جبهة ومرة تجمع حسب مين فيهم بيقدر يشتريه، وحكت يومها بخجل عن قريبتها اللي بتشتغل في المجلس البلدي واللي .. يااا للعار .. كانت جزء من وفد البلدية اللي استقبل نفتالي بنيت وقعد معه.
المهم، بعد سنوات تقطعت بنا السبل وبطلنا نحكي سوا، حسابي على فيسبوك نفسه تغير، وبعد عدة سنوات تفاجئت في بوست على انستاجرام انها صارت تشتغل في مكتب عضو في الكنيست عن الحركة الاسلامية، في الوقت اللي الحركة الاسلامية "خانت" القائمة المشتركة (حتى بمعايير القائمة المشتركة) وأعلنت تأييدها لليمين الاسرائيلي بشكل علني على أمل رئيس قائمتهم في الكنيست منصور عباس يفوز بمقعد في الحكومة.
الشاهد في القصة، الخلل في افراز الهرمونات دايما مؤقت وطارئ.
2 notes
·
View notes
Text
You are still an image (or: a prayer for longing)
I miss you always my friend, my dearest one in the world, nothing rivals my desire to fill my sight with your existence, with you, the real "you"!
The only trace of you I can hold is a digital copy, an image, a silent portrait glowing on a lifeless screen ... And despite all that emotions stirring in my chest and surging through my veins when I see this picture, there is still one painful truth haunts me: that is nothing in this image will ever compare to seeing you in reality.
It aches me endlessly that I may never witness this photo come to life; to see that smile, hear that laughter, or feel the warmth of your embrace. Perhaps the day will never come when we, side by side, share the same couch, or when I fulfill the many promises I made you in hopes of meeting. This, my dear friend, is what terrifies me most
1 note
·
View note
Text
سعد حداد في غزة
ذاع صيت ياسر ابو شباب منذ شهر اكتوبر الماضي ٢٠٢٤ جنبا الى جنب مع عدد من الاسماء الاخرى مثل شادي الصوفي وآخرين، باعتبارهم جميعا لصوص منظمون لديهم عصابات مختصة في السطو المسلح على الشاحنات المسؤولة عن حمل وايصال المساعدات من المعابر الاسرائيلية في جنوب غزة إلى مقار الانروا وبرنامج الغذاء العالمي ومؤسسات دولية واغاثية اخرى، كان عمل العصابات هذه، او عصابة ياسر ابو شباب على الاقل، يجري تحت مظلة الاحتلال وطائراته المسيرة وفي حماية جنوده ودباباته، وقد تمركز أبو شباب في منطقة عسكرية مغلقة في شرق رفح تحت رعاية الجيش وحمايته، وقد بلغ تعدادهم بحسب تقارير للامم المتحدة صدرت في نهاية العام الماضي، حوالي ١٠٠ مسلح.
سرق ياسر ابو شباب عشرات بل مئات الشاحنات على مدار أسابيع طويلة، وقد أستخدمته اسرائيل للتحكم في "سوق" المساعدات، فهي تدخل المساعدات بنسب قليلة وتدفعه لسرقتها كذلك، ويقوم هو ببيعها بأسعار فلكية للسوق السوداء او يوزعها على القليل من الناس كسبا للولاء.
حتى تلك اللحظة، لم يكن ارتباط ياسر ابو شباب بإسرائيل علنيا، وقد تعامل معه الجميع باعتباره مجرد لص رخيص تحاول اسرائيل الاستفادة من خدماته، وقد حاولت كتائب القسام اغتياله ونجحت في الوصول الى مخبأه عن طريق نفق قريب منه في شرق رفح ونفذت عملية عسكرية اغتيل فيها أخ ياسر ونجى هو منها، وقد رد الاخير بسرقة شاحنة وقود وإحراقها لأول مرة، وكانت هذه سابقة اذ لم يكن يستهدف في ذلك الوقت سوى شاحنات الطحين والغذاء فحسب.
خلال فترة الهدنة (بداية من ١٩ يناير) هدأت أعمال أبو شباب وظل متمركزا في جحره في شرق رفح بجوار رعاته من الجيش، ويبدو انه استغل تلك الفترة، والفترة التي تلت انتهاء الهدنة في ١٩ مارس في تجنيد عدد اكبر من المسلحين، وهو أمر سهل نسبيا بسبب هندسة اسرائيل للمجاعة بشكل فعال بشكل يتزامن مع رعاية الفوضى وزعزعة السلم الاهلي وتفكيك النسيج الاجتماعي ��لذي يتعرض لضربات قاصمة منذ بداية الحرب، بسبب الحرب نفسها وما رافقها من دمار ونزوح وتفكيك للشبكات الاجتماعية التقليدية، بسبب الجوع، و/او بسبب الاستهداف المستمر والممنهج لعناصر الامن وخاصة المسؤولين عن تأمين المساعدات او حماية المواطنين من عصابات السرقة، هناك اسباب اخرى تتمثل في الخلفية الاجتماعية لياسر ابو شباب نفسه، تساعد في صياغتها مجموعة من العوامل مثل حقيقة كونه مجرما مدانا قضى بعض الوقت في السجن بجانب الكثيرين ممن هم من طينته، وعوامل أخرى افضل عدم الحديث عنها لأنها عوامل نسبية لن يفهمها سوى اهل غزة ذاتهم.
بأي حال، عاد ياسر ابو شباب بعد الهدنة بوجه جديد، وبعصابة يبلغ تعدادها حوالي ٣٠٠ مسلح، اغلبهم مسلحون برشاشات وذخائر صادرها الجيش من غزة نفسها (اي انها سلاح تابع للمقاومة)، وبعضهم يحمل بنادق امريكية من طراز M16، وهو طراز اختفى تقريبا من غزة منذ سنوات طويلة، واوكل�� الى ياسر ابو شباب وعصابته مهمة تنظيم عمليات السرقة، فهم مسؤولون الان عن حماية الشاحنات حتى وصولها الى ما يصفه ابو شباب نفسه باسم "مناطق سيطرة حماس"، وهي مناطق لا يوجد فيها اوامر اخلاء، حيث تقوم عصابات ومليشيات اخرى، معظمها مشكلة على اساس عائلي وعشائري، بسرقة الشاحنات بانتظام، الغالبية العظمى من الشاحنات التي سمحت بإدخالها قوات الجيش انتهت في الشوارع الرئيسية بالقرب من مواصي رفح او خانيونس - صلاح الدين حيث اوقفتها وسطت عليها العصابات.
اعادت قوات الجيش انتاج ياسر ابو شباب مرة اخرى واعاد هو انتاج نفسه أيضا، وبدأت عصابته المسلحة تعمل علنا لصالح قوات الجيش، فتتقدمهم في عمليات التمشيط والاقتحام وتدلهم على اماكن عيون الانفاق والبيوت المفخخة، وقد نشرت كتائب القسام تسجيلات مصورة تظهر استهداف بعض هؤلاء المرتزقة، وقد اوضحت التسجيلات وجود عناصر تابعة للاجهزة الامنية (رام الله) ضمن صفوف عصابة ابو شباب، ومنهم عناصر اعلنت عائلاتهم سابقا عن استشهادهم في قصف للجيش، لكن من الواضح انهم اعدموا خلال تنفيذ عمليات لصالح الجيش لا العكس. بدأ ياسر ابو شباب بتسمية عصابته بأسماء مختلفة (الدفاع الشعبي - القوات الشعبية الخ) ولا ادري ان استقر على اسم واضح حتى الان، وهو يقوم بنشر بيانات رسمية عبر صفحته على فيسبوك، اخرها كان بيانا للتجنيد، طلب فيه من الشباب من اعمار ١٨ - ٢٥ عاما التجند والالتحاق بعصابته (دفاعا عن امن شعبنا وصونا لكرامة أهلنا ... ضمن خطة شاملة لمواجهة التهديدات التخريبية) وهو بيان صدر بترويسة ذات طابع رسمي تشبه الى حد كبير الترويسات التي تستخدمها الاجهزة الامنية الفلسطينية في بياناتها ومراسلاتها الرسمية، وكان البيان صادرا عن (جهاز مكافحة الارهاب - القيادة العامة للدفاع الشعبي). وبعده صدر بيان اخر اعلن فيه ابو شباب عن تمكن (وحدة العمليات الخاصة التابعة للقوات الشعبية) من استهداف عناصر من مجموعة سهم (الارهابية) وذكرهم البيان بالاسماء، وذكر انه استهدفهم بعبوات مضادة للافراد ويوضح البيان عودة المجموعة "الى قواعدها بسلام" .. ويستعير هنا من يكنب لياسر ابو شباب بياناته لغة الاعلام العسكري التابع لكتائب القسام.
يشكل هذين البيانين سابقة خطيرة في سياق ابو شباب الذي بدأ في تبني أعماله الارهابية وعمالته المفضوحة علنا وبدون أي خوف من أي رادع. ويبدو أن مشروعا للاحتلال بدأ يتمحور حول ابو شباب بوضوح، وهو مشروع سبق وأن نفذته قوات الاحتلال من قبل بنجاعة عدة مرات، منها مثلا حالة جيش لبنان الجنوبي (قوات العميل سعد حداد)، ومنها أيضا، الأجهزة الامنية الفلسطينية، تارة عشية توقيع اتفاقية أوسلو وتارة بعد ٢٠٠٧ وتولي الجنرال الامريكي كيث دايتون مهمة تدريبها في رام الله مرة اخرى بعد سيطرة حماس على غزة. وفي سياق ابو شباب، فإن أفيغدور ليبرمان عضو الكنيست وعضو الحكومة السابق قد صرح، في نبرة استنكار، أن الجيش يسلح عصابات في غزة بالسلاح، وقد استغلت الحكومة الاسرائيلية فرصة الانتقاد العلني هذا من أجل الاعلان بوضوح عن الامر بدون مواربة، وقالت أنه جاء بعد توصيات واضحة من جميع اجهزة الامن الاسرائيلية، وأن إسرائيل ستستعمل كل الوسائل المتاحة للقضاء على حماس.
لقد قامت عصابة ابو شباب باستهداف عناصر وحدة سهم التابعة لأمن حماس بعد ان قامت الوحدة المذكورة بقتل اثنين من قطاع الطرق التابعين للعصابة حيث اجهزت عليهم في محافظة دير البلح، يعني ذلك أن ابو شباب سيأخذ اي تهديد لجواسيسه على محمل الجد وبرد قاس وعلني، سيكون مصحوبا بكثافة نارية عالية ورقابة وحماية اسرائيلية، سيضرب ابو شباب داخل غزة ضد كل من سيقف في طريق اسرائيل وسيضمن ان يكون ذراعا للجيش تصل الى الناس من داخل صفوف المجتمع لا من فوقه او بعيدا عنه جوا او برا، ولا يبدو أن قاطع الطريق هذا سيعطي أي اعتبار لأي رادع وطني أو ديني أو حتى قبلي او عشائري، وقد قامت عشيرة أبو شباب أخيرا التي ينتمي إليها هذا المجرم، وبعد شهور طويلة من فضح تعاونه مع الجيش، بإعلان البراءة منه، ولكن الواضح أن ما يملكه ابو شباب وعصابته من الجواسيس والعملاء من غطاء سيفوق اي حرمان او نبذ اجتماعي، والأمر لا يتعلق بالجيش فحسب، لقد ظهر غسان الدهيني أحد رجال ابو شباب ويصفه البعض بالرجل الثاني في عصابته، في فيديو بجانب سيارة pick up تحمل لوحة تسجيل اماراتية من الشارقة، ووجه في الفيديو تحية لانور رجب المتحدث باسم الاجهزة الامنية في الضفة الغربية، ولذا فإن تحركات ابو شباب في سياق فلسطيني محلي وفي سياق اقليمي تحوز موافقة وتمويل وتشريع العديد من الاطراف منها "الطرف الفلسطيني الرسمي" .. ويبدو ان عناصر امن رام الله العاملين في عصابة ابو شباب، ممن استهدفهم القسام في رفح، لم يكونوا هناك على سبيل المغامرة او تغيير الجو فقط.
0 notes
Text
وأنا والله يا صديقتي ..
لا أزال اشتاق إليك .. رغم كل هذا اليأس ورغم كل ما وضعه الدم والركام بيننا من بعد وجفاء .. وكأن الحدود لوحدها ليست كافية!
2 notes
·
View notes
Text
الأخبار التي يتداولها الإعلام الاسرائيلي تتحدث منذ أيام عن خانيونس بكثافة، والمرحلة التالية بحسب معظم التسريبات والتحليلات ستكون محاولة لتطويق المدينة من الغرب والشمال، وذلك في سبيل السيطرة عليها بشكل كامل وتحويلها إلى رفح جديدة.
الاجتياح سيصل خلال فترة قصيرة إلى مشروع مدينة حمد السكني (شمال مدينة خانيونس، غرب القرارة) وقد قصفت قوات الاحتلال معظم الطوابق العالية في ما تبقى من مباني المدينة السكنية خلال الايام السابقة تمهيدا للاجتياح.
المربعات السكنية التي تبقت على خريطة الجيش بدون اوامر اخلاء في خانيونس هي 4 مربعات سكنية فقط، وجميعها يقع على محور الاجتياح الذي نفذه الجيش خلال يناير ٢٠٢٤ لاجتياح المنطقة الغربية من المدينة، وأحدها يحتوي على مستشفى ناصر الذي سيكون هدفا طبيعيا للاحتلال خاصة بعد الاخبار والتسريبات التي تلت اغتيال محمد السنوار في نفق أسفل المستشفى الأوروبي، إذ قيل أن نفقا يربط بين المسنشفيين كان محمد السنوار يتنقل من خلاله بين المستشفيين باستمرار.
الله يستر ..
0 notes
Text
During the first months of the genocide, the most common thought expressed by many men, describing the hardship of displacement, was the immense burden of family responsibility. Many people would say stuff like: مشكلتي كوم اللحم اللي في رقبتي
Meaning: if they weren’t careworn and weighed down by the duty of providing shelter, protection and food for their families, their ability to adapt to the hardships of the genocide would've been easier and faster.
Nonsense. I know for a fact that a significant number of men in this country, especially those who expressed these very thoughts, would not have survived the genocide to this point if they had been free from thel weight of their familial responsibilities. What I mean is: they wouldn’t have chosen to stay alive this long... Willingly, at least :)
1 note
·
View note
Text
إخلاء
عاجل ‼️ يبدأ المنشور الذي يكتبه المتحدث باسم العصابة السايكوباثية المسماة بالجيش الإسرائيلي على صفحته على فيسبوك بهذه الكلمة، عاجل يتلوها علامتا تعجب، مم يتعجب ابن القحبة هذا؟ لا أعرف، ما أعرفه هو أنه، لكونه متحدثا باسم الجيش، وظيفته ذات طبيعة إعلامية، فإنه يكتب المنشور كمن ينقل خبرًا، عاجل ‼️ إلى سكان محافظة خانيونس ... الى سكان المربعات السكنية .... الى جميع سكان قطاع غزة المتواجدين في ..... الى جميع السكان والنازحين في مناطق ..... جئت أنقل لكم الخبر، عليكم أن تتحركوا وأن تنتقلوا من مكانكم فورا، هناك ملاجئ، صفتها دوما أنها "معروفة"، موجودة في مكان ما داخل غزة، اذهبوا إليها على الفور.
نزحت خلال هذه الحرب 5 مرات، وفي انتظار أمر الإخلاء الخاص بنزوحي السادس، سيصدر في أي لحظة خلال الأيام أو الاسابيع القادمة، لا اعلم ولا أحد يعلم، فأوامر الإخلاء غير متوقعة ولا يوجد نمط واضح يحكمها، على العكس من الكثير من السلوكيات العسكرية الاسرائيلية خلال الحرب والمرتبطة بالاجتياحات البرية على وجه الخصوص، فلا يمكن أن تتوقع أوامر الإخلاء على الإطلاق، تعلم يقينا أنها قادمة، ولكن متى؟ لا أحد يعلم.
لماذا يصدر الجيش أمر الإخلاء؟ سيتحول هذا المكان إلى ساحة قتال، هناك هجوم، وهذا الانذار الأخير قبل الهجوم، إننا نخوض قتالا قاسيا ضد المنظمات الإرهابية في اماكن سكنكم، اخرجوا حتى نقاتلهم بدون مشاكل. لقد بدأ استخدام اوامر الاخلاء في الحرب على غزة منذ سنوات طويلة ... اخلاء احياء سكنية او اخلاء مبانٍ بعينها بغية قصفها، في ١٣ اكتوبر ٢٠٢٣، صدر اول أمر اخلاء من نوعه خلال الحرب نشره الجيش على صفحات المتحدث باسمه ومنسق اعمال الحكومة في المناطق، على جميع السكان المتواجدين شمال وادي غزة الانتقال فورا الى جنوب الوادي. وعلى الرغم من شراسة الامر ولا متطقيته، استجاب له عدد ضخم من الغزيون على مدار الشهور التالية، تحت وطأة النار والتجويع والزحف المستمر للدبابات وعمليات الطرد الممنهجة، وفي ديسمبر ٢٠٢٣ أصدر الجيش خريطته التي تقسم القطاع إلى مربعات سكنية، لا أعرف ما هو مصدرها، وغالبا فأنها خريطة المربعات السكنية التي تعتمدها البلديات وسلطة الأراضي في تحديد قسائم الاراضي وعناوينها، لا أعلم بصراحة.
لماذا يصدر الجيش أوامر الإخلاء؟ هناك ثلاثة نقاط للإجابة على هذا السؤال، الاولى خاصة بالرغبة الابادية المحمومة والراسخة في العقلية الصهيونية والمرتبطة بعقيدة الترانسفير التي يقوم عليها المشروع الصهيوني، استول على الارض واطرد أصحابها، لأن قتلهم، لاعتبارات لوجستية وسياسية، غير متاح في هذه اللحظة. لذلك كان أمر الإخلاء الأول في هذه الحرب عنيفا وشرسا وشاملا .. أمر استهدف حوالي مليون ومئتي ألف مواطن في محافظتي شمال وادي غزة، ومنذ الاسابيع الاولى للحرب كان السايكوباثي الأول وعصابته من المختلين، نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، يتحدثون عن ترحيل وتهجير الفلسطينيين، المخطط الذي لا يزال حيا في عقولهم المريضة حتى اللحظة، حتى بعد عشرين شهر من الإبادة، وحتى بعد عودة النازحين الى شمال وادي غزة في يناير وفبراير الماضيين.
النقطة الثانية تتعلق بالجانب الخاص بتشريع وتقنين الابادة، لأن هذه العصابة الابادية لسبب لا يعلمه إلا الله لا تزال تحرص على الحفاظ على ذلك القناع الشفاف الذي تحاول الظهور من ورائه كدولة حقيقية وجزء من المجتمع الدولي. تخدم أوامر الإخلاء غرضًا قانونيا، فيمكن المحاججة أمام أي محكمة بأن الجيش قد أعطى فرصة للمدنيين في أي مكان يقوم باستهدافه للمغادرة إلى بر أمان وهمي، بعيدا عن نيرانه. وهذا إدعاء لست بصدد منحه الاحترام الكافي للقيام بتفنيده.
المستوى الثالث يتعلق بتحول أوامر الإخلاء خلال الحرب إلى سلاح يستخدمه الجيش ضد المقاومة وضد الناس، ولست أدري بالضبط لكن أظن أن ذلك الغرض من أوامر الإخلاء قد تطور واستحدث خلال الحرب، خاصة عندما كان الجيش يرد على عمليات اطلاق الصواريخ المتفرقة التي كانت تنفذها المقاومة بعد اجتياح رفح، إذ أن الكثير من أوامر الإخلاء لم يتبعه توغلات برية ولا حتى حملات قصف جوية عنيفة، أقسى من المعتاد على الأقل، والاستفادة الوحيدة التي يجنيها الجيش من عملية الاخلاء هي ما يتسبب به من تكدير للناس.
على أن الأمر يتجاوز التكدير فحسب! انها وسيلة للعقاب الجماعي، وأبعادها أكثر عمقا من مجرد الرد على عمل عسكري فحسب، خاصة وإن كان عملا عسكريا غير مؤثر على المستوى الميداني كإطلاق الصواريخ في أغسطس ٢٠٢٤، انها فرض لحالة من انعدام اليقين والامان، لقد جرب كثير من اهالي غزة وخانيونس خيار الصمود في وجه اوامر الاخلاء، وعدم الاستجابة لها، ومحاولة تعزيز عوامل الصمود في بيوتهم واحيائهم، قاموا بتخزين المياة والطعام، واحكموا اغلاق نوافذ بيوتهم وستروها بالستائر، لكن الكلفة التي تحملوها في سبيل قراراتهم كانت عالية، فقدرة اللحم الحي على الصمود في وجه الفسفور الأبيض ورؤوس Mark 84 المتفجرة تظل في أحسن الاحوال محدودة، وإن نجى المرء من القذائف والصواريخ، لن ينجو من رصاص المسيرات رباعية المراوح، ولا من خطر الاعتقال والتعذيب في سديه تيمان، ولا خطر الاغتصاب والنهش على يد كلاب المالينوا البلجيكية. لقد تعلم الغزيون بنزف الدم وكي النار ألا يعارضوا أوامر الاخلاء.
0 notes
Text
الساعة 2:12 ص بلش القصف، اطار الشباك وقع فوق راس الاولاد، صحينا نصرخ .. الاولاد بيبكوا بهوس وبنحاول نهديهم، بعد حوالي ١٠ دقايق انتشر صوت الاسعافات في كل غرب خانيونس، احنا نازحين بمكان قريب من المستشفى لذلك سمعت صوت كل سيارة اسعاف نقلت مصاب أو شهيد طوال الليل، أصوات الانفجارات بتقرب كثير، حوالي الساعة 2:25 ص انتبهت لسيارة إسعاف وصلت عنا على الحارة .. في مخيم نازحين ورانا استهدفت الطيارات فيه 3 خيام. وفي شهداء ومصابين، طلعت من الغرفة وحاولت أوصل للمطبخ أجيب مي للأولاد ووقعت في الطريق ثلاث مرات بسبب ثلاث انفجارات شفت وهج النار تبعها من الشبابيك وحسيت في مرة منهم انه الانفجار اجى في قلبي وفي كل مرة بسمع صراخ النساء والاولاد .. معنديش انترنت ولا قادر اتصل مع حد ولا قادر اعرف اي اخبار، كل اللي الواحد بيعرفه أنه الحرب رجعت، وأنه أكيد القصف في كل مكان في غزة.
هدأ الاولاد نوعا ما لكن كل شوي بنسمع صوت انفجار جديد، الصواريخ أول مرة نسمع مثيلها .. يعني طوال سنة ونص تعودنا على كل أنواع الانفجارات بس هاي انفجارات جديدة.
اقنعنا الاولاد يتسحروا .. اكلنا معاهم، موعد الصلاة الكل قام يتوضأ ويصلي، والمفروض رجعنا ننام، ظل صوت الانفجارات شغال بشكل متقطع، وقدر اميز انو بلش القصف المدفعي في شرق خانيونس و/او رفح ..
بس طلع النهار شبكت انترنت وشغت الاخبار وتطمنت على الناس اللي بعرفهم، عديت شهداء زي اللي قعدوا يعدوا .. حكيت مع كثير ناس والكل مسيطر عليهم ذات الشعور .. ذات الاحباط وذات الغضب .. أكثر من ٣٥٠ شهيد في أكمن ساعة بس. تذكرت قبل نهاية المرحلة الاولى (في شباط يعني) حكيت مع صديقي كلام بما معناه إنو مش معقول تكون إجازتنا من الإبادة شوية كولا وسنكرز العالم كله بيلومنا عشان مش مقاطعينهم! وبس تخلص الهدنة رح نرجع للموت تاني .. إنو بعد كل هاد برضو رح نموت؟ طيب ما كان من الاول وخلصنا عاد!
اليوم مفيش مواد تموينية في السوق، مفيش سكر او زيت قلي ومفيش طحين برضو .. الحاجز بين غزة والجنوب رح يغلق في اي لحظة، وقبل ما يخلص اليوم طلعت اوامر إخلاء جديدة، خزاعة وبيت حانون .. قبل ما يخلص اليوم برضو واحد من النازحين في المنطقة اللي شفناهم بيحملوا عزالهم وبيرجعوا على بيتهم في رفح في ١٩ كانون الثاني الماضي، شفناهم راجعين .. نفس السيارة ونفس الفراش ..
كل عام وانتم بخير ..
1 note
·
View note
Text
يناير 27، درب الآلام محاولة لشحذ ذكرى النزوح الثاني
السطور التالية هي شهادتي الشخصية عن رحلة نزوحي مع عائلتي من مخيم خانيونس في يناير الماضي (2024)، كل ما سأكتبه هنا هو من الذاكرة فقط ومما كتبته في دفاتر مذكراتي خلال تلك الفترة، لم أحاول الاستعانة بأي أرشيفات إخبارية ولا أريد أن أفعل.
في 26 يناير 2024 اضطررنا للخروج من خانيونس رفقة عائلة خالتي التي استضافتنا منذ 13 أكتوبر 2023، أي منذ أن اضطررنا لمغادرة منزلنا في جباليا بعد أول أمر إخلاء أصدرته قوات الاحتلال في الحرب، حيث أمرت سكان شمال وادي غزة بالارتحال جنوبًا، وكانت اول وجهة حددتها قوات الاحتلال هي منطقة المواصي في غرب خانيونس ورفح.
نزحنا في خانيونس فترة تزيد عن الثلاثة شهور، يحتاج الحديث عنها لمقام آخر. في بداية ديسمبر 2023 بدأت قوات الاحتلال عملية إرهابية موسعة في محافظة خانيوس بدأتها بأحزمة نارية على المناطق السكنية الرئيسية في وسط البلد والمناطق الشرقية من المحافظة، ومن ثم بدأت اجتياحًا بريًا كان قوامه الرئيسي جنود الفرقة الثامنة والتسعين من الجيش، وقد شارك في الهجوم أكبر تعداد من الجنود الذين استخدمهم الجيش في أي من اجتياحاته البرية حتى تلك اللحظة في غزة، وقد قيل أن العدد قد وصل إلى تسعين ألف جندي، وكان الهجوم يتزامن مع هجوم حوالي خمسين ألف جندي آخر على مخيم جباليا، لم أشهده ولدي ما أقوله عنه ولكن أيضًا في مقام آخر. استمر الهجوم الضارب على شرق ووسط خانيونس حتى منتصف يناير 2024 تقريبًا وبدأ بعدها التوغل والقصف المدفعي يطال مناطق أخرى من منطقة غرب خانيونس، وهي المنطقة التي يسكنها في الغالب اللاجئون وتتكون في معظمها من مخيمات ومشاريع عمرانية مخصصة لإسكان اللاجئين قامت بتنفيذها وكالة الغوث والسلطات الحاكمة في غزة من قبل أوسلو وبعدها.
في 12 يناير قطعت قوات الاحتلال الاتصالات عن خانيونس بالكامل، وبقينا بدون انترنت أو اتصالات أرضية أو خلوية حتى خروجنا من المدينة. قامت قوات الاحتلال بتوغل سريع للمنطقة الجنوبية من غرب خانيونس ووصلت الآليات إلى مقابر المدينة الواقعة خلف (جنوب) الحي النمساوي تحت غطاء ناري كثيف، وقع الهجوم فجر يوم 13 يناير، وقد كررت هذا الهجوم مرة أخرى في 17 يناير، وبعد خمسة أيام شنت الدبابات هجومًا واسعًا باستخدام ذات المحور الذي استخدمته للتوغل وصولًا إلى المقابر، وقطعت خلال هجومها الطريق بين خانيونس ورفح ووصلت إلى موقع القادسية العسكري التابع لكتائب القسام، والذي يقع بجوار حرم جامعة الأقصى في خانيونس، كما استمر التوغل ليصل إلى إسكانات الوكالة الجديدة في غرب خانيونس وحي الأمل إلى أن وصلت الدبابات إلى مقر كلية تدريب خانيونس التابعة لوكالة الغوث (صناعة الوكالة). في 22 يناير أطلقت دبابة قذيفة على مقر الصناعة وقتلت 14 نازحًا داخل المقر، وكان المقر يؤوي يومها عشرات آلاف النازحين.
أتمت قوات الاحتلال بذلك حصار المنطقة الغربية من خانيوس بالكامل، في 24 يناير سمعنا أن الجيش قد سمح للنازحين في الصناعة وسكان الاسكانات الجديدة بالمغادرة بعرباتهم ومشيًا على الأقدام انطلاقًا من شارع خمسة، وقد اتخذنا قرارًا بالمغادرة من منزل عائلة خالتي في مخيم خانيوس (بلوك جي) ولكن علمنا أن الطرق قد قُطعت بالدبابات في منتصف النهار ولا وسيلة للمغادرة، في فجر اليوم التالي قصفت طائرات الاحتلال الطوابق العليا في جميع المباني العالية (التي تعلو ثلاثة طوابق) في مخيم خانيوس (بلوك جي)، وقد قرر الذي اختار أهداف القصف أن يستثني منزل عائلة خالتي لسبب لا أعلمه من حملة القصف الهمجية. في صباح 26 يناير 2024 وصلتنا أخبار أن الجيش قد فتح "ممرًا آمنًا" من أجل الخروج من خانيونس، والمرور به مسموح للجميع مشيًا على الأقدام. جمعنا ما خف من المتاع وحملناه على ظهورنا وخرجنا، كان هناك ما يقارب الثلاثين شخصًا في المبنى الذي نقطن فيه، وقد تحركنا جميعًا مع بعضنا البعض، وضعت على كتفي ستة أغطية شتوية وعلقت في رقبتي حقيبة بها حاسوبي الشخصي (الذي استخدمه الآن في كتابة هذا النص) ووضعت فيها عشرات الوثائق الرسمية، ومشيت دافعًا الكرسي المتحرك لأخي الصغير وبجانبي مشت أختي الكبيرة تجر قدميها جرًا، وقد رفضت قبل خروجنا أن أعطيها حقنة خافض حرارة لتعينها على الحمى أثناء الطريق، حاولنا ان نتحاشى الطرق المليئة بالردم، وقد كانت هذه مهمة صعبة، بما أن لم يتبق شارع في المخيم لم يسلم فيه بيت واحد على الأقل من القصف خلال الليلة الماضية. ولكننا تمكننا بشكل ما من الوصول إلى دوار الظهرة، ومن هناك توجهنا غربًا في الشارع المليء بالردم باتجاه البحر.
عند وصولنا إلى دوار الظهرة بدأت تظهر درجة الازدحام الحقيقي، الآلاف من الناس من النازحين في المدارس المحيطة بمستشفى ناصر والنازحون في المستشفى ذاته، كانوا متجمهرين داخل الشارع، ويسيرون بخطى بطيئة خائفة وعيون تترصد المسيرات رباعية المراوح التي كانت تحلق فوقنا على ارتفاعات منخفضة، فجأة وجدت بعض المارة قد رفعوا بطاقات الهوية الخاصة بهم مشرعة ومفتوحة في الهواء، يعني هذا ان جنودًا موجودين في الجوار، وهذا إجراء تعلمه بعض هؤلاء النازحون عندما مروا عبر الحاجز في نتيساريم عندما نزحوا من غزة إلى الجنوب بعد بداية الاجتياح البري لمدينة غزة في 27 أكتوبر 2023، حيث كان النازحون يُأمرون بالوقوف على الحاجز ساعات وهم رافعوا أيديهم حاملة بطاقات هوياتهم في الهواء، تلفت حولي فلم اشاهد أي جنود على الإطلاق، كان سيل البشر الذي يمشي من حولي يحجب عني الكثير من الأشياء التي قيل لي لاحقًا أنها حدثت أثناء مرورنا ولكنني لم أشاهدها، وكنت أركز لحظتها على دفع كرسي أخي الصغير وأتحاشى أن يعلق كرسيه المتحرك في شظايا الردم المتناثرة في الشارع.
وصلنا أثناء سيرنا إلى جامع الشافعي. اللحظة الأولى التي شاهدت فيها جنودًا، ورأيت، ربما لأول مرة في حياتي، رأي العين، دبابات الميركافاة 3، كان هناك دباباتان، واحدة بجانب الجامع والأخرى مقابلها، ولكن قبل أن ألحظ الدبابات كان مشهد الجامع نفسه هو ما صدمني، حيث كان جزء من جدرانه مهدمًا وبعض الجنود بعتادهم الكامل وبنادقهم المصوبة على الجموع المارة يحدقون فينا من خلف الجدران ومن خلف نظاراتهم السوداء. لم يطلق أي من الجنود النار ولكن أخي الصغير بدأ بالبكاء وأخذ يرجوني أن أدفع كرسيه بسرعة أكبر، خوفًا من أن يبدأ الجنود بالإطلاق.
لم أقدر على التحرك أسرع، السر في تجاوز هكذا مواقف يكمن في الهدوء، أنت الآن ورفقتك الآلاف من الناس تحت رحمة ماكينة الموت وبشكل مباشر، يحدق فيك القاتل وفوهة بندقيته، منذ أكتوبر الماضي اختبرنا الموت عن بعد، والقتلة يحدقون فينا عبر الشاشات فقط وكأنهم يتنافسون في لعبة فيديو، وكنت أعلم علم اليقين في تلك اللحظة أن الغالبية العظمى من هؤلاء القتلة كانوا ينتظرون لحظات مثل هذه من أجل يمارسوا هوايتهم الدموية بشكل أكثر واقعية، وما الذي سيحدث لو أطلق جندي النار على رأسي أو رأس أخي عند أي بادرة شك، بادرة يمكن أن يستثيرها أي فعل تافه مثل أن أحاول الإسراع والابتعاد عن مشهد الجنود دافعًا كرسي أخي العاجز؟ لا شيء، الضابط الذي أصدر الأمر قبل عدة ساعات لجنوده بأن لا يطلق أحدهم النار على أحد من المارة، ربما سيرى مشهد الدم ويهز كتفيه بلا اكتراث، والمارة من حولي سيمشون ولن يفعل أحدهم شيئًا، وماذا بإمكانهم أن يفعلوا!؟
استمررت بالمشي، أسرعت الخطى عندما سمح لنا الطريق واندفاع الناس، ومع الوقت بدأت أفقد رؤيتي للكثير من الثلاثين شخص الذي خرجت من نفسي المبنى معهم في بلوك جي قبل حوالي الساعة، ولم أجد حولي سوى أخي الصغير الذي أدفع كرسيه وأختي الكبيرة التي دب فيها النشاط رغم المرض فجأة بسبب التوتر وفرط أفراز الكورتيزول والأدرينالين. وصلنا إلى حافة موقع القادسية، عدة أشهر قضيتها في خانيونس وقد زرت هذه المنطقة عدة مرات ولم اكن أقدر على مشاهدة شيء من داخل الموقع أبدًا بسبب الأشجار الكثيفة المحيطة به والاسيجة التي تسوِّره بالكامل، ولكنه كان أمامي أثرًا بعد عين، تجوبه المدرعات وجرافات الـ "دي 9" وعدد من دبابات الميركافاة 4، توقفنا بسبب حاجز من المدرعات التي وقفت بيننا وبين "الحلَّابة"، على يسارنا محطة المنتزه للمحروقات وعلى يميننا الشارع المؤدي إلى صناعة الوكالة والحي الهولندي، أما أمامنا فهناك فرقة كاملة من الجيش، دبابات ومدرعات على مد البصر، الشارع الذي رُصف قبل الحرب بعدة أشهر قد تحول إلى سافية من الرمال، وعلى جانبي الطريق كثبان رملية عالية، في الجانب الشمالي من الشارع هناك عدد هائل من الجنود المتمنطقين ببنادقهم، وفي منتصف الشارع كثبان عالية، وخلفها في الجانب الجنوبي من الشارع أرتال كاملة من المدرعات والدبابات.
لم يكن يخطر في بالي أننا سننتظر كل هذا الوقت أمام الحاجز، عندما مررنا بالجنود المتمركزين في جامع الشافعي والدبابتين إلى جواره ظننت أننا قد قطعنا الحاجز فعلًا، ولكن لم أكن أعلم أن الجنود خلفنا كانت مهمتهم هي منعنا من العودة وليس تنظيم مرورنا من هناك فحسب. كان الحاجز أمامنا فعلًا ينقسم إلى قسمين، القسم الأول هو الذي كنا ننتظر فيه، الآلاف يقفون ويجلسون على الرمل والاسفلت بجانب محطة المحروقات والطريق المؤدي إلى الحي الهولندي، والقسم الثاني هو المسافة ما بين المحطة والموقع العسكري الذي نصبه الجيش في موقع القادسية مقابل المحكمة الشرعية ومستشفى الخير، وتسمح المدرعات كل حين وآخر بمرور عدة مئات من الأشخاص إلى منطقة الحاجز، حيث تمر النساء والأطفال بدون تفتيش، أما الرجال فيقفون في طوابير طويلة ويتقدم كل خمسة منهم للوقوف أمام حامل به عدة كاميرات عالية الدقة حاملين بطاقات هويتهم، ويحيط بهم الجنود من الجانبين، هذا ما وصفته قبل عدة سطور بـ "الحلَّابة"، وهي تسمية معروفة وقيل لي أنها مستخدمة لوصف حواجز تفتيش الاحتلال منذ عقود طويلة ولا أعرف ما هو أصلها بالضبط. بينما يمر الناس كان هناك صوت يخرج من مكبرات صوت مزروعة في الكثبان يخاطبهم بالعربية، بنبرة هادئة ولهجة محايدة ويطلب منهم إما التقدم وعبور الحاجز، أو يطلب من واحد أو اثنين من الخمسة الواقفين امام الكاميرات أن يضعوا ما بحوزتهم من متاع عند نقطة معينة والدخول إلى الموقع العسكري، حيث ينتظرهم الجنود هناك لكي يقتادوهم إلى مكان الاحتجاز.
خمسة يخضعون للفحص كل 15 ثانية، عشرون كل دقيقة، 1200 شخص كل ساعة، أجريت هذه المعادلة في ذهني بسرعة، نظرت إلى الخلف وإلى جانبي الطريق، لم استطع تقدير أعداد الموجودين هنا لكنني كنت أعلم أن ما تبقى من ساعات النهار غير كافٍ لإجراء هذا الفحص لجميع الموجودين على هذا الحاجز.
"النسوان والأطفال يقدموا قدام من غير تفتيش .. الزلام يستنوا ورا" .. أحد الضباط هتف بهذا الهتاف عشرات المرات عبر مكبر للصوت كان يحمله وهو يحادثنا ورأسه بارزة من كوة واحدة من المدرعات الموجودة أمامنا لتنظم عملية مرور الناس عبر الحاجز، كانت في لكنته عجمة واضحة، على النقيض من ذلك الصوت الذي كان يخاطب المارين بطابور الفحص والذي يحمل نبرة ساخرة واضحة، جارنا في المدرعة القريبة كان يجتهد لكي يحمل صوته نبرة مطمئنة، كان يبدو كمسؤول حكومي في موسم الانتخابات وهو يطمئن الجهور في دائرة حكومية. وقد نجحت نبرته فعلًا وبدأ الناس يتخلون عن شعورهم بالخوف، واستبدلوه بمشاعر أخرى، أغلبهم كان يشعر بالملل، وبالرغبة في تجاوز هذا الطابور الطويل والوصول إلى الجانب الآخر منه بأسرع وقت ممكن. كان واضحًا أن ما سمعناه من شناعات حدثت على حاجز نتيساريم لن يتكرر اليوم، يعني لن يتكرر بنفس الكثافة على الأقل، فقد بدا أن هناك أوامر مشددة للجنود الموجودين في المدرعات أمامنا بعدم استعمال أي عنف مفرط، واستخدام درجة محدودة من العنف والإرهاب لتنظيم الموجودين أمام الحاجز فقط، لا أدعي أني كنت قادرًا على رؤية كل ما حدث، ولكن مما سمعته أن حادثة إطلاق نار واحدة فقط حدثت خلال ذلك اليوم، إذ فتحت إحدى المدرعات النار على سيارة تقل عائلة كانت تحاول الوصول إلى الحاجز وذلك لأن السيارة كانت تمشي على الجانب الخاطئ من الطريق، إذ كان مسموحًا لنا باستخدام جانب واحد فقط من الطريق، هذه معلومة لم أكن أعرفها، وعلى ما يبدو فإن سائق السيارة أيضًا لم يعرفها وقد دفع ثمن جهله بحياته وحياة عائلته. بخلاف هذه الحادثة لم يقم الجنود بأي شيء، فقط إطلاق نار متقطع من بنادقهم في الهواء، وفي بعض الأحيان تسير المدرعات بجانبنا وتطلق دخانًا أبيضًا كثيفًا يقطع أنفاسنا ويفقدنا القدرة على الرؤية.
بأي حال، عندما سمعنا نداء الضابط في المدرعة المجاورة يتكرر، أن النساء والأطفال سيعبرون بدون تفتيش أو فحص، أخذت ما كان بيد أختي من متاع، وأشرت لها أن تقوم بدفع كرسي أخي الصغير وتتقدم إلى الأمام، وعند لحظة ما فقدت أثرها وأثره، مرت عدة ساعات وأنا أظن أن أختي قد عبرت الحاجز وأنا لا أزال في الخلف انتظر، مرة كل ثلاثين دقيقة تقريبًا يسمح الجنود لبعض الناس بالعبور لانتظار دورهم في الطابور، ولا يسمحون للمزيد من الناس بالعبور إلا عند اقتراب انتهاء الطابور السابق، وفي كل مرة يسمح فيها الجنود للمزيد من الناس بالعبور، كان الناس يهجمون بعشوائية ويستمرون في التدفق لدقيقة أو أقل حتى يقوم جندي بإيقاف الصنبور البشري هذا بصلية رصاص من بندقيته. نظرت حولي عشرات المرات وفتشت في وجوه الناس محاولًا البحث عن إشارة لأي شخص اعرفه ممن خرجت وإياهم من البيت صباح هذا اليوم ولكني لم أجد أحدًا، وأعتقد فعلًا أنني الوحيد الذي لا يزال ينتظر بينما عبر البقية، غيرت وقتها مكاني وانتحيت جانبًا متوجهًا نحو ساحة صغيرة وضع كثير من الناس فيها متاعهم وجلسوا.
طال انتظاري، مرت الساعة تلو الأخرى، كان في يدي زجاجة فيها بعض الماء ولكنني لم أشرب منها حتى أتحاشى الاضطرار لاستخدام الحمام، خاصة وأنني لم آخذ علاج السكري قبل الخروج من البيت، إذ لم أكن جائعًا بسبب التوتر وخفت أن يهبط مستوى الجلوكوز في الدم فلا أجد من يسعفني في الطريق، عرض علي بعض الواقفين بالحاجز طعامًا ولكنني رفضته، عدت لأفتش في وجوه الناس القريبين والبعيدين عني علّي أجد أحدًا من أهلي ولكن بلا فائدة، بدأ شعور الناس بالملل يتزايد ومعه تزايد شعور الجنود بالملل كذلك، بدأ الجنود والضباط الخارجون من كوات مدرعاتهم بالحديث مع بعض الناس، وبدأوا بإلقاء بعض زجاجات المياة وقطع الشوكولاتة، بعض الناس أشاروا بأصابعهم السبابة والوسطى في الهواء مشيرين للجنود كي يلقوا إليهم بعض السجائر، أحد الذين كانوا يستقلون المدرعة التي كانت تغرقنا بالدخان الأبيض هتف فيمن أشاروا إليهم بأصابعهم قائلًا بالعربية: روحوا عند حماس بتعطيكم دخان.
منذ بداية اليوم كانت الغيوم تتكاثف بسرعة، عندما خرجنا من البيت حرصنا على ارتداء أكبر قدر ممكن من الملابس خاصة وأننا كنا نعلم أن خط سيرنا سيمر بالبحر، وبحلول الثالثة تقريبًا، لا أذكر الموعد بدقة، هطلت الأمطار فوق رؤوسنا بغزارة، غطيت نفسي تحت "شادر" قام بفرده بعض الناس، كان الشادر متسخًا بالرمال ومع المطر تحول الرمل إلى وحل، وقد غطت القذارة ملابسي وشعري - وظل رأسي متسخًا لمدة أسبوع لاحق، في تلك اللحظة دفعتني بعض النساء خارج الشادر وبقيت في المطر لا يقيني منه سوى غطاء للرأس. هدأت الأمطار واشتدت عدة مرات، بعض المحتجزين أمام المدرعات بجانبي كانوا قد أشعلوا نارًا قبل بداية المطر بنصف ساعة من أجل إعداد بعض الخبز والطعام، فأفسدت الأمطار طعامهم.
طوال الوقت كان الجنود المتحدثون بالعربية لا يزالون يعبثون مع الناس، واحد منهم كان يطلب من الواقفين بجانبه الجلوس تحت تهديد السلاح، وإذا ما جلسوا يطلب منهم الوقوف، البعض يصرخ على الذين يحاولون تجاوز الحاجز خلسة والالتحاق بطابور الفحص، لم ينجح أحد حسبما رأيت بالتسلل، ومن لم يعد بسبب الصراخ عاد رغمًا عنا خوفًا من الرصاص، آخرون كانوا يسألون الناس عن رأيهم في حماس والقسام ويحيى السنوار، وبعضهم كان يغني لأم كلثوم وفيروز، سمعت لهجات عديدة وميزت سحنات عديدة كذلك، استطعت أن أميز بين اللهجات التي أسمعها بصعوبة، ذلك الصوت الصادر عن الميكروفونات المثبتة في الكثبان الرملية المجاورة لطابور الفحص كان صوتًا يهوديًا أشكنازيًا يتقن صاحبه الحديث بالعربية بلهجة فلسطينية بيضاء، هؤلاء غالبًا من يتصلون بنا من أجل أن يطلبوا منا إخلاء البيوت التي سيقصفها سلاح الجو، هو مستعرب ويعمل لدى المخابرات غالبًا وربما قضى معظم خدمته في الضفة الغربية، آخرون كانت لهجاتهم شمالية جليلية .. يقولون أشياء مثل "إسا" .. "تضغطونيش" .. بدكيش" ... دروز، بعضهم كانت لهجته لبنانية .. أحدهم صرخ مناديًا على شاب حاول التسلل خلسة للالتحاق بطابور الفحص: "ولك وقف مطرحك يا أخو الشلِكّة" ... كلاب سعد حداد وأنطوان لحد وجيش لبنان الجنوبي، آخرون كان لديهم النغمة المميزة للهجة البدوية السبعاوية التي نسمعها في أصوات ولهجات بدو وسط قطاع غزة وشرق خانيونس، وضابط واحد فقط كان يتحدث بعجمة واضحة ورهاني أنه تعلم العربية إما في الجيش أو السجن.
بحلول الرابعة والنصف تقريبًا بدأت الشمس تسقط أمامنا في البحر، وكنا نرى أن الطابور الأخير الموجود أمامنا على وشك الانتهاء، سُمح للناس بالحركة مرة أخرى وتدفق الناس منتقلين إلى منطقة الفحص وحاولت أن أعبر مع من عبر، لم يدركني الدور مرة أخرى، ومع أصوات إطلاق الرصاص توقفت وعدت أدراجي. هبط الليل وانتهى عمل الجنود في طابور الفحص، وبعد نصف ساعة من المماطلة تحت المطر الغزير أمرنا الجنود بالعودة مرة أخرى إلى مراكز الإيواء وأمرونا بالبقاء في المدارس والعودة في الغد، تململ الناس وحاول بعضهم البقاء ولكن، كالعادة، أقنعتهم صليات الرصاص بالعكس.
عدت أدراجي، مرهقًا منهكًا وقد ضاع مني أغلب متاعي في وسط الزحام، ولم يبق منه سوى غطاء نوم واحد فقط كنت أحميه من المطر بغطاء بلاستيكي، وقد غطيت به أيضًا حقيبة الكمبيوتر المليئة بالوثائق، كان هناك غطاء آخر وضعته على رأسي عند نقطة ما حتى يحميني من المطر، كنت جالسا والغطاء فوقي وعندما حاولت النهوض كان ثقل الغطاء قد تضاعف اضعافًا بسبب مياه المطر وسقط ��ن فوقي في الوحل، ولم أحاول استعادته، فكرت في أهلي وعائلتي، بكيت كثيرًا أثناء الانتظار ودعوت الله بالساعات أن ينجي أهلي ويجمعني بهم في أقرب وقت ممكن، كانت تلك اللحظة أسوأ لحظة في اليوم كله، وعلى الرغم من شعوري بالراحة بسبب ابتعادي عن الحاجز إلا أنني لم أعرف كيف أتصرف! هل أعود إلى بيت خالتي؟ أعلم أنه موصد ولن أتمكن من دخوله، ولكن ماذا لو عاد بعض ساكني المبنى وفتحوا الباب؟ لم أكن لأخاطر بالعودة أو الابتعاد عن محيط المستشفى ومراكز الإيواء المحيطة به، فأنا لا أعلم إلى أين وصل القتال وإلى أي حد تقدمت الدبابات، كنت خائفًا أصلًا من المرور بالدبابات الموجودة بالقرب من جامع الشافعي مرة أخرى، ولولاها لعدت أدراجي إلى خانيونس أبكر من ذلك ولما انتظرت ساعات لعبور الحاجز تحت المطر، ولكن الدبابات لم تكن موجودة كما أن الطريق كانت خالية، ويبدو أن الجنود قد ماطلونا ومنعوا عودتنا باكرًا إلى حين تأمين انسحابهم من الظهرة والمعسكر الغربي، وهكذا ببساطة اتُخذنا دروعًا بشرية بالآلاف.
مشيت حتى وصلت إلى المستشفى، وخلال الطريق كان هناك الكثيرون من النازحين في مراكز الإيواء يهتفون بنا سائلين عن تفاصيل ما حدث وعن سبب عودتنا، تذكرت مع اقترابي من المستشفى بعض معارفي من العاملين فيه، بحثت عنهم وذهبت إليهم واستضافوني تلك الليلة في مكان جاف ودافئ. أخبرني بعضهم أن بإمكاني استخدام هاتفي الخلوي للاتصال ولكن اذا تواجدت في نقاط محددة في المستشفى، واحدة منها كانت بوابة قسم الطوارئ، ذهبت إلى هناك وحاولت الاتصال بكل رقم أعرفه ولكن دون جدوى، لم أتمكن من الاتصال بأحد على الإطلاق. جربت آخر رقم لصديقة من الضفة الغربية، ولسبب ما استطعت الاتصال بها، اخبرتها انني سأرسل لها أرقام هواتف أخوتي وطلبت منها أن تتواصل معهم وتخبرهم أنني بخير وأنني لم أتمكن من عبور الحاجز وأنني في مستشفى ناصر وسأعود إلى "الحلَّابة" غدًا.
قضيت ليلتي في المستشفى، في الصباح حاولت الخروج والعودة إلى الحاجز مرة أخرى، وحاولت الخروج باكرًا قدر المستطاع، ولكن المطر منعني مرة أخرى، تأخر الوقت بعض الشيء وانتصف النهار وانحبس المطر، عدت إلى بوابة قسم الطوارئ محاولًا البحث عن إشارة اتصال، ونجحت في الاتصال بابن خالتي الذي اخبرني أن عائلتي جميعًا بخير، ولكن أخي الكبير مفقود ولا يعرفون اين هو، وأن أخبارًا وصلتهم تفيد أنه موجود في المستشفى ولم يعبر الحاجز، أخبرته أن أخي ليس في المستشفى ووصل حينها كلانا وبسرعة إلى ذات الاستنتاج ... "احتمال اليهود أخذوه" ... وشعرت وقتها بالرعب! بأي حال أخبرني ابن خالتي ألا أسعى للذهاب إلى رفح، وأن أتوجه إلى المواصي، وأعطاني عنوانًا للبحث عنه.
قررت الخروج والذهاب إلى الحاجز برغم كل شيء، ونجحت في الوصول، لم يكن هناك دبابات بالقرب من جامع الشافعي كما الأمس، أثناء الطريق ومع انتهاء المعسر شاهدت حريقًا مندلعًا في أحد البيوت على جانب الطريق، ابتعدت عنه وقطعت الطريق إلى الجانب الآخر، وما أن أصبحت على مسافة آمنة منه وقع فيه انفجار مرعب، ربما نجم عن انفجار أنبوبة غاز.
وصلت إلى الحاجز، كان عدد الناس أقل بكثير من الأمس، وكان الطريق مليئا بالأمتعة التي اضطر أصحابها للتخلي عنها بالأمس بسبب التعب والإرهاق في ظل البرد والمطر، وعلى الرغم من أن تعداد الناس أقل إلا أن كثافة تواجد الجنود لا تزال كما هي، المدرعات تقف في ذات المكان الذي كانت تقف فيه بالأمس مقابل محطة المنتزه للمحروقات والجنود يطلون من كوات المدرعات بمكبرات الصوت، بينما بعض الناس يقفون خلف الحاجز وبعضهم ينتظرون أمامه في الطابور الموجود قبالة الكاميرات ويتقدمون منها في مجموعات من خمسة أشخاص.
مرة أخرى بدأ الجنود الناطقين بالعربية مهرجانًا ديالكتولوجيًا وهم يرفهون عن أنفسهم بالسخرية من الناس، ذات الجندي التعس الذي كان أمس يأمر الواقفين بالحاجز بالوقوف والجلوس تحت تهديد السلاح عاد ليمارس هوايته، بعضنا لم يكن يقدر على الجلوس أصلًا بسبب الزحام فليس لدينا حتى المساحة الكافية لنجلس القرفصاء، خاصة مع ما يحمله معظمنا من أمتعة. عندما شبع من متعته ابتعد بمدرعته عنا قليلًا وأخرج مكبر الصوت وبدأ بالغناء، هذه المرة بدأ يغني "وين الملايين؟" .. بعض الواقفين بالحاجز شرع بالغناء معه، وكان ملعون الديانة يغني ويضحك بكل بهجة.
كان عددنا يتناقص باستمرار، ويُسمح لبعضنا بالمرور كل فترة لننتظم في الطابور خلف الحاجز، مرت حوالي ثلاثة ساعات ونصف وانا واقف على رجلي وغير قادر على الجلوس، بدأ ظهري يؤلمني بشدة، حاولت الابتعاد عن الناس والبحث عن مكان أجلس فيه، رفض الواقفون خلفي أن يفسحوا لي الطريق، أحدهم قال لي بلهجة مهذبة أنه لن يفقد دوره ويعود أدراجه ليسمح بمروري، وطلب مني الصبر قليلًا .. "هيها هانت وشوية ويوصلنا الدور" .. لم أعرف ماذا أقول! وكيف أشرح له أن أوسًا وخزرجًا يحتربون في غضاريفي المنزلقة أسفل عمودي الفقري؟ بقيت واقفًا ودعوت الله أن يفرج همي بسرعة، سمح الجنود بمرور دفعة جديدة مرة أخرى، كدت أن أصل ولكن في اللحظة الأخيرة مُنعنا وتوقف تدفق الناس، هذه المرة لم يصرخ أحد، لم يطلق أحد الرصاص في الهواء، لم تتحرك مدرعة من جانب الطريق مطلقة دخانًا أبيضًا، وإنما فوجئنا بخمسة جنود يظهرون أمامنا وكأن الأرض انشقت وتقيأتهم في وجوهنا، لم ينبس أحدهم ببنس شفة، فقط سحب كل منهم أقسام بندقيته الآلية فصكت وصم صوت ارتطام الحديد بالحديد أسماعنا فتوقفنا جميعًا وتجمدنا في أماكننا، نظرت في أعينهم وملامحهم، ليس هناك بدو ولا دروز ولا لبنانيون ولا حتى ضباط مخابرات، فقط يهود أشكنازيون ينظرون إلينا بكل احتقار الدنيا وعيونهم تشع كراهية وصرامة، لم يطلق هؤلاء رصاصة واحدة في الهواء، ولو أطلقوا يومها لأطلقوا في سبيل المجزرة. كان الناس يرقصون ويغنون مع ذلك الأرعن الذي كان يغني "وين الملايين؟" قبل دقائق، ولكن الجميع الآن، مئات منا، صمتوا كالقبور. هكذا كان وجه عدونا الحقيقي. مجردًا بدون أي فلاتر.
هتف صوت ما: "يلا امشوا" .. مشينا، ركضت .. كدت أفقد حذائي، كدت أسقط وتمسكت بكرسي متحرك مخصص للمعاقين كان محملًا بأمتعة وتدفعه سيدة مسكينة سمعت صوتها وهي تلعن أسلافي بينما كانت تتمسك بأمتعتها حتى لا تسقط، استعدت توازني وهرولت في اتجاه الحاجز، رأيت مكبرات الصوت المزروعة في الرمال لأول مرة، ومن ثغرة في الكثبان استطعت أن أرى لأول مرة العدد المهول للمدرعات والآليات المجنزرة التي كانت ترابط في ذلك الموقع. اقتربت من الحاجز بالتدريج، وأمامي كان الناس ينتظمون أمام صف الكاميرات، كل خمسة مع بعضهم البعض، وينظمهم بعض الجنود حتى لا يزيد ولا يقل العدد عن خمسة في كل مرة، ويقتادون واحدًا أو اكثر في كل مرة بعد انتهاء الفحص. وصلني الدور ووقفت أمام الكاميرات، تذكرت في تلك اللحظة أمر أخي المفقود وعاد إلي الرعب أضعافًا، وهدأت نفسي بتلاوة "وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، كانت شفاهي تتحرك بصمت ولوهلة أدركت أنني أقف قبالة كاميرا وغالبًا ما سيرى اللعين الذي يحدق في الصورة التي تنقلها شفاهي المتحركة ولربما يظنني ألقي عليه تعويذة ما. أمر الصوت الصادر من المكبرات المزروعة في الكثبان الرجل الواقف إلى جانبي بالتوجه إلى داخل المعسكر: "ثاني واحد من اليسار تعا لعندي"، وأمر بقيتنا بالعبور، أحد الشباب إلى جانبي كان يحمل في يده سطلًا مخصصًا للطلاء، كان فارغًا من الطلاء بالطبع وكان يحمل فيه بعض المتاع، سمعت الصوت الصادر من الكثبان يهتف: "ليش حامل بوية شو بدك تطرش؟ انتو من اليوم وطالع فش إلكم إلا الخيام". همست بصوت كنت واعيًا لضرورة أن يكون غير مسموع: "كس أم دينك يا ابن الشرموطة".
المسافة من المحكمة الشرعية حتى دوار جامعة الأقصى ليست هينة، ولكني لم أجروء على التوقف أبدًا خلالها من أجل الراحة، أمامي كان شاب يحاول حمل جدته على ظهره، وخلفهم كان كرسيها المتحرك ملقى على قارعة الطريق وقد انكسرت واحدة من عجلاته، حملها لثلاثة خطوات فقط ثم أسقطها وسقط فوقها، وهب بعض الناس لمساعدتهم. تقدمت حتى وصلت إلى دوار جامعة الأقصى وشاهدت هناك سيارات الأجرة تنقل الناس من دوار الجامعة إلى المواصي ورفح، سألت عن العنوان الذي أعطاني إياه ابن خالتي صباح ذلك اليوم، ودلني الناس، استغرقت ساعة على الأقل من المشي قبل أن أصل إلى وجهتي التي كانت حمامًا زراعيًا في أرض في منطقة ما من مواصي خانيونس. وصلت هناك وقابلتني ابنة أخي الصغيرة وصرخت باسمي وارتمت في حضني باكية، تبعتها أختي الكبيرة التي احتضنتني وطمأنتني أن أخي الكبير كان بخير وأنه عبر بالأمس الحاجز بسلام.
سنة على وجه التقريب مرت على تلك الأيام .. لا أزال أتذكر الكثير من تفاصيل هذه الرحلة وعذاباتها، وقد أصبحت منذ عدة أشهر أمر بذات الطريق التي مشيتها في السابع والعشرين من يناير 2024 مرة واحدة كل يوم على الأقل، فأمشي من محطة المنتزه للمحروقات حتى دوار جامعة الأقصى، الفارق هو أنه وبدلًا من الموقع العسكري فهناك مئات من الخيام ومخيمات النازحين، بينما لا تزال الكثبان التي صنعتها جرافات الـ "دي 9" في مكانها على طول الطريق. لست أعلم ما الذي سيحل في هذا الطريق لاحقًا، ومتى ستختفي الكثبان والخيام والمخيمات القائمة على امتداده. الله وحده فقط يعلم.
2 notes
·
View notes
Text
صباح الخراء على رأس العالم
منذ أسبوعين تقريبًا بدأ شبح الجوع بالتراجع ولم يعد يلقي بذات الظلال الكثيفة على جنوب غزة التي بدأ يلقيها بداية من أكتوبر الماضي، الطحين متوافر أكثر وأسعاره استقرت نوعا ما ولكن لا تزال فلكية مقارنة بأسعاره الطبيعية، وعلى الرغم من اختفاء المعلبات من السوق إلا أن الكثير من البضائع بدأت بالتدفق على الأسواق، ليس "تدفق" ولكن البضائع موجودة، وإن كان السوق لا يزال بحاجة أكبر، إن لم تكن البضائع تختفي من السوق بالسرعة المتناسبة مع درجة احتياج الناس لها فالسبب في ذلك أن الناس لم يعد معها نقود! والمساعدات التي تنظم دخولها وتوزيعها المؤسسات الدولية لا تزال في شح شديد
قبل أيام أصدر ترمب تصريحًا وكرره، مفاده أن جحيمًا سيُفتح على المنطقة إن لم تفرج حماس عن الرهائن بمجرد توليه للمسؤولية في العشرين من يناير، وكثير من الاخبار تفيد ان أول شرارة في هذا الجحيم ستكون تقليص المساعدات - أي مساعدات؟ لا أعرف! - وهذا سيعني أن ضوءًا أخضرًا لمجاعة جديدة سيمنح لإسرائيل
المصيبة أن الأسعار الفلكية لكل ما يؤكل، وانعدام وجود المعلبات تقريبًا، يجعل من تخزين الطعام مهمة صعبة! فحتى لو أردنا تخزين الطحين فقط فلن نقدر، فإمكاناتنا المادية لا مقيدة بحدود لا نقدر على تجاوزها
0 notes
Text

16574 words
Reaching such a milestone is one of the most rewarding moments during the writing process, but it was a little bit furstrating when I suddenly realized it all needs a major revision or may be I'll have to do a complete rewrite.
It wasn't an easy journey but I have to remind myself that I haven't scratched the surface yet, this initial step, crucial as it is, may require multiple repeats.
unfortunately I can't shake the feeling that I would never be able to complete this process and see it through, I simply won't got the time, it's funny that I chose to start a writing project this big only 1 year after the begining of a genocide!
0 notes
Text
عصفت بي ذكرى قبل ليلتين، كنت أتصفح الريلز على انستاجرام ولسبب غير مفهوم اختارت الخوارزمية في انستاجرام أن تتقيأ في وجهي أكبر عدد من فيديوهات محال بيع الحلويات الشرقية في عمان وبيروت واسطنبول (وأيضا أونتاريو .. هل تصدق؟)، كثيرون يصنعون البقلاوة والكلاج والكنافة ويستعرضون منتجاتهم أمام الكاميرا، صور شهية وموجعة وفي كل مرة أرى صفحة ضخمة فيها ما لذ وطاب من الحلا أقول بيني وبين نفسي: أبو السعود بيعمل أزكى
هناك الكثير من محال بيع الحلويات في غزة، والكثير من الأسماء المشهورة كذلك، وهي اسماء عائلات راسخة في صناعة الحلويات منذ عشرات السنين، وأكثرهم يكتبون على اللافتات خارج محلاتهم أسماءهم الثلاثية والرباعية لكي يعرف كل من يشتري من منتجاتهم أنهم يصنعونها منذ أجيال، لكن لا أحد يتفوق على أبو السعود، لا أحد يتفوق على محمود بديع فايق ساق الله وأولاده، في شهادات بعض من شهدوا فإن لا أحد يتفوق على أبو السعود في كل فلسطين وليس في غزة فقط، كنت أشاهد الكثير من الفيديوهات لأشخاص يصنعون الحلويات الشرقية وأتذكر على لساني طعم كل قطعة بقلاوة وصحن كنافة أكلته عند أبو السعود، وأردد بيني وبين نفسي بثقة أن "أبو السعود بيعمل أزكى" .. في لحظة ما حضرتني ذكرى من حياة كنت أظن أنني نسيتها ونسيت كل تفاصيلها في وقت ما، ولكنها أتت .. شعرت بها جميلة وحقيقية وقاسية .. وإن كنت قد تذكرت جميع تفاصيلها بعد برهة وليس في ذات اللحظة، من بين كل المرات التي تذوقت فيها كنافة أبو السعود كان هناك مرة استدعتها ذاكرتي في تلك اللحظة بالذات

رمضان 2021 قبل بداية الحرب، كنت مع صديق لي في مطعم بالميرا لتناول طعام الإفطار، أكلنا وخرجنا من المطعم ومشينا باتجاه أبو السعود لنأكل الكنافة، لم يكن أبو السعود قد فتح أبوابه بعد، انتظرنا في الخارج رفقة ثلاثين شخص آخر على الأقل، وعندما فتحت ال��بواب اشترينا الكنافة وخرجنا إلى الهواء باحثين عن نسمة باردة في الصيف الحار، قطعنا الشارع إلى رصيف مركز رشاد الشوا الثقافي، وصعدنا إلى منتصف السلالم المؤدية إلى المدخل وجلسنا هناك، بعد أن أنهينا الكنافة مشينا غربًا باتجاه البحر، وصلنا إلى مقهى جالاكسي الملاصق للشاطئ وجلسنا هناك إلى طاولة بجانب نافذة مطلة على البحر. هل يبالغ المرء لو قال أنه مستعد لدفع نصف عمره من أجل أن يستعيد ذكرى كهذه؟ في الواقع أنا مستعد للتخلي عما تبقى من عمري مقابل ساعة واحدة فقط أمشي فيها في شارع عمر المختار من السرايا إلى البحر، فأقف على الشاطئ حافيًا على حافة انكسار الموج. أجل .. لأمت بعدها، في واقع الأمر، هذه هي اللحظة المثالية للموت، أريد أن أعود إنسانًا لساعة واحدة فقط ومن ثم أموت
2 notes
·
View notes
Text
لكننا لم نُخذل يا صديقتي، هل خُذلنا بحق؟ كلا، لقد اشتركوا في دمائنا ووغلوا فيها بأقدامهم ..
1 note
·
View note
Text
سمعت كثيرا من أهل خانيونس يدعون على تجار الحروب فيقولون: ان شاء الله يصرفوهن دوا .. أي عسى أن ينفقوا ما كسبوه حراما بالاستغلال على علاج ما يصابون به من أمراض، أمي رحمها الله كانت "تعلي" على هذا الدعاء فتقول إذا التهب قلبها كراهة لشخص ما: ربنا يكثر مرضه ويقلل دواه.
هذا ما اشتهيت أن أقوله للقذر ابن القذرة الذي باعني الطحين أول أمس بخمسة وأربعين شيكل لكل كيلوجرام؛ ربنا يكثر مرضك ويقلل دواك ..
1 note
·
View note