Tumgik
anisoct · 4 years
Text
للمرة الأولى منذ يومين كاملين، منذ غادرت منزلي، أغمضت عيني واستسلمت للنوم. معي ثلاثمائة وثمانية وعشرين جنيهًا، هي كل ما أملكه الآن في الحياة. أرى مائدة ضخمة جدًا، آكل منها بشراهة، بينما لي ينظر لي إخوتي باستغراب، كنت أعرف أني أحلم لكني جائع لدرجة عدم الاهتمام، التهمت كل أمامي، وما أمامي لا ينتهي أبدًا، استيقظت على نكزة خفيفة، ليست فتاة جميلة هربت معها، كما تخيلت دومًا، بل محصل قطار، أعطيته نقودًا وأعطاني نقود، حاولت العودة لمائدة الطعام الشهية وفشلت، أمامي زوجين عجوزين، امرأة ستينية تلمع من فمها سنتها الذهبية، لابد أنها تساوي أكثر من ألفي جنيه، ورجل سبعيني ربما، نائم على كتفها تقريبًا، وبجانبي شاب أكبر مني، بيده كتب دراسية، ونائم على كتفي، ويشخر، ومن جيبه تبرز محفظته بها نقود تقترب مما معي، تخيلت أننا جميعًا في رحلة، لكننا لم نكن.
في محطة الوصول، أصبح معي ستمائة وتسعة وثمانون جنيه، كان معه أكثر مما معي قليلًا، لكنه سيكون بخير. القطار القادم سيصل بعد ساعة ونصف، خرجت من المحطة وذهبت لأول مطعم رأيته، مطعم سمك، طلبت نصف كيلو جمبري مشوي، لم أشعر بالغربة التي أشعر بها دومًا في المطاعم حين أكون وحدي، كأن غربتي الحقيقية حررتني من أي غربة متوهمة، أنا ملك العالم الآن، بعد نصف ساعة من التشييش وكوبين شاي، غادرت المقهى للمحطة، معي ستمائة وثمانون جنيهًا، القطار سيصل بعد ربع ساعة، أضحك كلما أفكر في صاحب المطعم وهو ينتظر عودتي، لكن عالمه مستقر وثابت، وسيكون غبيًا لو سمح لشئ صغير جدًا كذلك أن يعكر صفوه. اشتريت أيضًا حقيبة ظهر، أعتقد أنها ستمنحني في القطار هيبة من يعرف إلي أين يتوجه. ليس في المحطة في هذه الساعة، سوى أربعون شخص تقريبًا، إذا استثنينا العمال، ثلاثون شخصًا في جهتي، وعشرة على الجهة المقابلة، ثلاثة وعشرون رجلًا، وعشرة نساء، وسبعة أطفال، بنتين وخمسة أولاد، جلهم ناعسون، عدا بنت واحدة تدور حول أمها، بالضبط كما كان يفعل أخي الصغير حول أمي منذ ثلاثة أسابيع، رقصة سحرية لتستدعي الانهيار، ربما تعرف أمها ذلك، ولذلك لطمتها لطمتين متتاليتين على وجها وجهت إليها العيون لنصف ثانية، قبل أن تهرب العيون مرة أخرى من عبء احتمالية ضرورة التدخل، نصفهم تقريبًأ نظر ناحية قطار متوهم قادم، ربعهم تظاهر بالبحث في جيوبه أو حقائبه عن شئ ما، ربعهم الأخير إلا واحد، تبادلوا نظرات الاستنكار والتضامن على الصمت في الوقت نفسه، واحد فقط نظر إلي وأشار للمرأة وأعاد تمثيل اللطمتين بشكل  مسرحي وغير مراعي.
جاء القطار متأخرًا عشرة دقائق قاومت النوم فيها بكل ما أملك من إرادة، جلست في مربع مقاعد خال، ثم جلست أمامي كلا من اللاطمة الغاضبة والملطومة الباكية، تظاهرت بالبحث عن شئ ما في حقيبتي الجديدة الفارغة، تظاهرت بأني أخرجت قبعة من الحقيبة وارتديتها، زفرت اللاطمة استنكارًأ لعبثي، اكتلمت رباعيتنا بالمسرحي غير المراعي، أمامنا وقت طويل، ستنهار فيه قدرة كلينا على تجاهل بكاء الملطومة، وضجر اللاطمة. وربما لأنه شاهدني أفعلها، تظاهر المسرحي بالبحث عن شئ ما في جيبه، وأخرج قبعة وهمية، ووضعها على رأسه، ثم قلبها إلى الخلف، صفقت اللاطمة بيديها استنكارًا ونظرت للنافذة نصف المغلقة، بعد خمسة دقائق، هدأت الطفلة قليلًا، واحتفالًا بذلك، أخرج المسرحي سيجارة وهمية من جيبه وتظاهرت بإشعالها له، لوحت المرأة بيدها كأنها تزيح الدخان، وابتسمت عندما أدركت انها شاركت في لعبتنا، ثم قطعت الابتسامة وطلبت من طفلتها التوقف عن هز رجلها، إشارة كانت كافية لتستعيد البنت قدرتها على البكاء، انخرط المسرحي في البكاء، لكنه كان يبكي فعلًا، حتى ان بكاؤه الحقيقي هدأ الطفلة، أشعلت سيجارة وهمية وأعطيتها له متضامنًا، أخذ منها نفسين، ثم أطفأها في يده، والطفلة تنظر له، اكتشفت أيضًا أن الرجال الأربعة بالجوار يشاهدوننا، فلكزته، وأشرت إليها بوضوح، فتظاهروا بالسرحان، الجبناء.
لابد أني أحلم، وإلا ماذا تفعل اللاطمة والملطومة والرجال الأربعة والمسرحي في صالة بيتنا، يأكلون ويشاهدون التليفزيون، بينما أمي تجهز الغداء، وتطلب مني أن أوقظ أخي التوأم من النوم، أدخل إلى غرفتنا لأجده يشتبك مع محصل القطار وصاحب مطعم السمك والشاب صاحب المحفظة، أقفز إلى الخناقة فورًا، ومن بين اللكمات والركلات ألتقط المسرحي وهو يقفز إليها أيضًا، ويسدد لكماته وركلاته في الهواء، ما يستدعي استغراب الأعداء الثلاثة وضحك أخي العزيز.
بعد ساعة وعشر دقائق، وهي ربع مدة الرحلة كاملة، البنت وأمها وثلاثة من الرجال الجبناء، في نوم عميق، المستيقظ من الأربعة، يحدق في كتاب لم يقلب صفحاته منذ فتحه، عزمني المسرحي على سيجارة حقيقية، وقفنا عند باب القطار ندخن بعيدًا عن الأم وابنتها، وبين الحين والآخر، كان يعدل من وضع قبعته الوهمية، ضايقني ذلك، فأخذتها منه وقذفت بها خارج القطار، بهدوء تام أخرج قبعة وهمية أخرى من جيبه ووضعها على رأسه:
_رايح فين؟
_بتمشى
ثم تمشى إلى مقعده، وسحب من جيبه نضارة وهمية، وأخرج كتابًا وهميًا وتظاهر بالاستغراق في قراءته، نظر له الرجل الجبان المستيقظ شزرًا فجلست وفعلت مثله، وأخذت أتمتم بكلمات عشوائية كأني أقرأ بصوت عالي، طلب مني المسرحي القراءة بهدوء، فقذفت بكتابي ناحية المستيقظ الجبان، فمال لمفاداته، ضحكنا.
في منتصف المسافة، كنت أفكر في أخي الصغير، الذي تركنا منذ ثلاثة أسابيع، وفي أخي التوأم الذي لحقه منذ أسبوعين، وفي أمي التي تفتقد الآن، ثلاثة من أبنائها، حينها كان الاربعة الجبناء قد صاروا ثلاثة، غادر أحدهم وجلست مكانه فتاة في سني تقريبًا، عندما نظرت ناحيتنا للمرة الأولى، ودون اتفاق، رفع كلانا قبعته احترامًا، ابتسمت وأشاحت بوجهها.
استيقظت اللاطمة، مهمومة تحدق في النافذة، وعلى رجلها تنام الملطومة وادعة، في تلك المرحلة كنت قد عرفت بعض الأشياء، أهمها أن اللاطمة لا تمتلك سوى ثمن الرحلة، وزوجها ينتظرها في محطة الوصول، المسرحي يمتلك ما يفوق الألف جنيه، الرجال الثلاثة اثنان منهم محفظتهم مليئة بالنقود التي لم استطع تبين مقدارها، في تلك المرحلة أيضًأ، كان المسرحي يقرأ جريدة وهمية ويشير لي بين الحين والآخر، إلى فقرة معينة، فأتظاهر بقراءتها ونتناقش فيها بصوت عالي، ولم تعد اللاطمة بنفس غضبها منا.
وفي السيجارة الحقيقية الرابعة، علمت من المسرحي أنه بالفعل غير ذاهب إلى أي مكان، وأنه سيأخذ قطار العودة إلى نفس المدينة التي انطلقنا فيها، وكاذبًا، أخبرته أنني أيضًا أفعل ذلك، وعندما سألني من أين أنا تحديدًا، قلت أنني أسكن بالقرب من محطة القطار، ولم يسأل عن تفاصيل أكثر، طويل القامة، ممتلئ، أبيض، بشعر ناعم قصير، مندفع اندفاع من لم يفقد عزيزًا عليه، أي عكسي تمامًا في كل شئ، واتفقنا أن نتسكع سويًأ في المدينة التي تنتهي عندها الرحلة.
نزلنا معًا، كلًا منا يتظاهر أنه يجر وراؤه حقائب ثقيلة، وفي المحطة كان زوج اللاطمة غضبانًا من تأخر زوجته واخذ يعاتبها بصوت عالي، بينما تحمل ابنتها، أخذنا قرارًا بالسير وراءهم، ومنينا أنفسنا بمغامرة عظيمة، انتهت فور خروجنا من المحطة، بركوب الثلاثة لتاكسي. أصبحت والمسرحي في مفترق طرق، لا يعلم أيًا منا ماذا يريد الآخر وإلى أين يتجه فعلًا، مشينًأ كثيرًأ دون اتجاه، ترفع قبعاتنا للناس، ونتفادى عوائق وهمية، ومن العدم تقريبًا، اقترح المسرحي، أن ندخل إلى بيت يعجبنا ونتظاهر أننا محصلوا  الضحك العالي، وافقته، ودخلنا عمارة، وطرقنا أول باب وجدناه، فخرج إلينا رجل ثلاثيني ضخم، أخبرنا أننا محصلوا الضحك العالي وأنه ضحك بمقدار 1346 سعرة حرارية وبصوت يقدر ب95 ديسيبل، وعليه أن يدفع مائة وسبعة عشر جنيهًا في المقابل، اتهمنا بالجنون وأمسك بخناقي ودفع بي إلى الحائط، وعندما حاولت فك الخناق، لكمني في وجههي فسال الدم من أنفي، تدخل المسرحي وتراجع الرجل، ومشينا ونحن نهدده بمساءلته قانونية على ضربه لموظفين في إدارة الضحك العالي. كانت الساعة الحادية عشرة مساءً واتفقنا ان نبيت في أول فندق ردئ نقابله.
في غرفتنا المزدوجة، هناك تليفزيون محطم من منتصفه وشرفة بها أكوام من التراب تطل على سوق في شارع شديد الضيق، راديو معطل، منشفتين متسختين، لوحة زيتية ممزقة من أطرافها لقارب في بحر، وساعة معطلة عند الساعة التاسعة وخمسة وخمسين دقيقة، وسبعة عشر من أعقاب السجائر المتنوعة على الأرض، كلا منا على سرير هادئ إلا من حشرات تعبره بين الحين والآخر، وربما بأثر التعب والمغامرة بدأت أحكي له كل شئ. أخي الصغير الذي توفى في حادث سيارة، وتفاصيل الجنازة والعزاء، حيث وقفت وأخي التوأم في مقدمة من يأخذون العزاء ببدلات والدي الكبيرة علينا، انهيار أمي ومشاجرتها مع أبي، لأنه ترك الصغير يموت أمام عينه، وأخيرًأ، هروب أخي من البيت، وأنني في الحقيقة أبحث عنه بهذه الطريقة، لأنه كثيرًأ ما قال أمامي أنه يود أن يركب قطارًا ذهابًأ وعودة إلى ما لانهاية، يسرق المسافرين ويعتاش من أموالهم، ولهذا آخذ كل يوم قطارًا مختلفًأ في الاتجاهين لعلي أعثر عليه. بالمقابل حكي لي أن هذه المرة التاسعة التي يهرب فيها من البيت، من أبيه تحديدًا، وأنه مصمم على البحث عن عمل لكي لا يعود إليه أبدًا، وقال أنه “من خبرته الطويلة في الهرب"، فأخي ربما يكون قد عاد الآن للمنزل فعلًا وعلي أن أعود لأجده، فأسبوع واحد هو الحد الأقصى للهاربين دون خطة، سألته عن خطته إذن، قال أنه بجوار البحث عن عمل، سيغير اسمه، وسيتزوج بأسرع ما يمكنه من أي فتاة، ثم سيظل يتنقل من بيت لآخر فلا يجده أحد، وأنه أخذ احتياطاته كلها، في المرة السادسة عثروا عليه لأنه أخبر أخته بخطته، في المرة السابعة، لأنه وجد عملًا بالفعل لكن بالقرب من محطة القطار فرآه أحد معارف والده، في المرة الثامنة، لأنه تورط في شجار مع صاحب عمله، فاضطر، بعد تفاصيل طويلة، للاتصال بوالدته لنجدته.
لا يبدو حزينًا قدر حكاياته، أخبرته بذلك، فقال أنه ليس في وضع مأساوي فعلًا، يعيش حياته يومًا بيوم، وحين يفشل يعيد المحاولة من جديد، وهو ضخم بما يكفي ليحتمل ضربات أبيه، اتفقت معه على أنني لن أتركه قبل ان يجد عملًا مناسبًا، بعدها سأعود للبيت. كان يكذب في كل شئ طبعًا، وكنت أكذب في كل شئ طبعًا.
أحلم بمحطة قطار واسعة جدًا، أرى أمي تبحث عني تحت المقاعد، وإخوتي يلعبون الكرة مع عمال المحطة، المسرحي هو حكم المباراة، والرجل الثلاثيني الضخم يسير بفانلته الداخلية ويجر وراءه طوق كلب دون كلب، ويضحك بصوت عالي.
أيقظني المسرحي في الصباح، وضحك على أنني كنت أحتضن حقيبتي خوفًأ من سرقتها، حقيبتي الفارغة تمامًا، سرنا بحثًا عن عمل، هذا أصعب كثيرًا من تخيلاتي، فحتى أشد الأعمال قسوة وقلة أجر، تحتاج لأن جزء من المنظومة، في أدناها، لكنك فيها، لك عنوان واضح، واسم حقيقي، وحد أدنى من المعارف المشتركة، ليطمنئوا إليك، سألنا كل أحد، محلات الملابس، ورش إصلاح العربات، محطات البنزين، عربات الفول والكبدة، المقاهي، الباعة الجائلين، حتى أماكن تجمع عمال اليومية، جلسنا فيها، طردونا منها، ولم نكن نحمل معنا أي معدات عامة تسمح لنا بمجالستهم، معي ما يكفيني لأسبوعين تقريبًأ، إن لم أنجح حتى في زيادته بطريقة أو أخرى، ويبدو هذا كافيًأ، لكن المسرحي مصمم على استمرار البحث، بتنا ليلة أخرى في غرفتنا القذرة، وليلة ثالثة، ورابعة، أنفقنا نصف مع منا على الأكل والشراب، وأصبح حتميًا إعادة مراكمة بعض الأموال لنستمر في البحث له عن عمل، لم نكن نشالين محترفين، لكن أحد ما لابد ان يترك محفظته سهلة المنال هنا أو هناك، تذكرت أنني فقدت هاتفي المحمول مرة، حين شاغلني إثنان بالحديث وسرقه ثالث، رحب المسرحي بالاقتراح، وانتظرنا خارج أحد محطات المترو للبحث عن الزبون، يجب أن يكون شابًا، أقل منا حجمًا، تحسبًا لأي مخاطر، على المسرحي أن يشغله، وعلي أن ألتقط الهاتف، أخبرني شبح قديم من المدرسة أن التقنية أن تلمس الشخص الذي ستنشله في أجزاء متفرقة من جسده عدة مرات، حتى يتوه منك، وتأخذ ما تريد، لم أكن متأكدًا من ذلك، لكنا فعلنا ذلك، تظاهر المسرحي أمام الزبون أنه يعرفه، احتضنه، وأخذ يربت على كتفيه، ثم يحتضنه مرة أخرى، والزبون متعجب، تقدمت واحتضنته، وعكس الخطة، التقط المسرحي المحمول، وقبل أن ينطق الزبون، كنا قد غادرنا ونحن نشير إليه أننا سنلتقي مجددًا، فعلنا ذلك مرة ثانية، وثالثة، ورابعة.
انتلقنا لفندق أفضل، سكرنا في أفضل الحانات، قبلنا أجمل فتيات المدينة، وسرنا مسطولين ليال طويلة، خضنا شجارات لا تنتهي، مع كل الناس، جلسنا في المقاهي كملوك متخفيين، ومن فندق لفندق لفندق لفندق، جررنا خلفنا عشرات الحقائب الوهمية، حكيت له كل شئ، مرة أخرى، عن أمي وأخي الصغير الذي هرب من البيت، وأخي التوأم الذي رحل ليلاحقه، وأنا الذي رحلت لألاحقهما، وحكى له عن زوج أمه العنيف، شجارتهما معًا، وعن هروبه منه، بعدما جرح زوج أمه بسكين المطبخ، كان يكذب وكنت أكذب.
تراهننا على من بوسعه أن يحصل قيمة الضحك العالي فعلًا من الناس، طرقنا كل الأبواب، تلقينا لكمات في وجوههنا وفي بطوننا، ركلات مختلفة التنكيك على مؤخراتنا، بعضها يسبقه وثبه عالية، ثم قدم عمودية، بعضها من وضع الثبات، بعضها يسبقها رجوع للخلف وجري للأمام، صرخت في وجوهنا أمهات أربعينات، أطفال في العاشرة، فتيات في مثل أعمارنا، بعضهن بقمصان نوم، بعضهم بملابس الخروج، جرينا في شوارع واسعة تنتهي إلى شوارع أضيق، وشوارع أضيق تنتهي بحارات مسدودة، وحارات مسدودة تنتهي إلى علقات ساخنة، يشترك فيها أوغاد لن يجرؤوا حتى على النظر مباشرة في عيوننا لو كانوا بمفردهم.
تلصصنا على زملاء الفنادق، ضايقناهم في متعهم السرية، شباب عشرينيون هاربون من أشياء لا نعرفها،شابات في مقتبل العمر يبحثن عن عمل في المدينة، رجال غامضون يحتضنون حقائبهم  بقوة كأنها تحوي سر الحياة، حملنا حقائبهم وغادرنا، رفعنا قبعاتنا لكل الناس، بادلنا بعضهم التحية، صادقنا أشباح المدينة، دخلنا بيوتهم، وسرقناهم، وسرقونا، كتبنا عشرات رسائل التهديد الوهمية وأوصلناها بأنفسنا كسعاة بريد، وكتبنا مئات رسائل الحب العشوائية ووزعناها، صممنا ملابسنا الرسمية كمحصلين للضحك العالي، حتى اقتربنا من النجاح، كتبت الصحافة عنا، عن لصوص الضحك العالي، فطرقنا أبواب جديدة، بصفتنا محققين في قضية الضحك العالي، وأخذنا من الناس أتعابنا الأولية الرسمية، ووعدناهم بالمتابعة.
حلمت بأخي الصغير يتسلق شجرة عملاقة، يسرق ثمرها ويجري في الهواء، بينما يطير وراءه أخي التوأم، ووراءهم طائرًا المسرحي، ثم أنا في الأسفل أشاهدهم سرب طيور صغير ضاحك، يشيرون إلي أن أتبعهم، أحرك جناحي دون جدوى.
جربنا كل الأسماء، كل يوم يختار كل منا اسمًا، ونجاري بعضنا، ثم نغيره اليوم التالي، امتلكنا العالم، حتى سقط المسرحي الأحمق في الحب، ففتاة من الدور الخامس في العمارة رقم 87 في شارع الفندق الرابع، التقيناها أول مرة كممحققين، رفع لها قبعته الوهمية وهو يغادر فضحكت، فسقط الأحمق، ثم ذهبنا إليها في اليوم التالي، لنخبرها أن القضية تسير على ما يرام، وأننا نحتاج لرقمها لمتابعة القضية، قالت أنها غير مهتمة بالقضية بأي شكل، ولا ترى أن المحصلين ارتكبوا جريمة كبرى كما تقول الصحف، رفع المسرحي قبعته ووضعها بين يديه، وأخبرها أننا لسنا محققين في الحقيقة في قضية الضحك العالي، بل محققين متخفيين من منظمة الجمال العالمي، لرصد أي تجاوز للحد المسموح به من الجمال، وأننا نتحرى عنها هي، ضحكت ساخرة ومتكهمة وضجرة، لكنه ظل جامدًا مكشرًا، فارتبكت من جديته، وأغلقت الباب.
جلسنا أمام عمارتها طول الأيام التالية، لم تخرج، طرقنا ففتح أبوها متأففًا وبيده سكينًا، هربنا، وعدنا كسعاة بريد، تركنا رسائل الحب أمام البيت كل يوم، ثم بالوقت، أخذنا نحصل قيمة تجاوز الجمال المسموح به، لطمتنا نساء ثلاثينات بأيدي خشنتها الدنيا، مراهقات بأيدي ناعمة مندفعة، رفعت في وجوهنا كل أنواع الأحذية، أحذية رياضية لشابات عاملات، أحذية بكعب مدبب، أحذية بكعب عريض، شباب زنوبة، ثم نزلت كلها على وجوهنا،  نشرت الجرائد صورنا، اشترينا شعورًا مستعارة وعدسات عيون ملونة، وذهبنا إلى محطة القطار، وذهبنا إلى مدينة أخرى، ثم أخرى، ثم أخرى، المسرحي يكتب كل يوم رسالة حب ويبعث بها للعمارة 87، قرأنا الكف للناس في الشوارع، نظمنا المرور، كله في اتجاه واحد بلا عودة، وجربنا كل أنواع الاستجداء الأنيق، حيلة المفلس، وحيلة الغريب، حيلة المسروق، لبعض الوقت، نمنا في كل مكان، في فنادق عملاقة وفي شوارع قذرة، في سيارات مسروقة، وفي بيوت مهجورة. حكيت له عن أخي التوأم الذي قتل في مشاجرة، عن أخي الأصغر الذي فقد النطق من هول الحادثة التي شاهدها بعينيه، وعن أبي الذي يلومني على أنني من بدأت تلك المشاجرة، وحكي لي عن سرقته هو وأخيه زوج أمهما، ثم مشاجرتهما معًا ضده، عن أمه التي تبرأت منهما، كنا نكذب.
أكلت فتاة العمارة 87 كل عقله، أخذ يخطط في كيفية خطبتها من أبيها، عدنا للمدينة، بشعورنا المستعارة وعيوننا الملونة، صديقنا الوحيد الذي لم نسرقه، والذي يكبرنا بعشرين عامًا، ويعمل كنادل في أحد البارات الرخيصة، تظاهر بأنه أبانا، ودون موعد، طرقنا البيت ثم طردنا منه فور أن انفتح الباب، اشتبك النادل مع الأب، ثم تجمع سكان العمارة واشتبكوا معنا، جرينا في الشوارع، ببذلاتنا الجديدة، تساقطت شعورنا المستعارة وقبعاتنا الوهمية وكرامتنا المتخيلة، لكننا لم نيأس. دفعنا مائتي جنيه لوالد النادل أو هكذا أخبرنا، أعتقد أنه أقرب لمعلمه، ليحل الخلاف بيننا وبين الأب، التقاه أسفل العمارة واعتذر عن ألاعيبنا، لكنه أخبر الأب أننا شاريين ويشرفنا الارتباط بهم، وأن حفيده المسرحي يعمل كممثل في المسلسلات ولهذا يميل للدراما الزائدة، طلب الأب مهلة شهر ليفكر في الأمر.
ذهبنا لمدينة ساحلية، لنستجم هذا الشهر، عملنا كمنقذين شاطئ، ولم ننقذ أحدًا، فقط كنا نصرخ في الناس، ونرفع لهم قبعاتنا طوال الوقت، حلمت بوالدتي تسبح على ظهرها، وجهها ضبابي، وعلى بطنها يجلس أخي الصغير يمسك سنارة ويصطاد أسماكًا ذهبية، بينم�� أخي التوأم يقف على الشاطئ، يطلق صفارته ويطلب من الجميع العوم لأبعد مسافة ممكنة، ومن وقت لآخر، تنظر لي أمي وأنا على الشاطئ، وتبتسم قبل أن ينقطع ابتسامتها ما أظن أنه ذكرى سيئة، فيما صاحب مطعم السمك، يجلس تحت شمسيه، يوقد نارًا ويشوي جمبري عملاق في حجم القطط، ثم يلقي به إلى البحر، فيقفز على ظهره المسرحي كأنه يركب حصانًا.
اشترينا تورتة كبيرة بأربعمائة وخمسون جنيهًا، ووردًا بمائتي جنيه، وبذلة لكل واحد منا الأربعة، أنا والمسرحي والأب والجد المزيفين، كل بذلة بألف ومائتي جنيه، أجرنا عربية ملاكي متداعية، وذهبنا للعمارة 87، وطرقنا البيت، ولم يرد أحد، طرقنا عشرات المرات، حتى خرج الجار وأخبرنا أنهم رحلوا للأبد، ولا يعرف إلى أين.
سقط المسرحي في اليأس والبكاء، وسقط الجد في يد الشرطة في قضية سرقة قديمة، وسقط النادل من فوق منزل كان يحاول سرقته، فكسرت قدميه. وللمرة الأولى منذ رفع لي قبعته الوهمية لأول مرة، تشاجرت مع المسرحي، كان يريد البحث عن الفتاة مهما كلفنا الأمر، ليس لدينا أي معلومات عنها، هددته بتركه والرحيل، فحكى لي عن والده الذي تركه ورحل، وأمه التي توفت بعد ذلك، ليجد نفسه وحيدًا، فحكيت له عن أخي التوأم الذي فقد اخي الصغير في السوق، فلم يعد أي منهما، وكان علي ان أتحمل وحدي عتاب الأبوين لغياب الاثنين،، فهربت، لم يصدق أحدنا الآخر، لكننا لم نغادر. وعدته بأن نحاول مرة واحدة وفي مدينة واحدة، هي هذه المدينة، سندخل كل بيت حتى نجدها، وسندعي أننا من هيئة المتانة العمرانية نحقق في صلابة البيوت تحسبًا للزلزال القادم.
دخلنا بيوت من كل الأنواع، بيوت العزاب والأسر الصغيرة والأسر الكبيرة وبيوت العائلة، بيوت لا كهرباء فيها، وقصور بها حمامات سباحة، عزمنا الناس على الأكل والشرب وقليل منهم على السجائر، أنا أدون أرقامًا لا معنى لها، بينما المسرحي يسألهم عن الأسرة ويتلصص على الغرف لعله يجدها. كانت مهمة أطول مما ظننا، خمسة شهور وثلاثة عشر يومًا، حتى انتهينا دون أن نجد للفتاة وعائلتها أي أثر، قرر المسرحي أن يبحث عنهم في كل مكان آخر.وقررت أنا العودة إلى الفندق الأولى، بصفته أقرب ما أعرف إلى البيت هنا، التليفزيون المحطم من منتصفه، محطم الآن من أعلاه وجانبيه، اختفى الراديو، ولوحة القارب الممزقة من أطرافها، ممزقة كلها تقريبًا، القارب فقط هو الشئ الذي نجا منها، قارب معلق بخيط رقيق من الأعلى، يسبح في حائط متسخ بكل أنواع البقع، هو كل ما تبقى من اللوحة، والساعة معطلة عند العاشرة بالضبط، حتى أنني عثرت على حقيبتي الفارغة، أقضي أيامي وأنا أدور حوله، رأيت فتاة تقرأ الكف في السوق، سمراء، طويلة، ذات عينين مخادعتين، قالت وهي تقرأ كفي، أنها ترى قطارًا لا تنتهي عرباته، وأخوين لي، أحدهما يشبهني تمامًا، يجريان ورائي وأنا أركض منهم وراء أخوين آخريين يشبهان الأولين، وامرأة تبدو كأم تصرخ فينا كلنا أن نتوقف عن الركض حتى تستطيع النوم، وفتى آخر يضحك من ما نفعله، ويركض في مكانه سخرية منا، ثم وفي لهجة تبدو حكيمة أنهت قراءتها بأن قالت "مسير اللي بيجري يتعب"، وحين انتهت أخبرتني، أنها تعرف أني أحد المتورطين في قصة الضحك العالي، وضحكت، سقطت في الحب. كانت القصة أصبحت مهملة تقريبًا، غطت عليها حوادث وألاعيب أكبر، قصة بائعي رحلات الفضاء، قضية الثلاثة مهرجين الذين روعوا البلاد والعباد لشهرين كاملين، وبالطبع، وأخيرًا، وليس آخرًأ، أستاذ الفلسفة الذي ادعى النبوة، واتبعته جمهرة من تلاميذ الفلسفة، يحرم التفكير، ويبشر بأن على كل إنسان أن ينفذ أول ما يخطر على باله دون أن يفكر فيه أكثر من ثانية.
أصبح الفندق بيتي، أنتظر المسرحي كما ينتظرون هيجل، وأنزل كل يوم إلى السوق، أقرأ معها الكف للناس أحيانًا، أسرق بعض الأشياء البسيطة أحيانًا أخرى، وأحيانًا أقل نتشارك بعض الألاعيب مثل تلك المرة التي أقنعنا فيها كل من السوق أن يقفوا في وضع الثبات ضاحكين، لأن السماء على وشك أن تمطر حظًا سعيدًا على كل من يقف بلا حراك يضحك.
وربما بتأثير من نبوءتها، عرضت عليها الزواج، كانت يتيمة، قالت لي انها ستفكر في الأمر واختفت بعد ذلك ولم تعد إلى السوق اليوم التالي ولا الذي يليه ولا بعد ذلك بأسبوع، أخذت مكانها في السوق منتظرًا، وقاومت كل رغبتي في البحث عنها في كل مكان كفتاة العمارة 87، فكرت أيضًا في سفر بالقطار في كل مكان حتى أعثر على المسرحي، لكنها ظهرت أخيرًا، طرقت باب غرفتي ودخلت، دون أفتح لها، لم أعاتبها أو أسألها مرة أخرى، فقط جلست أحكي لها قصة هذه الغرفة، التليفزيون الذي حطمه المسرحي في غضب، واللوحة التي مزقناها معًا، والجيران الذي كنا نسرقهم كل ليلة، وحكت لي عن عودتها للبحث عن ما تبقى من عائلتها، بعد سؤالي لها، ثم ضجرها سريعًا من ذلك، حكيت لها عن أخي التوأم الذي هرب للبحث عني، عن عودتي لهم فلم أجده، فذهبت مرة أخرى للبحث عنه وحكت لي عن هروبها من بيتها، وهي في العاشرة، كيف تعلمت قراءة الكف، مغامراتها بين المدن والقرى، ورفاق المغامرات، عن محبين حقيقين ومتوهمين، وضحكنا، حتى طرق الجيران بابنا بكل عنف، فضحكنا أكثر وأعلى، ألقينا بالتليفزيون من الشباك، فصعد الناس مشتكون، كسروا الباب، هبطنا على المواسير، جرينا في كل تجاه، من كل الناس، وبلا نقاش جدي قررنا أن نسافر بالقطار في كل مكان حتى نعثر على المسرحي، هي نائمة على كتفي، أمامي تجلس امرأة أربعينة مع فتاة عشرينية تضحكان وهما تتحدثان عن عريس محتمل، وبائع شاي أوقع مياهًا مغلية على الأرض، وفتاتان تتكلمان بصوت خافت، ثم تضحكان بصوت عالي جدًا، أعتقد أنه بمقدار 67 ديسيبل تقريبًا، وعلى المقاعد المجاورة، فتيان يدخنان سجائرًا وهمية، ويرميان بقاياها على الناس الذين يميلون لمفاداتها ، فيضحك الفتيان، أرفع لهم قبعتي الوهمية، ولست أدري إن كنت توهمت ذلك، لكني رأيت وجه المسرحي في صحيفة، يقرأها خمسيني، وبجواره فتاة العمارة 87، وفي التحقيق أن عائلة تكتشف ابنها أخو الفتاة التوأم، الذي لم يعلموا بوجوده إلا هذا الشهر فقط.
أرى بوضوح أخي التوأم يرتدي بذلة فخمة ويمسك بأخي الصغير المحشور داخل بذلة أكبر منه، ويرقصان أمامي، بينما أنا وقارئة الكف على كوشة مصنوعة من جمبري عملاق، بجانبه صاحب مطعم السمك يقص منه كأنها يقطع شاورما،النادل والجد المزيف يغنينان بصوت عال، كنجوم كبار، وفي أحد الطاولات، بنت تبكي لأن أمها لطمتها، ومن بعيد من المدخل، المسرحي يتعارك مع رجل كبير يبدو كوالده، وأسرة العمارة 87 تحاول فك الاشتباك، والرجال الأربعة الجبناء يصورون المعركة، وامرأة عجوز بسن ذهبية، تجلس على طاولة قريبة وتغمز لي، وبجوارها شاب منهمك في الدراسة حتى النعاس، بينما يعطيني أحدهم فاتورتين ويطلب مني الحساب الآن، إحداهما لأنني أضحك بصوت عالي أكثر من120 ديسيبل، والأخرى لأن زوجتي المصون، تجاوزت الحد المسموح به من الجمال، حين سمعت المصون ذلك جن جنونها، وأخذت سكين التورتة وجرت به وراء الرجل، أمي منتصبة في فخر وتبتسم لي دون انقطاع، ولم أنتبه إلا وأخي الصغير، يمسك بقدمي، ويطلب مني العودة إلى المنزل، لأنه يريد النوم.
93 notes · View notes
anisoct · 4 years
Text
Tumblr media
here i am zues after all u did ..
7 notes · View notes
anisoct · 4 years
Photo
oh , that's how my anime character would spend time , wonder who's goin to draw me lol
Tumblr media
55K notes · View notes