ليس لدي شعرات بيضاء في رأسي. وجهي يبدو أصغر من سني، وأصغر كثيرًا من روحي الشائخة. أنا الآن في الثلاثين. ضجر وعصبي وأعاني من الوساوس القهرية ومن الشعور الطاغي بالمحاصرة. لم أحقق ما خططت له لأني لم أخطط لأي شئ. تركت الأشياء تدفعني في الاتجاه الذي تريد. وأحلم برياح قوية تطيح بي رغم محاولتي لخلع قميصي وتحويله بقوة الرياح لبالون يأخذني إلى بعيد. قدماي مثبتتان في الأرض لدرجة تعرقل اندفاع من أحب، وكلهم مندفعين. لكن لدي من المشاكل لحصد كل ما يملتكوه من نظرات التعاطف العاجز. ليس نادرًا أن يوقفني أناس لا أعرفهم ليخبروني بحبهم لي، هذا رزق، غالبًا لا أستحقه،أحمد الله عليه، وإن كنت أحب أكثر أن يفك قيد قدماي. متردد ويمكن أن أستغرق يومي كله في مقارنة اختيارات لا تختلف عن بعضها كثيرًا. بطئ البديهة ويناسب ذلك بطء انطلاقاتي ولا أعرفهم أيهم الصفة الأكثر الأصالة التي تخلق قرينتها. أميل للمزاح الصاخب دومًا وفي كل المواقف، يغضب ذلك أصدقائي، ويفاجئ من لا يعرفونني ويتصوروني كشخص وقور. أنا الآن في الثلاثين، وينقذني من الانشغال بالكبر في السن، أن مشاكلي، كحال الكثير، أكبر مني، وفي مواجهتها، قبضتاي كقبضتي طفلي يواجه وحوشَا وحده. في مواجهة عالم لم نستطع تغييره، بكل ما امتلكناه من فتوة الخيال وجمال الإرادة، يحق لنا أن نظل أطفالًا إلى الأبد.
في الوقت الذي تقول فيه لقد فعلت اليوم ما أريد وتُعدد إنجازاتك برضى-مبالغ فيه بالتأكيد- يفاجئك شيء ما ..
قائمة "ما يجب فعله اليوم" تتقلص فقراتها كي تلائم حالة التجوال التي قررتُها البارحة لأربعة عشر يوم قادم، تتفاوت الأولويات ويتذيل القائمة ماكان أولها.. يتناول رفقائي ما طاب لهم من "الدولمات" و"الدليميات" و"المحاشي" في منطقة كانت محمية طبيعية ثم هربت غالب طيورها وحيواناتها ونتف السكان ريش البقية ثم قاموا بشيها، ولأن الجميع يذهب،ونحن نحب الأطلال وذكرى الأرواح التي كانت هنا ذهبنا وشوينا كائنات أخرى ... خَضارٌ على امتداد النظر ووجوه حسنة، هذا الجو يتيح لك التجدد مرة أخرى، تتنفس بعمق وتتناول شاياً مُهيَّلاً وتترك نقمتك على العالم جانباً، هذا ما يفعله البشر الأسوياء ..
لعلك تستلذ الشاي عندها وتقولُ فيه بيتاً غزلياً وتتناسى أنك قد كرعت كوبين صباحاً ولا تمانع اثنين آخرين بحجة أن هذا سيساعد في تفتح عقلك الثقيل لإتمام مقال الترجمة الذي بدأت بقراءته، فتكرع الاثنين وتحمد الله.
تنتهي النزهة ويعود كل لبيته وتعود مع المقال الذي لم ينته وتوق في دمك للكافيين يمنع جوابه أنك قد أقنعت نفسك أنك تاركه ولو لبعض يوم.. يأتي الليل الذي لا يخلو أيضا من "استكاني" شاي آخرين ولو لم تشرب فأنت ناكرٌ للأصول، جاهل قدر مضيفيك، فيك نزعة غربية -الأخيرة من رأسي-فتشرب وتشرب حتى تظنك قد تحولت إلى وعاء شاي متحرك وتستلذ ذلك رغم تذمرك، ينتصف الليل والكافيين في أعلى نِسبه، ويمضي ثُلثيه ولا نوم لتأتي وتكتب عن هذا على الفيسبوك مع علمك أنه لا يهم وأن الناس نيام ولا أحد يهتم ولأنك ربما تعد صفحتك كغرفتك الخاصة تتحدث فيها ما تشاء، وحتى مع علمك أنه لا يهم تكتبه وتؤجل محوه للصباح والشمس الحلوة، وتقرر عندها أنك ستكتب بالتفصيل عن جولاتك اليومية وتنشر صور الحجر والشجر والنمل والجراد حتى تُكرّه متابعيك فيك، عل أن يغادرك الأرق، لكنه لا يفعل.
-في حب الشاي والأماكن التي كانت غابات ومحميات طبيعية
كان يُلازمها كالأشباح، تظنه صويحباتها الملاك الحامي، وتقول هي عنه يالآماله! هذه المحاولات عبثٌ محض! سأخطبكِ يا بنت! لم تلتفت.. ما نَطَقَت معه قولاً في يومٍ قَط، ولا رآها يوماً لغيره، حتى صارت لغيره فجُن! جُن حقاً؛ صار يكلم الشجر والحجر وقضى أياما يتنقل بين المستشفيات، حتى هَدأ أو هكذا يبدو، ثم بدأ ينمو شيء آخر تجاهها بين جنبيه، إنه الحقد؛الحقد عليها وعلى كل من وما له صله بها، ابتسمت له الحياة، وصل ما أراد من المناصب، صارت البنات طوع إشارة منه، غرق في نشوة فوزه، تسللت من بين أضلاعه كرمل الساعة، تقادم عليها العهد، نسيها، ذهبت، ما أجمل الحياة بال صاف وقلب خال، رآها، عاد حاقداً مرة أخرى عليها وعليه وعلى الحياة!
وإن الأماني -وليست الكوابيس- هي ما تؤرق نومي يا سيد فرحان.. تلك الأماني الحلوة التي تتسلل نحو عقلي كلصّ..وتعود بي إلى رحاب الماضي.. لترسم لي عالما لم يعد بإمكاني العودة إليه.. ترسمه كاملا.. بسقوفه وجدرانه وأبوابه وأرضياته وكراسيه الملوّنة.. وترسم شمسا مشرقة وشوارع وأزقّة وأشجارا .. وتحيك سماوات زرقاء وقمرا من حليب.. وليال ماطرة.. ونسائم غربية باردة تخلع قلبي من مكانه..
وأراني هناك.. شابا قويا يافعا.. جالسا على طرف السرير مرة.. ممسكا بكتابي مرة.. وعاكفا على شيء ما مرة أخرى.. أبصر في عيني سعادة لم أعرفها.. وأسمع في أذني ضحكاتي التي لم أضحكها.. وأحس في صدري أحلامي التي لم أحققها..
وكما يهوي نجم فجأة من سمائه.. ينزعني شيء ما فجأة من ذلك العالم، ويقذف بي الآن وهنا.. فأنظر فيما حولي.. ثم أغمض عيني وأدفن رأسي في وسادتي.. وأصرخ بصوت مكتوم.. أن دعيني وما أنا فيه أيتها الأماني المستحيلة..
هذه الكيف أقضّت مضجعك، يُحدثونك بقطعيةٍ لا تقبل الشك و التساؤل! يتأولها عقلك الذي يحسب الأشياء بالملي ولا يجدُ لها معنى؛ المعنى الذي أرهقك التفتيش عنه و التماهي في آثاره!
لا تتذكر من فارط أيامك إلا أنك كنت ذا روح مشبوبة متقدة بالحياة، ثم على حين غفلة انطفأت، تقولُ: لا بأس يا نفسي سأعود كما كنتُ وأوهج لكنك لا ترى لجمرك اتقاداً ولا لنهاية السؤال بداية.
بداية؛ آهٍ من البدايات؛ تتذكرُ يوم رأيت أباك يُغالب الرصاص قدميه - لا مجاز هنا حيث سابقت قدما والدك رصاص من يطلبه و سبقت-
ما أبقت لرصاصهم إلا ثورة التراب إثر ملامسة الرصاصة، تعلم أن الأشياء تختلف في استجابتها للملامسة، نعم لعلها كانت بداية ما..
لعلّك كنت تأمل أن يلامس وهج الحياة روحك فتنظر ما أنتَ فاعل لكنك تعلم أنك لست ممن تلتفت له، بل لعلك لو ذروت على جراحك الملح و رقصت على إثر ذلك ما فَعلَت.
محكومٌ أنت أن تحلم، محكومٌ لحياتك أن تصفع، محكوم أن تُدير لها خدّك الآخر بعد أن توّرم الأول، محكومٌ كهذا الوقت الذي يعتاش على أحلامك، يغتالها يغتالك يُحييها تحيا تموت و هلمّ جراً .. موت وموت وأنت.
الآن في عمق هذا، أنت تعلم بل ترى كيف
تدوسك الحياة؛ تدعسك كحشرة حقيرة، كآخر نفثة في سيجارة مشرد تنفثك في وجهك، كومة روحٍ مفتتة وكلماتٍ لم تُنطق، تعلم أنه ليس عليك إلا أن تسمح لها بذلك ولا بأس لن يضيرك ذلك، و أنه كما ثرثرت دائما لكل شيء نهاية؛ محراث يُهيئ صخر الروح للزرع لست أنت الزارع لكنك من يختار. تتهيأ و تستقبله بصدر راضٍ وشتيمة، تسمع قرقعة ضلوعك و هي تتكسر الواحد تلو الآخر و أنك بعد هذا كله ستنجو؛ عليك أن تتعايش مع الكسر فحسب!
راضٍ أن ترضى وتشتم ذات الوقت، ذات الوقت الذي تختطفه اللاجدوى من بين يديك اختطافا، وتُضيّع المعنى الذي ظننت أنك واجده يوما وما فعلت؛ ليس ما أجلك قد خُلق اليقين أيها البائس.
تتذكر كلماتٍ قالها من جرّب قوله: حين ينفد صبرك فتصبّر، كنتُ أقولُ ذلك دائما لكنني ما جربته إلا حين قلعوا أظافري وأطفأوا أعقاب السجائر في أناملي،ما شعرت وقتها بشيء، كنتُ مُخدراً من الألم.
نعم تتذكر فكُلّهُ مضى ويمضي كما الآن عليك أيها المُخدّر بأوجاعك، لكن روحه كانت حُرّة تستدرك لِحَظ نفسك، وأنت يا حبيب نفسك بألف قيد حين تنبش أظفار الحياة ندوبك و ذراعيك و حُلمك، لكنك على أية حال تتصبّر.
يستبد الألم العظيم بجسمي فلا التفت إليه لكنه حين يَغِزُّ روحي يقضي عليها و على جسمي أيضا، عيني تكاد تخرج من مكانها لشدة ما يؤلمني رأسي..
- يا لكِ من نيّقة، عليكِ أن تكوني أقوى، أنت إبنة هذه الأرض! ما لكِ و للمدن!
كانت لنا حياة هنا قبل أن تُفرقنا الحرب، في كل شبر قصة؛ هذا النهر كان جارياً منساباً، صاخباً بنا أيام الصيف الحارّة، هنا كانت تجلس جدتي تخصف الخوص، كنت أتعجب من سرعة يديها، أقول لها منبهرة: هذا فن! فترد بأَن احتفظي بكلامك المزخرف لنفسك، كونه لا يعني شيئا ..
عمي دائما ما كان يُلازم كتابا ما هنا، هنا قبل أن يتفتح قلبي على حُب ما يقرأ، أتذكر كتبه؛ "جمهرة أشعار العرب"،" ديوان الحماسة" ، " طبقات الفقهاء الشافعية" قائمة طويلة من الكتب التي ما إن يفتح أحدها حتى لكأنه في عالم آخر ليس منّا ..
هذه الغرفة لا زال السواد في الحائط كأنه ندبة تُذكر يوم حُرق البيت في الطائفية..
هذه النافذة ؛ شُبّاك جدتي العزيزة التي أصرت أن ترجع بمرضها متعللة أن نافذتها التي تُطل على زهور الحديقة تُعادل قصور بغداد .. بقيت الزهور و ذهبت الجَدّة ..
لطالما كنتُ محاطة بكثير من الأصدقاء الطيبين ، من يرفض صداقة فتاة متعاطفة و لطيفة! نعم كنت لطيفة بعض الشيء، ربما بأفكار أظنها شريرة وقتها، لم تكن أبدا كذلك، حتى الأصدقاء غيّرتهم الحرب كما فعل الوقت كما حدث معي، الأصدقاء -الذين أخشى السؤال عن أحدهم كي لا أُفاجأ أنه قد قُتل- تحولوا لندوبٍ غائرة لا تبرح صدري يوجعونني قدر الحُب و المسافة قدر الوقت و ما مرّ علينا و نجونا منه أو هكذا نظن!
هل نجونا حقاً؟
لا نجاة أبدا، هذه جراحنا التي نحملها أبدا ما حيينا، هذا مِلح دمائنا، نُزيّن بها صدورنا حزناً لا يبرح يرينا أننا نليق به، لا يبرح ينزلق عفويا أردنا أو لم نُرد، يعرفنا و إن أنكرناه!
كان من الأجدر بالذين وصلوا أن يطمئنوا و يسكنوا ، وقتها يصبح الوصول غاية من في الطريق، لكنهم بقوا على قَلقِهم، يُعذبون أنفسهم بالتوقِ لأشياء كلها وسائل حسبوها غايات، حتى حين نالوها لم تسكن أنفسهم ولم تطمئن ..
حين انقضت بهجة الوصول، وجدت لنفسي سُبلاً لم يضرني فيها الالتفات، و لم أحملها وهناً على كتفيَّ كما حملتني حبّات خرز رقيقة يخترقها خيط رقيق ، تلهو بها أصابع القدر، لا تجد بُداً أن تُكرر لهوها ما أرادت، لتُعيدها بانتظام لهيئتها الأولى
0 notes
Statistics
We looked inside some of the posts by
asma-aldulaimi
and here's what we found interesting.
Average Info
Notes Per Post
1K
Likes Per Post
1K
Reblog Per Post
256
Reply Per Post
4
Time Between Posts
10 days
Number of Posts By Type
Text
16
Note
1
Explore Tagged Posts
Fun Fact
The “We are the 99%” Tumblr blog became the slogan for the Occupy Wall Street movement.