Text
إلى أن تنتهى الأرض
خرج محمد فتحى عن حدود عالمه المألوف مساء آخر جمعة من شهر يونيه الماضى .فقد تعوّد طوال سنوات عمره الماضية أن يركب دراجته كل جمعة ويسير بها إلى أقصى مسافة ممكنة بعيدا عن دائرة سكنه ،وطوال تلك السنوات لم يبتعد بأكثر من ثلاثين كيلومتراً فى مختلف الإتجاهات ،ولكن فى ذلك المساء تحديداً وهو يسير بدراجته مبتعداً حدث أنه فقد الشعور بالتعب كلياً ،فاندفع بأقصى مااستطاع فى مساره العشوائى وهو يشعر بنشوة المغامرة وثبات معدل السير وفقدانه لأى شعور بالتعب أو الزمن ،وهو لم يكن يدرك أنه الآن كآلة تعمل بلاتوقف ،كان الأمر أشبه بقوة خارقة حلّت فيه فجأة .
مرت ساعات وأشرقت الشمس وأصبح فى طريق سريع لا يعلم وجهته وهو مازال فى نشوته ،لا يشعر بتعب أو جوع أو قلق من أى شىء .سارت أقدامه تعمل بطريقة ميكانيكية فى دفع عجلته إلى الأمام دون توقف ،وظهره المنحنى إلى الأمام ثابت كالفولاذ ،حتى أردافه على المقعد مستقرة بشكل لا يُصدق ،كل شىء فى جسمه يؤدى وظيفته على أكمل وجه وفى حالة سكون تام إلا عقله .عقله كان هادراً كموج البحر ،ثائراً وعميقاً إلى حد بعيد ،يأتيه بشتى الأفكار الجديدة المُؤنسة ،وكان غارقاً مستغرقاً فى فكره حتى أن عيونه لم ترمش .
بعد أن مضى نهار وحل ليل وأشرقت شمس وأضاء قمر تحوّل جسده إلى آلة وقلبه النابض بايقاع بطىء ،وعيونه المثبّته كالكاميرا التى لاتشعر بما تراه فى الواقع ،كل مدخلاته كانت فقط من عقله الذى صار ينبوع متدفق من الأفكار الرائقة ،الذهبية كآشعة الشمس .
تذكّر محمد فتحى فى سيره كل ما حدث فى حياته ،من طفولته إلى شبابه إلى كهولته ،فقد كان ابن ستين عاماً بالتمام والكمال . وحدث أن عقله فى تلك الساعات تأمّل فى كل شىء ،فى كل ذكرى ،فى كل وجه قابله ،فى كل فتاة أحبها ،وفى كل حادث وقع له ،وكان يرى حياته من منظور خارجى ،كأنه شخص آخر أو كاتب يكتب عن شخصية فى رواية ،فلا ينفعل بسعادة أو ألم ،فقط شريط يمر أمامه وهو يشاهد ويفكر .
مرت أيام ،جسده لا يطلب أى شىء ،لا راحة ولا طعام ولا شراب ولانوم ،والطريق لا ينتهى ،وعقله يواصل التدفق بلا انقطاع ،وتحوم حوله الأفكار كالفراشات ،وعينه لا ترمش وأذنه لا تدرك وقلبه لا يتوقف عن النبض ،وشعوره بالزمن ذاب تماما وتحوّل دون أن يدرك إلى وحش خارق قادر أن يواصل السير بدراجة إلى أن تنتهى الأرض .
مرت قرابة شهر كامل ،ومحمد فتحى يقود دراجته بلا توقف وهو فى نشوته الغامره ووعيه المشتعل ومغامرته الغريبة وقدرته الخارقة إلى أن سمع صوت قوى مزعج من أسفله ،نظر فإذا بشىء عالق فى دراجته ،كيس قد دخل بين التروس ،فتوقف .
تمزّق الكيس إلى أشلاء وتفرق فى محاور تروس العجلة وحاول محمد فتحى تسليك الأجزاء العالقة بين الثنايا حتى تمكّن بالفعل من ذلك ،والتفت حوله فإذا هو فى أرض لا يدرك معالمها ،كثبان رملية وجبال شاهقة ورمال فى كل مكان ،وفوقه شمس ملتهبة ،كان فى صحراء .
حل التعب الفتّاك بجسده كله على حين غرّه ،وشعر بجوع ممغص حتى إنه أمسك ببطنه بقوة ليحاول إسكاته ،وحاول أن يفتح فمه فاذا هو ملتصق كلياً من الجفاف ،وفى رأسه دوّار رهيب ،فأفلتت الدراجة من يده ورمى بنفسه إلى الرمال وأغمض عينيه .
أظلمت الدنيا تماماً فى جفونه ،وأخذ يتأوّه ويأن بصوت خفيض ،وهو لا يفكر فى شىء إلا الماء .
مر من الزمن ما لا يعلم وهو مازال على قيد الحياة بقوة غير مفهومة ،ملقى فى صحراء شاسعة ��الجثة التى ينبض فيها قلب فقط ،ووعيه يجرى فى نفق مظلم ومؤلم من كل إتجاه وعيونه مُغلقة ولا يقدر على تحريك اصبع واحد .فى ساعة من ظهيرة تحت آشعة الشمس شعر فجأة بقطرات ماء تسقط على وجهه ،فتح عينه بصعوبة بالغة ،وبرؤية مشوشة رأى قطرات ماء تنزل من السماء ،ففتح فمه الملتصق وسقطت القطرات فى جوفه ،كان مطراً صيفياً.
أدرك محمد فتحى أنه على قيد الحياة ،فأتته الرغبة فى النهوض ،فقام من مكانه وهو يحمل على كل عضلة من جسده ،حتى استوى قائما .نظر إلى دراجته طويلاً وشعر بالسخط الشديد منها لأنها أودت به إلى تلك الظروف فدفعها بقدمه بركلة قوية وقرر أن يسير على قدميه فى الصحراء عسى أن يجد طريقاً إلى المدينة .
سار مساراً لا يدرى صحته وهو يجرّ قدميه بين الجبال والأودية ،ورأى أمامه أرنباً برياً ،فاندفع جارياً ورائه بلا منطق ،بالطبع فاقت سرعة الأرنب جريه واختفى بين الجحور ،ولكنه وجد بقعة ماء خلّفتها الأمطار أمامه ،فنزل بركبتيه إلى بقعة الماء وشرب حتى ارتوى تماما ثم جلس ،ورأى صفحة وجهه على الماء .
نظر إلى وجهه ،جبهته ووجنتيه وأنفه وحاجباه وعينيه ،تلك القسمات المغبّرة فى التراب ،أراد أن يمسح وجهه بالماء ،ولكنه لم يفعل ،فقد كان مأخوذا كليه بالنظر إلى نفسه .
ثبّت نظرته تماماً فى بؤرة عينيه ،وسبح فى سوادهما ،واغرورقت عيناه بالدموع ،وعلى صفحة الماء كان وجهه يترقرق فى الماء ،وأخذته صورته فأراد أن ينظر عميقاً فى روحه .
ظل فى جلسته أمام بقعة الماء ينظر إلى بؤرة عينيه لعله ينفذ إلى روحه ويراها ويلمسها ،ومرة أخرى أخذته صورته فى بقعة الماء عن كل شىء وتوقف جسده عن طلب أشياء كالطعام والنوم ،وحل ليل وأشرق نهار وجائت شمس وأضاء قمر وهو ينظر إلى نفسه .
بعد أيام جفت بقعة الماء ،وتلاشت صورته ،فقام من جلسته وسار بغير هدى ،ولا يعلم أى قوة سحرية أبقته على قيد الحياة إلى هذه النقطة حتى وجد أنه قد عاد إلى دراجته مرة أخرى ،فنظر إليها بحنان هذه المرة ،ورفعها من الأرض .
فى بقعة من الصحراء تُوفّى محمد فتحى بعد أن أتاه ملك الموت وهو راكباً دراجته ،وقبض روحه ،فسقط جسده هاوياً على الأرض وسارت الدراجة وحدها بضع أمتار دون راكب ،ثم سقطت.
0 notes
Text
الناس التانيين
-آسف دُست على رجلك بالغلط.
قالها بأدب جم وأشار بيده معتذراً ،قلتُ له بابتسامة :
-ولا يهمك.
أخطاء مثل هذه يمكن تداركها . لم تصبنى دوستُه تلك بأى أذى جسدى أو نفسى ،ويبدو أنه ليس هناك سبب مقنع للإعتذار ،دوسة خفيفة ،ولك�� للأسف لو لم يعتذر عن هذا الأمر العابر لوصمته كغيرى بقلة الذوق ،ولقت -كغيرى طبعا- إننا فى زمن لايعتذر فيه الناس إذا داسوا أقدام بعضهم ،ولذلك بالرغم من تفاهة الموقف فإن الاعتذار ضرورى لكى لا نعيب الزمان والعيبُ فينا ،ولكى نتأكد أن الدنيا لسه بخير .
تقول شفيقة :كان زمان بينا مودة ،قلى فين هى النهاردة .
كنتُ منذ اسبوعين أُخفى عن الناس ألماً فى لسانى عندما أتحدث إلى أغلب الأشخاص .يبدأ الحديث بوتيرة عادية ،وعبارات مُجاملة ،وحديث عن مختلف الأمور ،وكلام جدّى وغير جدّى ،إلى أن أصل إلى مسافة عشر دقائق ثم يبدأ الألم ،يبدأ كثقل فى مؤخرة اللسان وبعض التنميل ،ثم يتفاقم الأمر إلى أن يصل إحساسى بلسانى كقطعة باردة من اللحم أخاف أن تتمزق بأسنانى دون أن أدرى ،وأيضاً دفقات من الألم النابض تُصعّب مهمة استكمال الحديث. عندئذ أقرر أن أسمع ولا أتحدث إلا بما يستحق أن يقال ،لأن أمر تكوين جملة ونطقها يستغرق مجهوداً غير عادى .
ليس من السهل أن تهرب من شخص يحب التكلم ،ويستغرق فى تمجيد نفسه وطيبة قلبه وقسوة الزمان وحال البلد إلخ ..كأنه يحفر حفرة عميقة بفأس صلب ،وكلما غرف حفنة من التراب ألقاها فى وجهى ،هو يواصل الحفر وأنا أغرق فى التراب ،تدريجيا أبدأ متعمداً فى خفض انفعالاتى مع حديثه ،إذا حكى شيئاً مأساويا وقع له أصبح حريصاً أن يبدو الجمود على وجهى ،واذا قال شيئاً مضحكاً فقط ابتسم بجانب واحد من فمى ،وما أريده هو أن يصل بنفسه إلى أنه سخيف وثرثار وأنانى لدرجة أنه يحب فقط أن يسمع نفسه وهو يتكلم .والبعض يدرك سخافته ويبدأ بترك مساحة لى أنسحب فيها من الحديث ،والبعض الآخر يملك من الجلافة وتُخن الجلد مايجعله يستمر فى الثرثرة حتى يحدث حادث ما ،كأن يتصل شخص ،أو تصدم السيارة أو تسقط السماء على الأرض.
عيون الناس أيضاً أصابها سأم فظيع ،نظراتهم أكثر حدة وخطواتهم أسرع وحديثهم متشابه ،آلى، ورتيب .قلة من الناس مازال يحتفظ بطزاجة الفكرة وعفوية الأداء وارتياح القسمات وجرأة القلب .
كان يوم العمل لى الأول فى مكان ،أجلس فى مكانى أنتظر بعض التعليمات ،ومن حيث لا أدرى سمعت صراخاً خارجاً من غرفة الإدارة :
-ايه ده ياحيوان ،هات غيرها غور.
وإذا بالحيوان ،رجل فى الستينات ،قصير القامة يحمل بصينية ويخرج من المكتب مندفعاً فى مشيه ويبدو الغُلب على وجهه ،فقلتُ بصوت سمعه زميلى الذى يجلس على مكتبه بجوارى :
-والله شكلك انت اللى حيوان .
واذا بالزميل هذا يلتفت إلىّ :
-انت بتقول على مين حيوان؟
فقلتُ والدم ينبض فى وجههى :
-الحيوان اللى جوا ده ،يهزّق راجل كبير زى ده ليه
فابتسم ابتسامة صفراء ،وقال بلهجة حادة :
-الحيوان ده يبقى أبويا .
دون أن أفكر انتفضتُ من مكانى واندفعتُ إلى مكتبه وقدّمت استقالتى .
فى يوم آخر حار جداً ،كنتُ فى موقف ميكروباص منتظراً بين جمع ليس بالقليل من الناس فى ساعة صباح مُبكرة ،توقف السائق قاصدا بمسافة بعيدا عن الطابور ،واندفع شلال الناس ،وكنتُ محظوظاً واستطعتُ أن أركب ،وقبل أن يتحرك الميكروباص بدقيقة نظرتُ من الشباك فوجدتُ رجلاً سقط فى موجة اندفاع الناس . كانت المشكلة أن الرجل الساقط على الأرض يقع فى طريق خروج الباصات ،نزل أحد السائقين مسرعاً وأخذه من تحت إبطه وجرّه بعيدا عن سير الطريق وتركه وركب ،وتحرك الميكروباص .
بدأ ثقل لسانى بعد ذلك بفترة وجيزة ،واكتشفتُ أننى داخلياً لم أعد أرغب فى الحديث مع الناس ،وبالأخص البائعين ،لا أرى فيهم إلا قسوة القلب ،ولكنى أحياناً يستغرقنى شعور بالشفقة عليهم من استغراقهم فى سعيهم وندرة سعادتهم.وفى كلتا الحالتين أرضى منهم بالأحاديث القصيرةالتى تحمل شيئاً حقيقياً .
تقول وردة :وأنا جنبك بنسى ان الدنيا فيها ناس قاسيين .
رهافة الحس ،والذوق الرفيع ،ورقة القلب ،وخفّة الظل ،وبرودة العين ،ولطافة الطبع ،أصبحت مجاملات تُقال لأشخاص كفرد الجزم ،واذا وجدت أشخاصاً تحمل بعض هذه الصفات فعلاً فتأكّد أن تبقيهم ليس فى حياتك فقط ،بل فى مخيلتك ،لأنك مثلى تريد أن تُصدّق أن الدنيا لسه فيها ناس طيبين .
0 notes
Photo

Lake Nakuru National Park | Kenya (by Nacho Coca)
2K notes
·
View notes
Text
يقظة فى ساعة متأخرة
ما أفشل فيه دائما هو التطلع إلى الأمام والنظر إلى حياتى الآن من تلك النقطة المستقبلية .لو نجحت فى ذلك فعلا أظن أن سيفجعنى كم مهول من الخوف غير المبرر والأخطاء التلقائية المتكررة وتلك الرغبة العارمة فى التحرر من القيود ،أى قيود ،ذلك الشعور بالذات ملازم لى من وقت لم أعد أذكره . ربما فى حقيقة الأمر أنا لا أريد أن أتخيل ،لا أريد أن أتصور نفس التكرار مع اختلاف أرقام السنوات والندبات فى روحى .
ولكن فى نفس الوقت أقولها بيقين تام ،تلك المساحة من اللايقين فى شكل المستقبل هى ماتتيح كل الأمل ،كما يقولون على الأرض "لأن أى شىء يمكن أن يحدث ".
توقف قليلا عن القراءة وخاطب عقلك بلطف واسأله : ماذا تذكر فى حياتك ؟ ،لنحدد عشر سنوات مثلا ..إذا كنت قد حققت شيئاً ما أو أشياء هنيئاً لك ،واذا كنت تسير على درب العمل والوظيفة والزواج وغيره فأنت مع السائرين ،أو لو كنت تعرف كيف تواسى نفسك فأنت محظوظ ،وإن كنت تفكر بشكل يومى فى الموت وتجده أروع إستراحة فأنت واهم .
ولكن ما أريد أن أقوله فعلا أن جميع ماسبق ليس بتلك الأهمية ،المهم فعلا أن تسأل نفسك : ما هو النمط المتكرر ؟ مصب الأنهار ،مكان اجتماع الأفكار ،تلك النقطة التى يتكرر عندها كل شىء وتدور الدائرة وتتعطل الذاكرة.
وحتى وإن كنت محافظا على عادة التدوين بدأب -سواء بالكلمات أو الأصوات أو الصور- ربما تجد وقتها أنك أوليت عنايتك باختيارات خاطئة لما ينبغي تدوينه. التاريخ ،تاريخك ،هو كما قرأت "هو ذلك اليقين الناتج عن التقاء الذاكرة المعيبة بالتوثيق المنقوص".
أحياناً تحدث لى الحياة ،أكتشف فجأة أننى حى ،واستمتع بحواسى ،وأرى بوضوح ذلك الجمال المنقوص ،وأقدّر جيّداً ذلك الهامش من التعب المريح ، وأسعى ،لا لأصل إلى شىء ولكن لأستمتع فقط براحة الضمير .
وفى الأغلب أنحصر فى زاوية ،أتحسس بعيون مُتّسعة عن بقعة الضوء ،وأختبر حواسى إن كانت لاتزال تعمل ،ويزعجنى كل شىء وتثيرنى أقل الأشياء ،وأنتظر إشارة ،أى إشارة للسير مرة أخرى .
المضحك فعلا إن مفيش وقت ودايما مستعجل ،و الشمس بتطلع كل يوم ،كل يوم !
1 note
·
View note
Text
Memento Mori, German marine ivory skeleton bust, 19th century.
286 notes
·
View notes
Text

Nasturtium - Leah Gardner
American , b. 1995 -
Oil on cradled wood panel , 8 x 10 in.
3K notes
·
View notes
Text

Walter Gottfried Stoitzner (Austrian, 1889-1921) - Stream in autumn forest
291 notes
·
View notes
Photo

Johans Valters (Latvian, 1869–1932)
Grove. 1903
Oil on canvas
42 notes
·
View notes
Photo

Ludwig Heinrich Jungnickel (Austrian, 1881-1965)
Foxes, N/D
Mixed media on paper, 31.5 x 29 cm
84 notes
·
View notes