(مت فارغاً) أو (Die Empty)، إسم كتاب للمؤلف الأمريكي تود هنري، والذي بذل فيه قصارى جهده لتحفيز البشر بأن يفرّغوا ما لديهم من أفكار وطاقاتٍ كامنةٍ في مجتمعاتهم، وتحويلها إلى شيءٍ ملموس قبل فوات الأوان !.
وأجمل ما قاله تود هنري في كتابه: “لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائماً أن تموت فارغاً”.
(مت فارغاً!)
تعبير بليغ، جديد وفريد، للوهلة الأولى ظننت أنه عاديّ !.
مت فارغاً أي: من هموم الدنيا، وآلامها، من المعاصي والآثام، من كل شيء…ولكنني تفاجأت بمعنى هذا المصطلح الجديد: (مت فارغاً) أي: من كل الخير الذي في داخلك، سلّمه قبل أن ترحل.
إذا كنت تملك فكرةً جيدةً نفَّذها، علماً نافعاً بلّغه، هدفاً عميقاً حقّقه، حباً مشروعاً انشره ووزعه، ولا تكتم الخير داخلك فتموتَ ممتلأً متخوماً، وتكون لقمةً سائغةً لذيذة لدود الأرض.
ففهمت حينها معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “ إذا قامت الساعة وفِي يد أحدكم فسيلةً فليزرعها”.
كيف يا رسول الله نزرع النبتة والقيامة قامت !؟
أجل يريد صلى الله عليه وسلم أن نموت ونحن فارغين، نعيش كل يوم كأنه آخر يوم، نعطي كل ما نملك، نبذل من الطاقة أقصاها، ومن العمل أفضله، ومن الإبداع أروعه، نكون ملهمين، فرحين، متفائلين، نسعى أن نكون فارغين من كل ما نستطيع تقديمه من خير ونفع للمسلمين، حتى تسمو أرواحنا وتحلّق عالياً.
و الان اجبني …
هل أنت فارغ !!!!!!
أعتقد أننا جميعاً نزن آلاف الأطنان من الخير والعطاء، والبذل والإبداع، لم نعط إلا القليل؛ ولعلنا نُصنّف بالبخلاء !.
كم أتمنى أن نُشمّر ونبدأ بالسباق؛ لنعطي ونستخرج كل ذرة خير ونفع من داخلنا …
لماذا لايساعد ذكر مصائب الآخرين الأشد قسوة، وتذكير المرء أنه أفضل حالاً من كثيرين غيره، وأن كثيرين مرووا بظروف أصعَب وتجاوزوها، في التخفيف من الاكتئاب؟
هذه إحدى اكثر الأخطاء التي يقع فيها الناس عن حسن نية خلال محاولتهم التخفيف عن المكتئب، وتأتي غالبا بنتيجة عكسية.. لماذا؟
هل تعلمون ماهو أول ما يريد أن يطمئن إليه المصاب بالاكتئاب الشديد حين يذهب لطبيب نفسي ؟.. يريد ببساطة أن يتأكد أنه مازال إنسان طبيعيا ..أنه ليس في طريقه للجنون أو فقدان عقِله..هذا الشخص يمر بحالة غريبة جدا عليه وغير مفهومة .. الاكتئاب لايصيب جانبًا محدودا من إدراك الإنسان وعقله، بل يصيب كل شيء …تخيل أن قواك الجسمية متراجعة، ورغبتك في فعل أي شيء منعدمة، وتركيزك يقترب من الصفر ، وقدراتك الذهنية متراِجعة، وليس هناك ما يمنحك السعادة، ونومك قليل ومتقطع .. لنكتف بهذا مع أن هناك الكثير غيره.. كيف ستكون حياتك؟
من مشكلات تصورنا ل"الاكتئاب" أن الكلمة ترجمة سّيئة ل"Depression" الترجمة الأدق هي “انحطاط ”.. يأتي الشخص للطبيب النفسي وهو ُيعاني مما سماه أحد الملحللين النفسيين “Alienation ” ..
أي"الاغتراب"..ويريد أن يتأكد أن مايمر به شيء يقع ضمن نطاق تجربة البشر الممكنة، وأنّه لم يتحول إلى مجنون . . ماذا يفعل بعضنا بحسن نية ؟ يقول له: “انظر إلى من قتلوا وهجروا من بيوتهم في سوريا، وإلى من يموتون حرقا في ميانمار، وإلى المعتقلين الذين يموتون تحت التعذيب في سجون السيسي .. على الأقل أنت حي وعندك بيت وأهل ووظيفة .. هون عليك ..!ماذا يعني هذا؟
أنت تقول له: “أنت مجنون فعلا .. لا أرى أي منطق في أنك مكتئب .. لا يقتصُر الأمر على أن كونك مكتئباً غير منطقي، على اعتبار أن من يشِبهونَك في ظروِفهم ليسوا مكتئبين، بل يتعّدى ذلك إلى أّن هناك من يعيشون حياة أسوأ بكثير وهم مع ذلك ليسوا مكتئبين .. أنت مختل بالفعل، وما تشكو منه يصعب علّي فهمه ” !
الاستجابة الصحيحة مختلفة .. وما يجعلها صحيحة ليس أنها تعود بالفائدة -أي صحيحة براغماتّيا- بل هي صحيحة بالفعل، أي حقيقة . . هذه الاستجابة تعتمد بشكل أساسي على إعطاء مشروعية للألم، أو مايسمى Validation
أنت تعاني وهذا كل مايهمني.. إذا كان هذا يؤلمك فهو يؤلمني .. هذه تجربُتك الذاتية، وشعورك بها هو ما يمنحها المشروعية .. كثيرون كانوا سيشعرون بألم أكبر لو كانوا مكانك،وربما ما كانوا ليمتلكوا شجاعَة أن ُيفصحوا عن آلاِمهم..أنت تواجُه قلَقك خوفك ، لا من ألمك فقط،بل تواجُه قلقك خوفك من ألا افهمك،
ومن ألا أشعر بشعورك..تجربُتك التي تجعلك تشعُر باغتراب عنا جزء من تجربتنا كبشر ، ويمُّر بها كثيرون، أكثَر مّما تتصّور..أنت ما تزال إنسان ..ألُمك الآن أكبر من احتمالك ،لكَّنُه ليس أكبر من قدرتي على فهِمه.. يذكرنا أستاذي الدكتور جان فوسيت أن كثيرا من مرضانا يأتوَن إلينا وهم يشعرون بالعار .. امرأة تعرضت للاعتداء الجنسي وتغيرت حياتها بعده ، ولم تنجح في زواجها، ورضيت بمهنة متواضعة ، تأتي لتجلس أمامك أنت الطبيب أنيق الثياب وصاحب المهنة المرموقة لتخبرك عن كل شيء سيء في حياتها وعن كل مايثير الحزن والشفقة بل ربما النفور بالنسبة لها .. لماذا ستثق بك أنت وتخبرك أنت وتتوقع أن تفهمها أنت؟ هذا هو اختبارك الأصعب . . هذا هو ما يجعلُك صديقا عظيما .. أغلى ما على الإنسان ألمه .. إذا استأمنك صديق على مال أو أسرار أو نصيحة مخلصة ، وفرطت في الأمانة، فهذا أهون من أن يستأمنك على آلامه ومخاوفه وقلِقه فتفشَل في تقديِرها أو تستهيَن بها