labyrinthofarabs
labyrinthofarabs
متاهة الأعراب
16 posts
Don't wanna be here? Send us removal request.
labyrinthofarabs · 1 year ago
Text
يحلمُ بالقيامة
طالما واظبتُ على القول إنّني شخصٌ متفائل، رغم كآبتي، رغم صمتي الكثير والكبير. طالما عزّيتُ نفسي بمقولات مستمدّة من الأدب، من الفلسفة، من الشعر، بأنّ الكآبة ليست بالضرورة نقيض التفاؤل، بل هي كآبة اللحظة الراهنة، تلك التي يصاحبها يقين بأنّ الأسوأ بات خلفنا، كما لو أنّني من يرسمُ التاريخ، بجرّة قلم، خطًّا ممتدًّا إلى الأعلى، يظلّ يصّاعدُ حتّى الله. 
كنتُ أقرأ كيركغورد منذ أيّام، وفجأة، كأنّما كنت أبحث عن مصطلح واحدٍ يلمُّ فكرةً ألحّت عليّ طويلًا، تمامًا كما لو أنني أبحثُ عن يدٍ ثالثة لتحمي ابن أختي الرضيع من الوقوع من يدي: "التذكر إلى الأمام". حين قرأتها، كأنّما انفتح الجحيم أمام عينيّ. تخيّل أن يظلّ التّاريخ يُعيد نفسه، لا كأنّه قد وقع، بل كأنّه سيقع، بلا فارق، وإلى أن تحينَ لحظةُ الواحد منّا؛ كلّما خسرتَ حزنًا عاد وتلبّسك، كلّما تخلّصتَ من لحظة تعب، عادت لتسلّم عليك وأنتَ مُلقًى على درجاتِ مقعدٍ مكسور، وأنتَ تمشي جيئة وذهابًا وفي رأسكَ ليس ثمّة إلّا ذاك المشهد، حين أصرّ أبوك أن تمشي في البيت كي تخفت حدّة توتّرك. 
يومها، مشيتَ في غرفة الضيوف ما يُقارب ساعة، رايح جاي، رايح جاي، رايح جاي، ومع كلّ دورة تزيد من سرعتك، حتى انتهى بك الحال وأنت تلهث. ومع كلّ نفسٍ يخرجُ تعلو حدّة التوتّر، وتبدأ يداك بالتقلّص وأصابعك بالالتفاف على بعضِها، هَلِعًا، خائفًا من العالمِ كُلِّهِ، العالم الذي انطوى في رأسك، منذ حفظ آدم الأسماء كُلّها حتّى لحظات الانهيار العزيزة والطويلة. ابكِ تقول لنفسك، وينحبس الدمع، ابكِ، ترجوكَ، وتتصلّبُ الملامح، اصرخ، ولا حتّى نأمة تخرج من فمك. ألهذا أخافُ الاقتراب، كي لا يُفتضحَ ما في رأسي؟ والفضيحة هنا ليس مردّها ذنب كبير، بل المنظر ذاته، منظر الشخص ذي العيون الذاهلة، يُناظر الطاولة ولا يعرفُ أنّها طاولة، تلمسهُ يدٌ حانية، فيحسبها يدًا من نارٍ، ستحرقه قبل أن يفهمَ معنى النار من الأساس.
في لحظاتِ التعب الشديدة، أسلّي نفسي بالقول إنّني سأراسلك، بأنّني حالَ أن أتحدّث إليك، سيدخلُ السحرُ إلى العالم، وينقلبُ الترابُ ذهبًا، أو غمّي فرحًا مردّهُ استمرار الحديث في الانسياب، لكنّني أعود وأفكّر بأنّك "تو خيلى دورى، خيلى دور"، لكن لعلّني أنا كذلك، فأنا، رغم طولِ تشبيهي لنفسي بأورفيوس الذي ظلّ يلتفت إلى الوراء حتّى خسر كلّ شيء، لا أملكُ إلّا عينين اثنتين، وحتّى وإن لففتُ ��أسي، سأظلُّ أنظرُ إلى الأمام. هل ستكون هناك؟ أم لعلّي أنا من لن يكون حاضرًا لينظر أصلًا؟ 
كذبتُ حينَ قلتُ بأنّني أودُّ أن أراسلك، أن أتحدَّثَ إليك، فأنا أريدُ أكثر. و"أنا" هنا مقصودة، وليست من موجبات الكلام: أنا، فلان الفلاني، أريدُ أن أشعر بوجودي، بأنَّ هذا الجسدَ ليسَ محض كيسٍ من المشاعر والأفكار واللت والعجن والصمت الفائض عن حدِّه، بأنّني حاولتُ جاهدًا تخبئة مشاعر جديدة عليّ، مشاعرَ تجاهك تظهر كلّما راسلتُك أو أردتُ الحديث إليك. بأنَّ هذا الوجه، وجهي، ينبسط كلّما التقاك أنت، فلان الفلاني، كما لو أنّك واظبت على خبطه بشوبك العجين، حتّى رقَّ ولانَ. 
مرّةً قال لي طبيبٌ إنّ مشكلتي "إنّني أفكّر أكثر من اللازم، والواحد لازم ياخذها بسهولة". ألجمتُ نفسي عن الردّ، إذ كيف أقول له إنّ التفكير ليس مزيّة أفاخر بها، إنّه ليس سيّارة تسلا أشتريها لأقاهر الجيران، بأنّني وُلدتُ هكذا، أخذتُ من أمّي حذرها، ومن أبي صمتَ العالم، بأنّه لا يُوجدُ زرٌّ يوقف العالم عن الحدوث، هناك، في رأسي، حيث كلّ احتمال قابل للتحقّق بلا حاجةٍ لأن يُترجَمَ على أرضِ الواقع؟ خضتُ معك هذا النقاش مرّاتٍ في رأسي، مرّاتٍ كنتِ تبادلني المشاعر، ومرّاتٍ تُعرض، ولكلّ احتمالٍ مُبرّراته المنطقيّة، لذا، لمَ عليّ أن أخبرك؟ لمَ عليّ أن أخوضَ في ما أعرفُ بأنّه سيجرحني، سواءٌ أجاء الردّ إيجابًا أم سلبًا، فالجرحُ حاضرٌ أبدًا: جرحُ الفرح، وجرحُ الحزن، أليسا شيئًا واحدًا في النهاية؟ عنّي، فأنا أعرفُ أنّهما شيئًا واحدًا، وإلّا ما كنتُ لأحتملَ نوباتِ الهلع كلّ هذه السنين لولا الدم الذي يأخذ بالتدفق في شراييني، غزيرًا، هادرًا، ليسَ على المرء إلّا أن يُصغي لقلبي حتّى يدرك أنّ شيئًا ما على وشكِ الانفجار، قبلَ أن يفهمَ أنّهُ يحيا هكذا: كلّ انخفاض يُعادله ارتفاعٌ موازٍ، كلّ ضحكةٍ يعادلها تقطيبٌ بين الحواجب، كلّ لا، تلغيها نعم تخرجُ من فم أحدهم.
لا أفترضُ شيئًا، بل لا أحبّ أن أفعل، لأنّني لم أتوصّل بإجابةٍ آمنةٍ يومًا، منعتُ نفسي من القول إنّك مهتم فعلًا، لكنّني لم أُغالب نفسي بذات المقدار حين جاء دوري للإجابة: أعرف أنّني مهتمٌّ. أجدُ نفسي أودُّ طرحَ الأسئلة، والاستماع، لا لأنّني قرأت على WikiHow نصائحَ عن كيف تكون شابًّا جيّدًا في حضرة من تُعجب به، بل لأنّني… لا لا داعي لإكمالِ هذا، أنا متخلّف والله، وكثيرًا ما أضبط نفسي أقول أشياء عجيبة. 
يحبّ كثيرون تعدادَ ما يعجبهم بشخص�� ما: الابتسامة، الذكاء، الصدق، خصلة ما كما الغناء أو الكتابة، الكثير من الأشياء. لكنَ علامَ كُلُّ هذا؟ أفكّر بصدقٍ أيّانَ يمكن أن تقود الإجابة أبعد من إرضاء سطحيٍّ لغرور الطرف الآخر. حينَ كنتُ طالبًا، كنّا نُسأل في موادّ الأدب عن انطباعاتنا عن قصيدة ما، نصٍّ ما، فيُخرجُ الطلبة قوائمهم من جيوبهم، ويبدأوا بالتعداد: اللغة سلسة، استخدامه للعبارات مميّز، إحساسها عالي، بتحسها بتفهم، عميق، لمسني، بكيت… لكن أليس في كلّ هذا اختزال؟ أليست المحاولة في فهمِ الآخر، وأسباب إعجابنا به، أولى من اختزاله بكلمة؟ لديّ الكثير من الإجابات، لكنّني لا آبهُ بأيٍّ منها، فالمرءُ يظلُّ… والله ما بعرف شو يظلّ، بس إنّه على الأقل يظلّ، رغم الإحساسِ بالذنبِ من كلِّ هذه التبريرات السخيفة والسهلة، رغم كلّ الخطل والكتابة والمحو والتفكير مرّاتٍ فيما يجبُ ولا يجب قوله. لعلّ أصدق ما يمكنني قوله هنا، هو الإشارة إلى أنانيّتي، فأنا، إذ أخبرك بما أحسّ به، كأنّما أطلب تمديد أمدِ هذه السعادة، سعادة الوجودِ إلى جانبك. لا أملك إلّا أن أقدّم نفسي كاملًا، جسدًا يحلمُ بالقيامة. 
6 notes · View notes
labyrinthofarabs · 1 year ago
Text
لستُ أنا، لستَ أنتَ
لستُ أنا، بل أنت من بدأ كلّ شيء. لستُ أنا، بل أنت من كان فاعلًا وحرّك الأحداث ظانًّا في نفسه القدرة على محاكاة الريح. لستُ أنا، بل أنتَ من ترك فراغًا، وملأه في مكانٍ آخر، ظانًّا أنّ المساحة التي تُخلق، بإمكانها أن تنتقل لمجرّد حضور الرغبة. لستُ أنا، بل أنتَ، رغم أنّني واظبتُ طوال الوقت على تجنّب الاستعاذة، مردّدًا كما البوم: أنا.. أنا.. أنا.. أنا. لم أكُن، في كلّ الأوقات، أتسمع، في كلّ الأوقات، إلّا الحجر الذي ألقاه فوكو في النّهر، إلّا الصفحة البيضاء التي أنِفَ جون لوك عن كتابتها. أمّا أنتَ، فظللتَ تدّعي النسيان محاولًا أن تتذكّرني، وكلّما اقتربتَ، ملأت محيطي بجسدٍ آخر. 
أتذكُر، أتذكُر حين طلبتَ منّي أن أغضب، وأجبتُكَ بأنّني لا أغضب؟ أتذكُر، حينَ قلتَ لي أنّ الانتهاء عندَ القمّة أفضل من السباحة في الوحل؟ أتذكُر، حين قلتَ لنلتقي هناك، عند خطّ النهاية، فإذا وصلتَ قبلي انتظرني، فانتظرتُ حتّى مللتَ أنتَ، قبل اجتياز ربعِ المسافة حتّى، ولم أغضب. أتذكر حين استمعنا لذاك الشخص وهو يُسأل: ما سرّ دِقّتك فيما تفعل، فأجاب بأنّه دقيقٌ في كلّ نواحي الحياة، فلمَ لا يكون دقيقًا فيما يفعل؟ ضحكنا يومها عليه، ضحكنا منه، كما لو أنّه يُطالبُ نفسه بما لا يُطلب. لم أقُل لكَ إنّني مثله، دقيقٌ رغم الكسل، دقيقٌ لا في المواعيد والجودة وما شاكلهما، بل في المشاعر، في الإحساس، حيثُ النغم يأخذُ شكلًا ثابتًا: دوم دوم تك، دم تك دوم... ومع كلّ تكّة أخذ قلبي يهوي، ويهرشني الندم. لم أجرؤ بعدُ على القول إنّني نادمٌ على معرفتكَ، لكنّني نادمٌ على دقّتي في تحييد الغضب، فمع كلّ غضبةٍ أمسكتُ عنها، حيّدتُ جزءًا منّي، آملًا أن تنتشله، وما فعلتَ. 
أنا غاضبٌ لأنّكَ تغيّرتَ، ولم أفعل. غاضبٌ من النواصي، من عواميد الإنارة التي أوهمتني أنّ ضوءها يعني الأمل، من الطريق الذي يقودُ إلى المعنى، وإلّا إلى الفهم، دون أن أتّعظَ من أنّ الموت بنفسه حصد روحي دون أن يتركَ وراءَهُ رسالةً، إشارةً، أو حتّى هاتفًا. لستُ أنا، بل أنت من وضع الحواجز، وظلّ حصيفًا في المشاعر، بخيلًا في الودّ، يُبادلُ الوردة بباقةٍ كأنّما يكفّر عن ذنبٍ لا أحد منّا يعرفُ شكلًا له، ليقوله. لستُ أنا، بل أنت من تحصّنَ بغياب الوعد منطوقًا رباطًا يجمعنا، لكنّني أنا من لم أشأ ربطكَ كما لو كنتَ حلالي، غافلًا عن أنّ ما جمعنا ليس إلّا الحرام، يا هذا. 
لستَ أنتَ، بل أنا، من ظنّ "عزيزي" تعني عزيزًا حقًّا، وأنّ المودّة نبتة تفرش جذورها أرضًا تجمعُنا. لستَ أنتَ، بل أنا من أخطأتُ وأُخطئُ، أدحضُ عن نفسي بيدٍ امتياز الضحيّة، وأثبّتها كتابةً بالأخرى، وأنتَ أنتَ، تحظى بالهلمّة كلّها دون أن تقول كلمةً، دون أن تقتربَ، دون أن تبتعدَ، مُعلّقًا، هكذا، بينما كلُّ ما فيّ يوحي بالريبة، بالترصّد، وبالفاجعة. قلتُ لكَ خذ هاتين اليدين، فأخذتَ واحدة، قلتُ لك ماذا عن العينينِ، فأعشيتهما وأبرأت واحدة، خذ هذا القلب، فكسرته نصفين، كلّ واحدٍ جمعته في سلسالٍ: الأوّل علّقته في جيدي، والثاني أسلمته لليد التي ظلّت. 
لستُ أنا، لستَ أنتَ، من كان السبب، إنما وحدي أتقلّب بين الغضب والرضا، بين كراهتك ومحبّتك؛ فبين لغتي ولغتكَ ما فرّق الشمسَ عن الزّمهرير. ورغم كلّ الغضب، ما زلتُ أحبّكَ، أيا وعدًا ما انحكى. 
9 notes · View notes
labyrinthofarabs · 1 year ago
Text
رمشة، فاثنتان، وهكذا حتى آخر النظر
بينَ القرار بالنوم أو المواصلة، يومٌ لم يتحدّد مصيره. واليوم، مجرّدًا، لا شيء، قماشة بالإمكان شقّها، ورقة على الرزنامة يمكن تجاوزها ببلادة وعينين لم يستيقظا بعد، لكن بالنظر إليه من زاوية المفيد، بوسع اليوم، أيّ يوم، أن يخفّف من توتّر الأيام التي تليه، أو أن يزيدها. وبالنسبة لشخصٍ تركَ مستوى الهرمونات في دماغه يحدّد مصير اليوم القادم، لا أملك إلا الانتظار، وربّما مراقبة تطوّر مستوى الألم الممتدّ من الرقبة حتى صابونة الكتف. 
مستوى الألم حاليًّا: محتمل، لكنّه قابل للانفجار، مثل حياتي التي يبدو أنّني أحرقها بتؤدّة غريبة، كما لو أنّني وصلت مرحلة "ما بعد التفكير": لقد قضى العالم الذي واظبتَ ثلاثين عامًا على التفكير بما يمكن أن يحسّن شروطه، ولم يتبقَّ الآن إلّا فرصة مشاهدة الألعاب النارية، بعينين تبرقان، وفمٍ مزموم: تركتُ عملي الأوّل، بوم. أفكّر في تركِ عملي الثاني، بوم. لا أملكُ في الحساب ما يكفي حتى منتصف الشهر القادم، بوم. أعمل على 3-5 أعمال بلا مقابل منتظر حتى فترة طويلة، بوم. لا طاقة لديّ للسؤال عن المال، بوم. حاولتُ للمرّة السبعة مليون إكمال قصّة قديمة دون رجاءٍ بالنجاح، وبخيبة جديدة، بوم. كما اندسّت في حياتي فجأة اختفت نوبات الهلع، لكنّ جسدي لم يتقبّل التغيّر المفاجئ، فبدأت كلّ العقد العضلية والعصبية بالانفجار، واحدة تلو الأخرى، بوم.. بوم.. بوم.. بوم. 
منذ شهرين، لم أفعل أيًّا من الأشياء التي أحبها: القراءة، الكتابة، مشاهدة أي شيء بقيمة أو بلا قيمة. قرّرتُ أنّني بالغتُ في الفعل على مدى سنوات، ولجأتُ إلى عدّ الشيبات الجديدة في رأسي ولحيتي، وشرب القهوة بصحّتها. القرار الوحيد الذي ما زلتُ ملتزمًا فيه: لا منافسة على الإطلاق، خاصّة إذا ما دخلت فيها أعراف الديوك، أو شوارب الذكور. نعم للمحاولة، ولا لمصارعة الأيدي، حتّى وإن كنت في قمّة الخفّة، وعند مستويات وعي دُنيا: اشرب ماءً، واستعذ بالله من الشيطان، ثمّ عاود أدراجك. 
كم مرّة ظننتَ السياق ملائمًا، كما مرّة طابق اللفظ معناه، لتكتشف أنّ الأبعاد في المرآة ليست إلّا محاكاة للأبعاد الحقيقية؟ مرة، عشرة، مئة، ألف؟ ورغم الحلم الذي لا يفارقني بالعودة إلى صفّ الرياضيّات، ما زلتُ مدركًا أنّ النتائج لا تعبأ بعدد مرّات تكرارها، فما الذي يدفع المرآة أن تصير واقعًا، ألأنّ صورة السيارة خلفك طابقت لونها وبُعدها عنك؟ لكن ما يمنعها من الاصطدام بكَ وأنت تعلمَ أنّ رخصة القيادة انتهت صلاحيتها منذ سنتين؟
أمامي واحدة من روايات ميشيل ويلبيك التي ظلّت عصيّة عليّ "احتمال جزيرة"، أحبّ العنوان، وأكره الرواية، لعلّني أكرهها لكرهٍ مفضوح لنفسي التي استسهلت ما يستمرّ إلياس خوري في استسهاله: أن نبدأ من جديد. كلّما حاولت البدء من جديد، أتوه لكثرة أصوات المستنسخين، وفي المرّة الوحيدة التي تجاوزت ذاك التوهان، ووصلتُ أرضًا يسهلُ معها ربطَ الأحداث، مللت. لكن، ومن قرأ ويلبيك يعرف ما أعنيه جيّدًا، هو وحده من بإمكانه انتشالي الآن من "مرحلة الكابينة"، حيث أقف منتظرًا، مثله، هاتفًا من على حافّة العالم، محاولًا درء ذكريات اللعبة الطفولية "تلفون خربان"، كي أتمكّن أخيرًا من الانعتاق من القرار السابق على القرار الوحيد الذي التزمتُ فيه: أنْ قاطِع الأمل؛ فهل أصحو من حصّة الرياضيّات أخيرًا، على وعيٍ ب��نّ النتائج قد طابقت التوقّعات، ولو لمرّة واحدة، مرّة أشبه ببجعة سوداء، غريبة، لا روحَ فيها إلّا عينين فيهما من القوّة ما يعادل رمشة، فاثنتين، وهكذا حتى آخر النظر؟
7 notes · View notes
labyrinthofarabs · 2 years ago
Text
يتوثّب النبض تحت جلدي توثّب الناعِس
لم أشأ أن أكون هنا، لم أشأ أن أكون سوى في مطارح قليلة، كلّها اختفت قبل أن تنطبع صورة قدميّ على الأرض حتّى. حتّام، حتّام كلّ هذا؟ في البال، فكرة واحدة ظلّت حاضرة: لستَ ضحيّةً، لستَ ضحيّةً، عافر وكفى، فإن لم تجنِ شيئًا، فعلّ أثر الغبار يدلّ على المسير. 
في الجامعة، زعقتُ طويلًا برغبتي بالاضمحلال، إلى التحوّل إلى حجر فوكو، ذاك الملقى في النهر. في حياتي، اتّخذتُ دربًا لا سؤال فيه ولا استجداء: اكتب، اكتب، فالكتابة منأى للكريم عن الأذى. في البيت: اختبئ، راكم الابتسامات والرضا على مُحيّاك، ضاعف البرّ واجنه دعاءً على لسان أمّك وقلقًا في سؤال أبيك. في الحبّ: اقنع بالحال، اختلق التبريرات لغيرك، تحمّل الذنب صليبًا موشومًا على راحتيك. في الصداقة: سلّم وبارك وافتخر، ودعهم يرحلون فرادى وجماعات علّ الحياة تبتسم في وجوههم. في الدراسة: اهرب من كلّ ما لا يعنيك، حتّى يهرب منك ما يعنيك. ابن سيرةً ذاتيّة لا تخوّلك لفتح فمك حتى على مواقع التواصل، فمن قنع بالسكوت مرّة، ما يضيره لو سكت مرّات؟ أنتَ من أنتَ، صنيعة كلّ لحظات الصمت والخجل والهبل، صنيعة الرضا المزيّف الذي لم يعجبك مرّة واحدة. 
أشتاقُ لنوبات الهلع، من كلّ قلبي. فاللحظة التي يدفق فيها الأدرينالين في الجسد، لا يساويها سوى لحظات الغياب التام في الضحك، الغياب نصف التام للوعي بعد السكر، قبل أن ينطلق صوت عبد الوهاب، من مكان تجهله: كل دا كان ليه؟ هاهاها كان ليه فعلًا؟ كان ليه الموت، وليه حرقة القلب على جواب كان يمكن الر�� عليه بكلمة، بعناق كان ممكنًا ألا يحتضن كل ذاك الجفاء والخوف، بنظرة لا تحيل إلى داخل النفس، بل تتوخّى تدانيًا يبرّد الشوق، كان ليه الشوق من أصله ووجهانا في وجه بعض كلّ يوم، كانت ليه الدراسة طالما ستذبحني وحدتي بكلّ ما أعرف ولا أعرف، كانت ليه ساعات النوم الطويلة حدّ عدم الاكتفاء، حدّ الرغبة المكبوتة بتذكّر أيّ حلم، بمواصلة الحلم السابق مهما كان فظيعًا. أحنّ لوخز الأدرينالين في أطرافي، برعشة اليد وهي تعاود السيطرة على الزمام الذي فُقد، الزمام الذي لم يكن أكثر من فكرة، تهاوت يوم بلغتُ وأنا في الثالثة والعشرين من عمري، يوم نزلتُ عن شجرة الطفولة قردًا بطيزٍ يبرقُ لشدة حداثته. بأبي وأمي الشجرة، تلك التي لا أعرف لها دربًا. 
ما شفتش من الدنيا إشي، أقول هذا وأنا في حيطان الثلاثين، إلامَن أشكو، إلامَن يا حبيبتي؟ يتوثّب النبضُ تحت جلدي، لكنّه توثّب الناعس، ذاك الذي يحنّ لنومٍ لا قومة منه.
2 notes · View notes
labyrinthofarabs · 2 years ago
Text
مكتبي الملاصق لنافذة نصف مفتوحة
قرأتُ "كفاحي" لكناوسغارد أوّل مرّة حين كنتُ طالب تبادل في جامعة هيلسينكي، نهاية عام 2017. أذكُر أنّني حمّلتُ نسخةً مقرصنة للترجمة العربيّة. أفعلُ ذلك أحيانًا كي أتعرّف إلى كاتبٍ جديد، وكي أتخلّص من ذنب شراء كتب أكتشف لاحقًا أنّه لم يكن عليّ شراؤها. ورغم أنّ الوقت كلّه ليلٌ نهاية العام في هيلسينكي، كان الوقتُ متأخّرًا فعلًا، لعلّها كانت في حدود الحادية عشرة مساءً.
في اليوم الترحيبي، قالت إحدى المتحدّثات بثقة للطلبة الأجانب: ستحتاجون إلى مكمّلات فيتامين د، أعرف أنّكم لن تبتاعوها، لكن تذكّروا فقط أنّكم ستدركون لاحقًا حاجتكم لها هنا. الآن، لستُ أكيدًا إن كان مردّ الحزنُ الوحدة، البرد القارص، إحساسي بأنّني أزيّف شخصيّتي مع كلّ لقاء بشخص جديد، موت صديقتي، أم نقص فيتامين د. أعرف أنّني كنتُ في بداية انزلاق إلى ما سينتهي بي إلى انهيارٍ تامٍّ، بعد رجعتي للأردنّ بكثير.
لم تكن نيّتي إتمام الرواية، خاصّة مع امتدادها على ستّ أجزاء طِوال، لكنّني لم أعرف أنّ الموت، منذ الصفحة الأولى، سيكون بطل الأحداث، حتّى وإن تجاوز الموضوع الموت الحقيقي؛ ففي "كفاحي"، ينزلق كلّ شيء إلى ظلامٍ يعرفه من عاش يومًا واحدًا في شتاء دولةٍ اسكندنافيّة. مع كلّ قراءة لكناوسغارد، يتغيّر شيء من فهمي له. اليوم مثلًا، أحسستُ بأنّه ليس كاتبًا، أقصد أنّ ما يفعله يختلف عن محض الجلوس والكتابة، بل هو أشبه بمن يختار مواضع الموسيقى في الأفلام والمسلسلات. الأحداث والشخصيّات وظروفها، كلّها محض حشو، لكنّ النّقلات ما يصنع منها حدثًا، ما يخلق سرديّةً تجعلني أدور حول نفسي مثل من أضاع شيئًا ولم ينتبه أنّه في يده.
يغصّ الإنترنت الآن بالمعلّقين على فوز يون فوسّه بجائزة نوبل. وبين مرحّب وآخر مندّد وثالث لا يعرفه، يأتي كلام فوسّه نفسه عن نثره الذي يصفه "بنثرٍ بطيء"، وكلام آخرين يصفونه "بالكاتب الصّعب". كلّ ذلك يجعلني أفكّر: ما الصّعب وما السّهل في القراءة؟ هل عمل من ستِّ أجزاء صعب بالضّرورة، وهل ينطبق الوصف عينه على من أعطى "صوتًا لما لا يُقال"؟ بالتفكير في كناوسغارد، أجده بالغ السّهولة، رغم أنّ جانبًا واحدًا من كتابته، الحوارات، قد تمتدّ لصفحات بلا أيّ رجاء أن تأخذ السّرد إلى مكانٍ جديد. ما فهمتُه عن نفسي أكثر من أيّ شيءٍ آخر، أنّ في كتابته إيقاع وافق إيقاعي، فباتت العودة إليه كما القيادة على طريق عمّان-إربد: طويلة، لكنّها تجعلك تستغرق في هدأةٍ يصعبُ على الطرقات المزدحمة والضيّقة أن تجلبها لك، رغم خطرِ السّرحان.
بقراءته، أتذكّر تلقائيًّا مكتبي الملاصق لنافذة نصف مفتوحة دومًا في مقاطعة كانّيلماكي، سكن هُواس للطّلبة، أ-3. أتذكّر الجاكيت الخفيف الواقي من المطر، التراس التي كنتُ أدخّن فيه حتّى أُغلق لأنّ بعض السكارى قرّروا أن يدخلوا في مسابقة بصاق على الأرضيّة، والملل الذي كان يكسره رفيق الشقة آندريه، الذي كان يتلذّذ بتعريفي كاتبًا لكلّ معارفه، بينما أواظب بدأب شارحًا الفرق بين الفعل: أكتب، واسم الفاعل: كاتب، حتّى بالغتُ مرّةً وأنا أشرح ذلك لرفيقته فيرجيني حتّى كدتُ أفوّت عليهما قضاء ليلةٍ في غرفته، خطّط لها مذ حطّت قدماه في هيلسينكي وعيناه عليها.
هل كانت أيّامًا جميلة؟ بالطبع لا، هل أحنّ لها؟ بلا شكّ. يُخيّل لكلّ من عاش في الأردن، أنّ السّفر يجلب أوّل ما يجلب الحريّة. لعلّ هذا صحيح، لكنّني، حالما وصلتُ هناك، امتلكتُ حريّة أشبه بجمرةٍ أُلقيت بيدي، فألقيتها عنّي، لأكتشف أنّني الشخص ذاته وإن تغيّرت المُعطيات كلّها، ثمّ واظبتُ على عيش حياةٍ مزدوجةٍ، متحرّجًا دومًا من تقديم نفسي وما أفكّر فيه، كأنّما أقدّم نسخة مُخفّفة منّي، من أرادها كاملة عليه دفع اشتراكٍ من نوعٍ ما.
لم أُرد أن يعرفني أحد حقّ المعرفة، وبقسوة، أخفيتُ نفسي أكثر وأكثر وأكثر، حتّى نحفتُ حقيقةً ستّة كيلو غرامات، وكدت أختفي كما قالت أميّ. لم أُرد، منذ زمن لم أعد أذكره سوى أن أقرأ وأكتب، وفي بعض الأحيان، أن أُحبًّ، لكن دون أن أقول أيّ كلمة، فكلّ كلمة تأويل، ترجمة لشيء آخر، أراه بسيطًا، مُنزّهًا عن اللغة، وأجده خلاف ذلك. كيف أقول ما أفكّر فيه؟ كيف أشرح أنّني وصلتُ نقطةً توقّف عندها فهمي للعالم، ولنفسي حتّى، وظللتُ من بعدها أراوح المكان ذاته، وأتساءلُ، رغمَ كلّ أدوات التأكيد: أيمكن أن أكون مخطئًا إلى هذا الحدّ؟ هل بالغتُ حين أجبتُ معلمة التربية المهنيّة في الصف السادس، بعد سؤالها عن مثلنا الأعلى، وإجابتي أنّه أبي، وطلبها منّي أن أوضّح: حتّى وإن أجبتك، لن تفهمي، لن يفهم أحد؟
في السّادسة والعشرين، وفي حوارٍ ليليٍّ مع صديقةٍ، تعاهدنا أن نصير سعداء قبل بلوغ الثلاثين. وها أنا قبل الثلاثين بأشهر، لم أفعل سوى قطع علاقتي بتلك الصديقة. الحقيقة، أنّني لستُ غريبًا إلى الحدّ الذي كنتُ أتمنّاه، ولا اللغة بحاجة إلى تفكيك كي تنطق بما لا يُنطق به، كلّ ما في الأمر أنّني جهدتُ في ترسيخ تصوّر مفارقٍ عن نفسي، مثلما يجهد الفنلنديّون كي يثبّتوا أقدامهم على الأرض في الشّتاء خشية الانزلاق. الفارق، أنّني تمسّكت، ولمّا أزل، بعيشِ حياةٍ لا بهجة فيها، حياة ملؤها لوم النفس، ومراكمة الذنب، وكبح الرغبة بوصفها خطيئة، والقراءة حدّ الكراهية، كراهيّة كلّ ما لا يشبه ما أحبّ، وأنا في هذه اللحظة لا أعرف أبدًا ما ومن أحبّ.
1 note · View note
labyrinthofarabs · 2 years ago
Text
موجة بلا عينين
إلى أيّ حدٍّ يجب أن أكون بلا ذمّة ولا ضمير كي أظلّ أكتب عنها، إلى أيّ حدٍّ سأظلّ أستخدمها شمّاعةً لأحزاني وإحساسي بالفراغ، وإلى متى سأبقيها عنوانًا للأسى الذي خطّ شعر رأسي شيبًا؟
أشعر الآن أنّني أكتب عنها كما يُكتب الجنس في كثير من الأدب العربي: لا يشير إلى السّرير بقدر الإشارة إلى غياب التّجربة؛ عن أيّ حزن وأيّ أكل هواء أتحدّث، إذا كان هذا هو الهواء الوحيد الذي ابتلعته طوال سنواتٍ ستّ؟ حزني بلا طعمة، مثل الفقّوس البارد، لا هو خيار ولا هو شيء مستقلّ بذاته، مجرّد شكل، ظاهرة يسهل ضحدها. ليجرّب أيّكم الحديث معي فقط: لا شيء سوى محاولة لأكون شيئًا، مجرّد شخصٍ يودّ الانتماء إلى ما هو أكبر منه، والحزن يبدو كبيرًا على الدّوام، كبيرًا مثل وجه طارق تميم وهو يصرخ في وجه امرأته: أنا شو عملت غلط.. أنا شو عملت غلط؟
عمومًا، هذه محاولة أخرى لرمي حجر في البركة العكرة. وبلا لت وعجن أكثر، ما أردت قوله إنّني لا أستطيع متابعة مسلسل "النار بالنار" دون أن أتذكّرها، حدس ما يدفعني لأكون على يقين من أنّه كان ليعجبها، وحدس آخر يجعلني أعتقد أنّه الجزء الثّاني من "غدا نلتقي". إذا كان هذا هو الغد الذي سنلتقي فيه، فأيّ فجيعة هذه يا خديجة؟ أيّ فجيعة أن تظلّ كاريس بشّار منذورة لخسارة تلو الأخرى؟ وأيُّ قبحٍ يختبئ في كلّ هذا الجمال المكتوم، لديها ولدى جورج خبّاز وطارق تميم وعابد فهد؟
أشاهد المسلسل وقلبي مُثقل من كل هذا الذي يُسمّى حياة، فهذه مجرشة، تحوّم شفراتها بصوتٍ يهدر داخل الرّأس، دوّامة لا أمل من توقّفها، مثل حياتي رُبّما، تلك التي لا أعرف لها معنى سوى الأمل بشيء غامض ملتبس بحثتُ ثمانية وعشرين عامًا عنه، وما زلت. شيءٌ أشبه بالأفق والشّمسُ تحطّ أعباءها في بطنه، معنى الأمل في المعجم، هدأة البال، وغياب الصّوت الذي يهصر أضلعي بين طيّاته. أريد أن أشقّ برقع الحياة، لكنّني لا أعرف ما أصنع بعدها: لا مال يكفي، ولا سعادة وضّاحة وثغرها باسم. أركض، ولعلّ الرّكض هو حسبي، أحيانًا أفكّر بأنّ الرّكض مرادف للصّراخ، أليس كلاهما المعادل الماديّ للأدرينالين؟
سوء فهمٍ كبير هي الحياة، هذا ما أعتقد به منذ زمن، وكلّ الباقي مجرّد إثباتٍ للحسبة البسيطة؛ أنّ 1+1=2، للأسف. إذا كنتُ أريد شيئًا، وليسامحني المتنبّي على التّنكيل به، أن يبلّغني الزمن ذا ما سبق أن بلغه في نفسه الزّمن، لكنّني أخجل من أن أثبت ما أريد، فإثبات الشيء يعني الإقرار، والإقرار أقصر السّبل إلى الفضيحة، تلك التي هربتُ منها طوال عمري.
في رواية مؤنس الرزاز "اعترافات كاتم صوت"، ثمّة فتاة نسيت اسمها، كانت تغلق على نفسها من العالم، لكنّ مصيبتها أنّ الكلمات كانت تتسرّب من مؤخّرة رأسها: فضيحة، موت، حزن، يأس، ضعف، ارتجاف، والقليل من الرّجاء، وشيء من الأمل، ورغبة عارمة.
أشاهد أكثر من مسلسل في رمضان هذا: الزّند، ابتسم أيّها الجنرال، النار بالنار، وأفكّر في مشاهدة سفر برلك. أستطيع الأخذ والرّدّ فيها كلّها، إلّا "النار بالنار"، فذاك شيء وحدها من سيفهمه، فهي وحدها من فهمت سرّ العتمة في "غدًا نلتقي": أنا العاشق السيء الحظ، ضاعت الرّواية، صرلك شي؟، بتمرّ.. بتمرّ.. بتمرّ، ولم تمرّ الأزمة، فالأزمة صارت أنا، ولمّا يفهم تشارلز أروبي أنّه كان وسيظلّ الأزمة كذلك، فهل يدلّه البحر إلى علّاته، أم يصيّره موجة بلا عينين، تأتي على كلّ من حاول العومَ؟
Tumblr media
5 notes · View notes
labyrinthofarabs · 2 years ago
Text
ابن كلبة يقرأ البحر البحر
أحاول قراءة "البحر البحر" لآيريس مردوخ؛ هذه واحدة من الروايات التي حلمت بقراءتها منذ عشر سنوات. أقول أحاول، لأنّني لستُ بمزاجٍ لقراءة رواية تصل حد�� الـ700 صفحة، ويخامرني الأسى كلّما لحّت الرّغبة بالتوقّف، فقد لا أعود لها لعشر سنوات أخرى. 
آخذ القراءة على محمل الجدّ، أحاول أن أجعلها فعلًا يوميًّا، وإن لم يكن، أظلّ أفكّر في الكتاب الذي بدأته، أو ذاك الذي أودّ البدء به، لكنّ ذهني، مثلما كنتُ أبدًا، يشتّ بسرعة، يتفلّت كأنّما يحاول نبذ ما تحت اليد، إلى ذاك المُرتجى، والمُرتجى بعيد دومًا. 
القراءة هي الشيء الوحيد الخاصّ بي، هي غرفتي، وحرّيتي، واستقلالي، ولحظة الصفاء الوحيدة في ذهنٍ أسمعُ فيه يوميًّا صوت صراخ طويل، حادّ، أشبه بعواء طفلٍ يحاول فهم العالم. اليوم الذي يشغلني فيه طارئ عن القراءة، بسبب العمل أو الغمّ أو لهفة ابن أختي وهو يردّد "أقلك إشي.. أقلّك إشي.." يوم كئيب، يظلّ صداه يتردّد لأيّام لاحقة. 
بحرُ مردوخ هادر، يتردّد في العنوان مرّتين: إذا كان البحر وحده مدعاةً للسكون، فالبحر مكرّرًا لا بدّ أنّه نذير عاصفة، وأنا لستُ حمل أيّ عواصف الآن، فيكفي حياتي ما فيها من تقلّبات. 
بدأتُ في تشرين الأوّل الفائت آخذ مضادًّا للاكتئاب، فقد أنهكت جسدي كثرة نوبات الهلع التي واظبت على الزّيارة أربع سنوات، كنتُ راغبًا بمشهدٍ أقرب لبحر وحيد: هادئ، مفتوحٍ على الأفق، والأفق كان أملًا سرعان ما بدّده التكرار: البحر.. البحر.. البحر. 
أخذ جسدي يتكيّف، وفي تلك المرحلة، لم يكُن ثمّة سوى السّكون، بل الذّهول عن العالم والرّغبة في الارتماء بحضن النّوم الدافئ. نومٌ لا تقطّع فيه، لا كوابيس، لا رغبة، لا أمل، لا طموح، لا حزن.. لا شيء سوى عينين فارغتين، وحلم بأن تستمرّ الحياة وادعة خفيفة لا تلقي بعبئها عليّ. 
"يحلو لآخرين أن يسمّوني كاتبًا. بالنّسبة إليّ، أنا ابن كلبة، وتستطيعون أن تخمّنوا ما هي الكلبة. أليس كذلك؟" لا أعرف إن كان جون برجر غاضبًا حين وصف نفسه بابن الكلبة، لكنّني أعرفُ أنّني غاضبٌ حين أستعير جملته تلك، أنا ابن كلبة لا يفعل ما يجعله يستحقّ ذاك الهدوء المرغوب، أنا ابن كلبة لأنّني أضعفُ من اختيار السّعادة، لأنّني أقلقُ وأهتمّ وأتحامل على نفسي وأحاول الحفاظ على حدٍّ أدنى من الذوق مع الجميع، ابن كلبة حين أفترضُ الخيرَ قبل الشّرّ، ابن كلبةٍ حين أخون موقفي وأكتب بوصفي ضحيّة هُنا، لكنّني متعب، وأحسب أنّ في التعب مبرّرًا كافيًا للتّغاضي عن الخطأ، أنا ابن كلبةٍ لأنّ نوبات الهلع عاودتني، رغم الدّواء.
في صغري، حين كنتُ أخاف، أغمض عينيّ، وأتخيّل نفسي داخل الشاشة الرئيسة لويندوز إكس بي، تلك الصّورة للمرج الأخضر والسماء الصافية، في ذهني، ثمّة منطاد في الصّورة ولا أعرف إن كان موجودًا أم إنّني أضفته للمشهد. أركبُ المنطاد، وأغمض عينيّ، فيلفحني نسيمٌ عليل، رغم أنّني لا أتصوّر الهواء نسيمًا في الأعلى، بل زمهريرًا يتسلّل من فتحات الأكمام. 
حينَ كبُرت، صرتُ أتخيّل هاوية، لا بوصفها صورة، بل كلمة، تمرُّ في خاطري مُكرّرة مئات المرّات، وباللغة الإنجليزيّة: Abyss.. Abyss.. Abyss.. Abyss.. Abyss؛ ثمّ تُعتم شاشة عقلي، وأراني، بالكلمات من جديد، أصدم رأسي بالحائط. رغبة ممضّة بالانطفاء، باسوداد العينين وخروج التترات، ورُبّما (لعلّي هكذا آمل)، بإعادة المحاولة كما لو أنّني في لعبة إلكترونيّة غير محدودة الأرواح، حبّذا لو كانت من صنع نينتيندو. 
في أحد الأعمال التي اشتغلتُ فيها (والشّغل هنا من Labor)، وصلتُ حدّ الانهيار العصبيّ، جرّاء تصحيح مديرٍ لخطأ أمام الجميع. فقدتُ السّيطرة، بدأت أطرافي بالاهتزاز وغامت الدّنيا من حولي، وقعت، نهضت، زحفت، كسرتُ فازة في الصّالة، هرب ابن أختي خوفًا، حبوتُ صوب الحمّام، غسلتُ وجهي، انهرتُ، وقفت، شتمت، ترنّحت، ثمّ انهمر البكاء غزيرًا، حرقة لا يؤلمني في ذكراها إلّا أنّني كنتُ أفكّر خلالها في الوقت الذي أهدره انهياري من ساعات العمل. 
قرّرتُ يومها ألّا أكمل في ذاك العمل، وألّا أعود للصّحافة من جديد. استقلتُ، وعدتُ أبحثُ عن الاحترام، ولمّا وجدتُه، آلَمُ أنّه لم يدُم طويلًا. تعلّمتُ الصّمت منذ زمن، لعلّني تعلّمتُه بدافع الحبّ، وخشية من انكسار القلب الذي خبرته أكثر من مرّة. تعلّمتُ أن أكتفي بالفرجة والاستماع والنّظر، فصرتُ مراقبًا جيّدًا لحياة تمرُّ من أمام عينيّ حتّى صرتُ الشاهد الغائب عنها. لكن لا بأس، فالنظر أحيانًا مرادف للبصيرة، وإن كنتُ لا أدعي أيّ حكمة ولا هم يحزنون، فطول النّظر يولّد تحليلات طويلة لسيناريو قد لا يكون حقيقيًّا، بل يفترض ذكاءً نادرًا ما يحوزه الآخرون، لكنّني سئمتُ، ولمّا علا صوتي، كانت الخسارةُ أفدح. 
أفكّر كلّ يومٍ في الاستقالة، لا من العمل وحسب، بل من الحياة، أفكّر بالبحر، هادئًا كان أم هادرًا، وأودُّ لو أكون بجواره الآن، فإن لم أرجُ أن يفهمني، أعرفُ أنّه لن يسيء فهمي كذلك. لعلّي مُتعبٌ جسدًا، لكنّ ما يُتعبني أكثر، أنّ طاقتي على الأمل تخبو كلّ يومٍ أكثر وأكثر، وأنا لم أُطق في حياتي المتندّرين (والتندّر هنا من cynical). 
إن كانَ أحدٌ منكما يعرفُ كتابًا يحملني إلى مكانٍ ألطف، أخفّ وطأة، فيه براح، فلتقترحاه عليّ، رجاءً. 
Tumblr media
(The Monk by The Sea - Caspar David Friedrich)
13 notes · View notes
labyrinthofarabs · 3 years ago
Text
القرار بالسعادة
نهاية العام الماضي، اتّخذتُ قرارًا بالسّعادة، كما لو أنّني لم أقرأ يومًا كلمة واحدةً، كأنّني رضختُ أخيرًا إلى عالم السوشال ميديا وفيديوهات اليوتيوب الكاذبة ودجّالي الطّبّ النّفسي (وقد فعلتُ، حقيقةً). قرّرتُ ألّا أكون الشخص العنيد الذي تنكّر لنفسه طوال حياته كلّما لاحت فرصة الرقص في منتصف الضّوء، هناك، حيث السّكرُ أكثر وضوحًا من شابٍّ يُطالعُ بصمتٍ من المقاعد الجانبيّة، ويتساءل عن الفارق بين المحيط والمركز.
يقولون لك "كن نفسك"، "كن كما أنت"، "تصرّف على طبيعتك". لكن، أيّ طبيعة تلك؟ أُتّهمُ كثيرًا بأنّني ألقي الأسئلة لا لأعثر على إجابة، بل لأطرح سؤالًا آخر، وهذا حقيقي أحيانًا، لكنّني أسأل هُنا صادقًا: أيُّ طبيعة نتحدّثُ عنها؟ حتّى لاكان لم يصمد في دفاعه عن مرحلة المرآة، تلك التي تتشكّل فيها الأنا لدى الطفل، فكيف لي أن أؤشّر عليّ دون تردّد وشكٍّ وحيرة؟
أأنا مشتري الكتب الأحمق، أم المسلم الذي يفوّت الصّلوات الخمس؟ أأنا كاتبُ الشّيطان أم الكاتب الذي يكتبُ قصصًا طويلةً عن شخصٍ واحدٍ إحساسُه بالفقد المستمرّ أقوى من جواز سفره، وأعتى من الفقد ذاته؟ أراجع ما أقولُ كثيرًا، حدًّا أودّ معه لو أجلب الماضي بنفسه أمامي لأحقّق معه، لكنّني عاجزٌ عجزَ الذّاكرة نفسها، تلك التي لا تني تهزمني، وقد كان أكثر شيءٍ صدقًا قولي إنّني "لا أملكُ تصوّرًا لهيئتي، أنا لا أعرف مظهري، لا أعرفُ شكلَ عينيّ سوى أنّ رموشي طويلة، لكنّ الوجه، التقاسيم، فلا علم لي بها". من يعرف، بالله، من هو أو هي أو هم أو هنّ أو هما؟ من.. ها، من؟
أعرفُ أنّني أبله (بوبو أو وو وو كما قال ميسي)، أتعثّرُ بحوافّ الأبواب والأرائك كما أتعثّر بالكلمات، مثلَ طفلٍ أغفله الزمن، وظلّ عالقًا في مرحلة الحبو. أحبو، وسأحبو، ولا أرى في الحبو عيبًا، لكنّني أستحيي، كما الله، أن أردّ جهلَ الآخرينَ إليهم، أولئك الذين يمشون في الأرض مرحًا.
22 notes · View notes
labyrinthofarabs · 3 years ago
Text
قلقٌ لا يمكن تفويته، فعلًا!
تعرّفتُ إلى محمد العتر السنة الماضية، حيث عملتُ صحفيًّا مع إحدى المنصّات الإلكترونيّة. علاقتي مع الصّحافة لم تكن يومًا جيّدة، فطالما كانت في ذهني مفرخة لشخصيّات مشوّهة، بحكم المهنة التي تقتضي "دردحة" لا أملكها أحيانًا، وبحكم الظّروف الصعبة التي طبعت هذه المهنة على مرّ تاريخها.
إلى جانب هذا وذاك، لم أكُن يومًا شخصًا اجتماعيًّا، في كُلّ عملٍ أو مكانٍ أمُرّ به أحاول جاهدًا الحفاظ على شكلٍ واحدٍ لوجهي: لا فرح ولا حزن، كأنّني لستُ إلّا زينة تضفي مزيدًا من الشرعيّة على مكانٍ مُتحقّق أصلا. لكنّ عملي السّابق لم يقتضِ الجلوس إلى مكتب ومجاورة زملاء، فكُلّ شيء كان يجري عن بُعد، من خلف الشّاشة. اختصارًا لذاك كُلّه، أودّ تصحيح الجملة الافتتاحيّة: لم أتعرّف إلى محمّد العتر السّنة الماضية إلّا جزئيًّا. لم أعرف أنّه يكتُب خارج حدود الموقع الذي كُنّا نتشارك "لوحته" الإلكترونيّة، ولم أعرف -لشدة جهلي- أنّ الحقيقة ليست واحدةً في مكانٍ لا يعبدُ إلّا حقيقته الخاصّة، وأنّ الأرض بإمكانها أن تكون أكثر من مجرّد "منأى عن الأذى"، فمن يتقاسم الأذيّة إيميلًا إيميلًا، أو مادّة مادّة، لا يُمكن أن يكون مجرد "مُحرّر"، أو حتّى صحفيّ.
تعرّفتُ إلى محمّد العتر الكاتب، يوم تقديمي للاستقالة. كنتُ مغمومًا، متلقّيًا واحدة من أكبر الإهانات في حياتي. الإهانة ليس فيما قيل، بل فيما سكتُّ عنه. لكن، رغم الكرامة المُراقة كلامًا وقر في الرأس، شعرتُ براحةٍ كأنّما هبطت من علٍ، فتحت جوجل لأوّل مرّة دون رغبة في العثورِ على معلومةٍ قد يسبقك الوقتُ إليها، وكتبتُ اسمه، بلا انتظار لأي شيء. يومها فقط، عرفتُ أنّه يكتُب خارج حدود ما كنّا نكتب، يومها فقط، عرفتُ كم فاتني في سباق المسافات الطّويلة المُسمّى عملًا جُزافًا. يومها، قرأتُ مقاله "التخفف من إيفالد فليسار" على مدى مصر، ولم أستطع النّوم قبل أن أنهيه. كان إعجابًا من النّوع الذي يصعُب التّفريق بينه وبين الغيرة، ابتداءً من جهلي -مجدّدًا- بالكاتب، وانتهاءً بالطّريقة التي يكتُبُ بها: هوسٌ يخالطه اختفاء، ظهورٌ لا يني يتوارى مُقدّمًا أصوات الآخرين إلى الأمام.
لم أخبر محمّدًا في اليوم التّالي، إذ كنتُ لمّا أزل أعمل في المكانِ ذاته، إلى أن ينتهي العقدُ بيننا. لعلّهُ الخجل، فمن أنا سوى زميلٍ يمدحُ زميلًا، أو، لعلّه الخزي قادمًا من موضعٍ آخر، لعلّي سبقتُه بثوانٍ إلى مقالٍ وصل عبر البريد الإلكترونيّ العام، وأخّرتُ موعد انتهاء دوامه ساعاتٍ. كيف أفصح عن إعجابي، وأنا لستُ أكثر من سارقٍ�� دعك من أنّني لم أنسَ أنّه الوحيد الذي لم ألبِّ طلبه في تبديل مواعيد إجازاتنا، لأنّني لم أملك دافعًا يكفي لأغيّر جدول مواعيدي، ولا حتّى صيغة الطلب الصادقة، التي لم أميّز بينها وبين الطّلبات الأخرى التي تتحدّث من موضع استحقاق بوقتِ فراغي وراحتي.
ثمّ ما الصّدق؟ كثيرًا ما تشدّقتُ بأنّ الأدب العظيم هو ذاك الذي تشعُرُ بصدقه. يقول ابن سينا إنّ المُخيِّل هو " ما تُذِعن له النفسُ فتنبسط على ضروب وتنقبض على ضروب من غيرِ كدٍّ ولا إعمال فكرٍ ولا اختيار"، من فيهما الذي لا يكدّ ولا يُعمل فكرًا ولا اختيارًا: الكاتبُ أم القارئ؟ ثُمّ هل يستوي غيابُ الكدّ بالصّدق؟ أعرفُ، معرفتي خيوط الشّيب في رأسي، أنّ كتابة محمّد العتر، القصصيّة منها على الأقل، أبعد ما تكون عن "عفو الخاطر"، وعن الكلام الذي يأتي سهلًا منبسطًا أو جاريًا كما كالماء حسب وصف الجاحظ. وأعرفُ كذلك، أنّ ما يكتبه لا يُمكن أن يكون كتابةً مارقة، تلقي السّلام وترحل. ثمّة ما هو أبعد من الكتابة، أوسع من الفكرة الظّاهرة، وأعمق من كُلّ المسرّات في حياةٍ قصيرةٍ نسبيًّا.
لم يأخذ محمد العتر نفسه بجدّيّة كبيرة حين أعلن عن صدور كتابه "الحمد لله كبرت وطلعلي كتاب.. قصص قصيرة جدًا وقصيرة جدًا جدًا، كُتبت على مدار 10 سنوات. لا يعدك الكتاب بتعريف ماهيّة القلق لكن ربما يُورّطك في محاولات النجاة منه، أو يُورطك في المزيد منه". ظهرت لي التويتة بعد أن أعاد تغريدها أحد من أتابعهم، فوجدتني متسمّرًا أمام الشّاشة ما أقرأها إلّا لأعاود، حتّى وجدتني أضغط زر المتابعة، وأرسل له أن "مبروك". كتبتُها وفي نفسي بعضٌ من خوفٍ من عبارة "قصيرة جدًا جدًا".
الأمرُ كُلّه في العنوان، في القلق، ذاك الذي صار وسمًا خُتم باسم العتر. كشخصٍ لم يعرف سوى القلق والتوتّر طوال سني "شبابه"، لم أعرف من كتبه بهذا الجمال، مرارًا وتكرارًا كأنّه الشّعور الوحيد في العالم، كأنّه فعلًا "قلق لا يمكن تفويته"
في الحقيقة، لديّ الكثير لأقوله، لكنّني أعود دومًا للتّفكير في قصّته "قسم العجب". ومجدّدًا أتساءل، ما الصّدق؟ هل هو حبسُ محمّد، أم ذاك الانتظار أمام النّافذة؟ أخجلُ من القول إنّ ثمّة مشتركًا بيني وبين العتر، مشتركًا كبيرًا بحجم ما غاب من علاقتنا، تلك التي لم يُشأ لها أن تتشكّل. طالما فكّرتُ في قلقي من الجهة اليُسرى حين أجلس وحيدًا على مقعدٍ فيه سعةٌ للآخرين، خوفي من أرقام الهواتف الغريبة، والعبارات التي لا تملكُ منطقًا ينظمها، حتّى وإن كانت مبهمة.
هذه ليست كتابة عن القلق العادي، القلق المألوف، بل عن ذاك المُفارق، الذي نحدسه تنميلًا في الأصابع، وتشنّجًا في الأطراف، كأنّما اختُزلَ ال��الم بعطبٍ في الأعصاب، خللٍ قصيرٍ كما قصص محمّد، لكنّه عظيم الأثر، كالتأتأة، كالمشاعر غير المُصرّح بها، كالصّداقة التي تظلّ احتمالًا، وكما الكتابة الصّافية، الجميلة، التي تتجاوزُ الأبوّة، وتنصبُ قلقها علمًا وسط أرض أخرى احتواها الشّطر الثّاني، هناك، حيث فيها لمن خاف القِلى مُتعزّلُ.
Tumblr media
4 notes · View notes
labyrinthofarabs · 3 years ago
Text
المقعد الخالي إلى يميني
في مكالمتنا التي سبقت الأجل بيوم، قلتِ لي "تروح وترجع بالسّلامة"، رجعتُ بالسّلامة، لكنّك أنت من رحتِ!
المهم مرحبا، كيفك؟ أنا كثير مشتاقلك.
اشتقتُ لك حدًّا بدأت أشكّ معه أنّ معرفتنا كانت حقيقيّة. كنّا صغارًا، ونتحدّث بصفة رسميّة، كان أمامنا الكثير حتّى تصير علاقتنا أمتن، أقرب، أقوى، أو ربّما، علاقة وحسب. لم أعترف بهذا من قبل، كنتُ أتصرّف كأنّنا أقرب اثنين على وجه البسيطة، لكنّك – يا للحسرة - كنتِ أقرب إلى حبلِ وريدِك منّي.
أشاهدُ مسلسلًا سويديًّا مُسلّيًا اسمه "الحب والفوضى". يدور المسلسل في دار نشر متوسّطة الحجم لكنّها متهلهلة اقتصاديًّا، فيه كثيرٌ من السّخرية على الثقافة والمثقّفين والصّوابيّة السياسيّة: مسلٍّ كما أخبرتُكِ. لكن هذا ليس كلُّ شيء، فالقصّة، أو الحب الذي يبرزُ في العنوان، عبارة عن علاقة بين مديرة الدّار ومسؤول التكنولوجيا الذي يصغرها بأكثر من عشرة أعوام. قصّة سخيفة من ذاك النّوع الذي تتمنّى لو تعيشه في الحياة.
وكما لو أنّ الحُبّ وحده لا يكفي (هل كفى أحدًا يومًا؟)، ينتحر أبوها، ذاك الذي كانت علاقتها به قائمة على الهرب ��الإحساس بالخجل المشوبين بمحبّة لصورةٍ أليفةٍ في رأسها عنه. آخر لقاءٍ لها به كان يجلسُ وحيدًا في الشّارع، مناصرًا لقضيّة لا تهمّ أحدًا سواه كما يبدو. تخجل، فتسلكُ الطّريق المُعاكس كي لا تلتقي العينان، تهاتفه لتسأل عن حاله، فيكذب مجيبًا أنّه جالس في المنزل، رغم صوت الميترو الذي يشقُّ الشّارع ذاته: في أوّله الأب، وفي نهايته الابنة.
ثمّ يموت، هكذا، يختفي، وهي كما الأهل جميعًا، تُعلنُ أنّه مات بسكتة قلبيّة، فلا أحدَ في هذا العالم يحتملُ وقع "الانتحار" سواءً كُنّا في الأردنّ أم في السّويد. ولأنّ المسلسل من إنتاج نتفلِكس، حيثُ الواقعُ ديناصور منقرض لا يمكن المراهنة على تسليته أحدًا، تبدأ صوفي برؤية أبيها فجأة، وهي جالسة على كنبة الصّالة، بعد اجتماع عملٍ فاشل، بعد انكسار قلبها من حبيبٍ يلمعُ من شدة الجمال، في لحظة اختيارٍ أو يأس، هكذا، يظهر الأب من جديد.. إلخ إلخ.
أوّل أمس، في السّيّارة، كنتُ أستمع لألبوم فرقة بومراني الذي أهديتني إيّاه. لكثرة التّكرار صرتُ قادرًا على دندنة بضع أسطر منه دون أن أفهم شيئًا، ثمّ فجأة، في الأغنية السّادسة المفضّلة لديّ (لم أشهد أجمل من تلك الطّريقة في لفظ كلمة الأم "مامان"، بشجنٍ كأنّ أحدًا يطلبُ السّماح من أمّه التي توليه ظهرها. كم مرّة فعلتُ ذلك وأنا طفل؟ كم مرّة بكيتُ فقط لتنظر أمّي في وجهي؟) بدأ الشريط يلعج، وتختفي الكلمات أو تتوقّف. شعرتُ في تلك اللحظة بأنّني أمام مشهدٍ أعرفه، فقد لبستُ خاتم شخصٍ أحبّه، أنام وأستحمّ وأحيا به يلفُّ بنصري، وكما لو أنّني اطّلعتُ على المستقبل لحظة اتّخذته امتدادًا لإصبعي، كنتُ على يقين بأنّه ما إن يضيع حتّى تنتهي تلك العلاقة. وحين استحالَ موضعه ذكرى لخاتم... لا داعيَ لإكمال القصّة، أليس كذلك؟
نظرتُ إلى جانبي، آملًا أن تكون الحياة كريمة، لكنّك لم تكوني هناك (وكيف لكِ أن تفعلي؟). صوفي لا تحبّ ملقى أبيها الشّبح، ويُفترضُ بنا أن نتعاطف، أن نبكي ربّما من هربها من "الحقيقة"، من استمرارها في العيش بحثًا عن مُتعٍ لحظيّة مع "حبيبها" الجميل حدّ البله، من صراخِها في وجهِ شخصٍ ظهّرته الذّاكرة. مؤثّر، لا؟ لا بدّ أنّ هذا ما كان في بال الكاتبة، فالمشاعرُ باتت وصفة محفوظة: 1+1=2، أضف عنصرًا لآخر وسيبكي المشاهدان. أُفكّر الآن أنّ المشاعر قائمة على الطّرح لا الجمع: 1-1=0، احذف عنصرًا من المشهد، وسيقتلك الفراغ الذي خلّفه. المقعد خالٍ يا خ، أحلامي فراغ، وأحزاني مثل كاسيت قديم، تلعج كأنّها على وشك القيء لكثرة التّكرار، وأنا مشتاقلك كثير، زي دايمًا.
الفارق بينك وبيني أنّني أعرف أنّني معطوبٌ من الدّاخل: كُلّ ذلك الغضب، كلّ تلك المشاعر المكبوتة، الدّموع المرجأة، والرّغبة المتواصلة بأنّ أظلّ وحيدًا، لكنّني على النّقيض، أعرف أنّني أملكُ أملًا يوازي الحياة بأسرها، بماذا؟ لا أعرف، فحتّى وأنا في قاع اليأس، مثل حالتي الآن، أشعرُ أنّ الحياة ستنعمُ عليّ بسعادةٍ لا منطق وراءها أو قدّامها، فلربّما تمكّنتُ من رؤيتك يومًا، من يدري. أمّا أنتِ؟ أنا حقًّا لا أعرف، وهذا ما يذبحني، أنّني لم ولن أعرفك جيّدًا. بالمناسبة، عرفتُ من جديد أنّ عنوان الألبوم (كيف فاتتني هذه التّفصيلة خمسَ سنوات؟): الرّحيل والعبور.
اليوم، لأوّل مرّة أتجرّأ وأبحث عن أغانٍ أُخرى للفرقة، لأكتشف أنّهم نشروا ألبومين جديدين منذ رحيلك. كثيرون يقولون أنّهم يودّوا لو يتعلّموا الألمانيّة ليقرأوا غوته أو توماس مان، الفرنسيّة ليقرأوا بروست.. أولئك الأوغاد. أنا مستعدٌّ لأتعلّم الفارسيّة فقط لأعيد الاستماع إلى شريط بومراني، مرّة تلو المرّة، كأنّه الشّريط الوحيد، كأنّه تهويدة الموت الرسميّة، أو الحياة، تلك التي ما تفتأ تُذكّرنا بالنّقص المُروّع للمقعد الخالي إلى يميني.
خيابونا
وقتی تو این خیابونا، تو کوچه پس کوچه ها
راه میرم تو رویاهام، رویاهای بیصدام
قل میخورم توشون، غش میکنم توشون،
ول میکنم پامو، میرم
خیابونا قشنگ میشن
رنگ و وارنگ میشن
آدما همه برام
قوم و خویشن
با خودم میگم، باز از اون روزاست
داد میزنم پاشو، اینا همش یه رویاست
میمونم تو رویاهام، میمیرم تو رویاهام
گم میشم، توشون غرق میشم
اینجا پشت پام ردی نیست، راه برگشتی نیست
گم شدم، من غرق شدم
یه روز تو رویاهام مردم، برم نمیگردم
به هر چیز واقعی هنوز میخندم
با خودم میگم، باز از اون روزاست
داد میزنم پاشو، ته این رویا کجاست؟
هنوز تو خیابونا، تو کوچه پس کوچه ها
حس میکنم تورو، خیال میکنم
کنارم راه میری، کنارم میخندی
ول میکنم پامو میرم
خیابونا قشنگ میشن
رنگ و وارنگ میشن
آدما همه برام
قوم و خویشن
با خودم میگم، باز از اون روزاست
داد میزنم پاشو، اینا همش یه رویاست
میمونم تو رویاهام، میمیرم تو رویاهام
گم میشم، توشون غرق میشم
اینجا پشت پام ردی نیست، راه برگشتی نیست
گم شدم، من غرق شدم
یه روز تو رویاهام مردم، برم نمیگردم
به هر چیز واقعی هنوز میخندم
با خودم میگم، باز از اون روزاست
داد میزنم پاشو، ته این رویا کجاست؟
با خودم میگم، باز از اون روزاست
داد میزنم پاشو، ته این رویا
کجاست؟
هنوز تو خیابونا، تو کوچه پس کوچه ها
حس میکنم تورو، خیال میکنم
4 notes · View notes
labyrinthofarabs · 3 years ago
Text
تهويدة للموت
"خطواتنا شِراكٌ. الطرقُ مصائدُ والأفقُ سرابٌ. في أحداقنا كِناسة الجَمر. في كل نأمةٍ جنازٌ".  
الطّرقات - قاسم حدّاد
لا أشعر برغبة شديدة بالبكاء إلّا لأمرين: قراءة شيءٍ عظيم، ورؤية من يبكي. وقعتُ اليومَ على رواية تبدو عظيمة بعد فترة طويلة من اليأس، ورأيتُ الكثيرَ الكثيرَ يبكون في ظرفٍ أسبوعٍ واحد. ظننتُ أنّني قويّ، لكنّ جسمي مُتعب، مُتعبٌ مثلَ ثورٍ طال حرثه للأرض ولم يُسقَ قطرة ماء. الأسوأ، أنّ ذهني مُتعبٌ، وبحاجة شديدة لنومٍ يعزّ كلّ يومٍ أكثر فأكثر. لكنّني إن نمتُ، سأحلمُ أنّني أبكي، وأنا لا أريد البكاء. أفضّل أن ينفرط جسمي دمعة دمعة على أن أبكي، لا تجلّدَ الرّجال، بل لأنّني إن بكيت، لن أتوقّف حتّى يجفّ ماء جسدي، وما زال جزءٌ منّي، رغم زلِّ القدم، يتشبّث بالماء، بالهواء، بالحياة، لكنّ الأفق وحشٌ لا يرعوي.
أردتُ، قبل الكتابة، أن يتغيّر شيئٌ ما في حياتي، أردتُ أن أفعل شيئًا ما، بيديّ هاتين، لكنّني أجبن من خلخلة موضع راحتي، فتركتُ الأمر لله، فهو المُدبّر سُبحانه، ولم يتأخر بالرّد: ماتت جدّتي. وثمّة، من قبلها ومن بعدها، خ: سيّدة الموتى، تلك التي ما زالت تضحك كلّما ضربَنَا الموتُ بسكتة قلبيّة، أقلّ قوّةً من أن تُلحقنا بها.
لا أريد الكتابة الآن، أريد فقط أن أقول: الموت ابن ستة وستين كلبا. يقتربُ خطوةً فأقترب خطوة، يكاد أنفانا يتلامسان، لكنّه جبان، وأنا أجبن. حين ماتت خ، لم أكن حاضرًا، بكيتُ وحيدًا في بهو استقبال أشبه بمتاهة، لا تخرجُ منه إلّا لتعاود الدّخول، ثمّ بكيتُ وسط طلبةٍ لم ينتبه لي أحدهم، ثمّ بكيتُ وحيدًا في غرفتي، متمدّدًا على سريري كما تمدّدت وادعةً في قبرها. لكنّني كنتُ حاضرًا هذه المرّة. حين ماتت جدّتي، حاولتُ الاقتراب كثيرًا من الموت، غير منتبهٍ أنّ الجثّة نفسها ليست الموت، إنّها العظمة التي يلقيها لنا كي نمصمصها، وحين نفعل، نهزّ ذيولنا فرحين بانتصارٍ كاذب، راجين ابتسامة لا تأتي منه.
طال انتظارنا أمام ثلّاجة الموتى حتّى تسنّى لنا الدخول. رأيتُ رجالًا يحملون نعشًا أحدب. أعرفُ أنّ كلّ ابن أنثى سيُحمل يومًا على آلة كعب بن زهير اللعينة، لكنّني لم أكن أعرفُ أنّه ثقيل ثقيل، سنخشع متصدّعين خشية إسقاطه، إذ ألقي في أكفّنا على عجل. تقول أمّي إنّ انتزاع الروح يُثقِل الجسد، والمنطق يقضي بأنّ انتزاع أيّ شيءٍ يعني تخفيف الحمل؛ فكيف يثقل الجسد بعد نزع روحه منه؟
حملتُها وحدي من جهة، وحملها اثنان من الجهة الأخرى. شعرتُ بقوّة تكفي لإفلات إحدى يديّ حتّى يتسنّى لي التربيت على رأسها. كنتُ أتمسّحُ بها مثل مجذوب، أو مجذوم يرجو البرأ. أدخلناها باص نقل الموتى، وصعدتُ معها في رحلة أخذت نصف ساعة من مستشفى اليرموك حتّى مسجد ملكا القديم. صعد معي عمّي الأصغر، وابن عمّي. رغم عدم إدراكي ماهيّته، بالإمكان تشبيه الرحلة بالبرزخ: مؤخّرة الباص مشرعةٌ على الدنيا، وحاجزٌ مصمتٌ يفصل بيننا وبين مقدّمته، ونحن في المنتصف. لكنّ الرحلة لم تكن برزخًا ولا يحزنون، كانت رحلةً قصيرةً اهترأت مؤخّرتي خلالها من الجلوس على حافّة صغيرة.
كانت جدّتي ممدّدة، تقدّم قدميها للعالم، ووجهها متوجّهٌ للسماء البعيدة، المغلقة بسقف الباص. يجلسُ عمّي عند رأسها، يلبسُ بذلة فارهة ويبكي. كنتُ حزينًا لمرآه، لا لما فقده، بل لأنّ مشاعره تشبه مشاعر كُلّ مكلوم فقد عزيزًا. مشكلتي مع الموت، لا في جوهره، بل في تفاهته، الأموات سواسية في كلّ شيء: الطفل أخو الكهل؛ الذكي صنو الغبي؛ العربي والعجمي سيّان. تكفي نظرة إلى مقبرةٍ كي تشعر بتفاهته. يقول عمّي، وهو يقف على رأس المقبرة، لرجلٍ لا أعرفه: اطّلع (وفتح يده على امتدادها)، كلهم بالآخر زي بعض: نحزن على الميّت أو نكرهه، نعدّد مناقبه أو مثالبه، لكن أيُّ فرقٍ هناك، حين يُصبح الكلام مجرّد.. كلام.. مُرسل، هكذا، إلى ما هنالك، وإلى أبد الآبدين؟ "لا [موتٌ] يُصْغي إلى [مَوْتى]"1، وحدها الحياة تفعل، إن هي أفاءتنا بظلّها، يوم لا ظلّ إلّا ظلّها.
طيلة حياتي، كنتُ أخشى الاقتراب من قبرٍ مفتوح، لكن ليس هذه المرّة، طلبتُ من أبي أن أنزل إلى القبر وأساعد في دفنها فانبسطت معالمه. طلب منّي أن أتوضّأ ففعلت. صلّينا عليها العصر وصلاة الجنازة، ثمّ حملناها على الأكتف مسافة طويلة إلى المقبرة. لم أشعر بشيء طوال الطريق. كنتُ أسير كأنّني ذاهبٌ لأدفن نفسي، عينٌ على الطريق، وعينٌ على داخلي: حيث الحزن تغتصبه رغبة بالقبض على ما لا يُقبض.
لنقصِ خبرتي بالدفن، لم أعرف بروتوكولاته. نزلتُ إلى القبر، وسألت: لازم تتوجّه للقبلة، صح؟ فصاح بي رجلٌ غليظُ القلب واللسان "فأينما تولّوا فثمّ وجه الله". نظرتُ إلى أبي، فزمّ شفتيه، ورفع حاجبيه لي. أنزلتها مع رجلين آخرين، ثمّ غُطّينا بلحافٍ ثقيلٍ حجب عنّا الشمس والهواء. سألتُ الرجل الغليظ هامسًا: ليش غطّونا؟ فنظر إليّ وهو على ركبتيه: الميّت ما بدفنه غير المحارم. ثمّ همّ مكملًا عمله الذي لم أفهمه. قرّب وجهه من وجه جدّتي، أو من عقدة كفنها. رغم استحالة الفكرة، بدا كأنّه يتأكّد من غياب نَفَسِها، ثمّ رأيته يحلّ العقدة، فانكشفت عيناها الشاخصتان، وشفتُها العليا. وجهها كان مُتعبًا، شاحبًا، أكلته التجاعيد كما يأكل النمل السكّر. كنتُ واقفًا هناك، لا شغلة ولا عملة، أراقبه يمدّدها، يرفعها، يوازن رأسها، كأنّه عاكفٌ على رسم بورتريه، لا على دفنِ ميّتة. زجرني فجأة بيده: قلهم سقّافيات، بسرعة. كشفتُ غطاء اللحاف قليلًا، وقلت: سقّافيّات يا جماعة، ولم أكُ بعد أعرف ما السقّافيّات. أخذوا في مناولتي تلك البلاطات المربعة والضخمة. ما إن أمسكتُ الحجر الأوّل حتّى هوى من يدي داقًّا رجل جدّتي اليسرى. صاح الرجل: الله يلعن... أستغفر الله، شو اللي نزّلك هون انت؟ كنتُ حريصًا ألّا أخطئ في المرّات القادمة، لكنّ شيئًا لم يخفّف حدّة نظرات الرّجل. شعرتُ للحظة بالذنب، كما لو أنّني قتلتها. لكنّ ظلمة القبر، واللحاف الثقيل الذي يحجب الأوكسجين، لم يدعا للذنبِ منفذًا إلى داخلي، إذ كلّ الطرق مسدودة بثاني أوكسيد الكربون الذي أخذ يتكاثر في رئتيّ. شعرتُ بحاجة للنيكوتين، ولم أجرؤ على إشعال سيجارة في الداخل، حيث لا ربّ ولا شيطان بإمكانه إنارة تلك العتمة.
بعد أن أنهينا وضع السقّافيّات، خرجتُ لأشارك في جَبْلِ الطين الذي يغلق مسامات القبر، من ثمّ في إهالة الحجارة والتراب، بوصفها الفقرة ما قبل الأخيرة، في مسرحيّة لم تشأ أن تنتهي إلّا بدرسٍ دينيّ ألقاه شيخٌ ما عن كون الله والموت حقّ. تحدّث، بعربيّة فصيحة عن أنّ هذا (مؤشّرًا بإصبعه إلى القبر المبلول) هو مثوى أتباع الدولة المدنيّة، العلمانيّين، والملحدين. وكدتُ أرميه بحجرٍ في أمّ رأسه: شيخنا، لم يلاحظ أين يؤشّر إصبعه.
رغم دراستي اللغة العربيّة، وحبّي لها، إلّا أنّني لم أكرهها مثل ذلك اليوم. الفصيحة كانت أداة لمصادرة مشاعر من يجهلون أبسط قواعدها. بين: اللهم طهّرها كما تطهّر الثوب الأبيض من الدّنس، وبين: ابعدوا عنّي، ما بدّي أشوفها وهي على هالحالة (ما قالته خادمة جدّتي وسط بكائها الهيستيري)، برزخٌ لا يبغيان. في بيت العزاء، لا عزاء للصدق، الكلّ يصرخ: أكون أو لا أكون. أمّا الآخر/ون، وعلى نفيهم إلى قبوٍ معتم، لمّا يزل يردِّد/ون: "ضد العالم أجمع، سأدافع عن نفسي، ضد العالم أجمع، سأدافع عن نفسي"2.
في روايته الصغيرة "سينما غزّة"، يقول محمود عمر: "المكروه يحدث في كلّ مكان، لكنه لا يحدث لنا. لا يحدث في «مكاننا». لا يمكن أن يحدث. [...]. ربّما يكون هذا هو ما يحول دون أن تفقد الناس صوابها وهي تسمع عشرات الطائرات المحملة بأطنان من المتفجرات تحلق فوق رؤوسها. أنّ كل واحد منهم يحسّ في أعماقه بأن الطائرات ستقصف بيوتًا بعيدة وأشخاصًا آخرين". طالما أحسست، في أعماقي، أنّ الموت سيظلّ بعيدًا عنّي وعمّن أحبّ، لكن، تكشّف، فجأة وبلا إنذار، أنّه "تفنى الناس.. وأسماءُ الناس / ويفنى الوسواس الخنّاس / يبقى لوّابًا في الجبّة وجه الغيب الصمد"3، للأسف!
أعادني وميض هاتفي من غفلتي ظُهر الثّامن والعشرين من آب 2017. تُفصح الشاشة عن اسم صديقٍ لا يُراسلني عادةً، أفتح الرّسالة متوجّسًا: نذير، خ توفّت، ارتجف قلبي، ثمّ أبت الحقيقة إلّا أن تنتصر، رغم طول المساومة وقسوتها. يلعن أبو الموت يا حبيبي، هذا ما أردتُ قوله، لكنّني لم أستطع، الكلام يموت في لحظة كهذه. الكلام ميتٌ أصلًا، ليس موجودًا ليكون في معنًى معدوم يا عمرو بن بحر.
أعود الآن في ذاكرتي إلى بكاء عمّي في باص نقل الموتى، ويأتيني خاطرٌ كالتالي: سأصير مكانه يومًا، أبكي على أمّي الممدّدةِ عند قدميّ، ويجلس قبالتي ابن أخي، يفكّر في قصّةٍ ما ليسردها عنها. فأهزّ رأسي وأفكّر أنّني لا أريد من ذلك الذي يلوب في الجبّة سوى أن يلملم أشياءه ويخرج من جراحنا. ارحل يا رجل، ولا تنسَ الستة وستين كلبًا الذين أحضرتهم معك.
نيسان - 2018
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): محمود درويش – الجداريّة؛ بتصرّف عن "لا قاتل يصغي لقتلى".
(2): أوجين يونسكو – خراتيت – الأعمال الكاملة ليونسكو – ترجمة حمادة إبراهيم – الهيئة المصرية العامة للكتابة – ص483.
(3): طاهر رياض – حلّاج الوقت.
7 notes · View notes
labyrinthofarabs · 3 years ago
Text
هناك، في النّقطة التي تفصل نصف ظهري السّفلي عن العُلويّ
 أنا لا أقول لا لأي شيء، أوافق على العمل أيّام الجُمعة والسّبت، أوافق على العمل في الليل قبل النّهار، لا أقول لمن يؤذيني توقّف، أقول: لا حُكم لي على لسان أحد. لا أقول لا للهجر رغم التّعلّق، للجميع حقٌّ في رسم حدود مساحاتهم، وطردي منها إن كانت الحدود أضيق من عرض جسدي. لا أقول لا، لكنّ ظهري يفعل، ظهري يتوسّل إليّ أن أتوقّف. ظهري يؤلمني، أودّ أن أصرخ في وجه العالم: ظهري، اتركوا لي ظهري، فهو وحده من يسندني.
أخذتُ اختبارًا للمازوشيّة، وأظهرت النتيجة ميلًا مرضيًّا تجاهها، يقول صاحب الاختبار إنّ عليّ مراجعة طبيب نفسيّ، وهو لا يدري أنّ كلّهم أصدقائي. أفكّر أنّ ذلك التّشخيص قد يكون حقيقيًّا، وإلّا لمَ أستمتع بقراءة "فينوس في الفراء"؟ لكنّني، من ناحية أخرى، لا أحبّ الألم المفروض عنوةً، أحبّه ألمًا عاديًّا، مألوفًا، ألمًا كقرصة الخاصرة، والصّدّ دون مبرّرات، ألمًا يرضي حجم اعتدادي بنفسي، إذ وحدها الأذيّة قادرة على إشعاري أنّني كنتُ ندًّا يومًا ما. لكن ما الذي يعنيه ألّا يتصاحب الألم باللذة، بل بالقرف حدّ الرّغبة بتقيّؤ الدّنيا ومن فيها؟
كُلّ من يركب السّيّارة معي ينزعج من عدم استخدامي للزّامور، أتذرّع بأنّني أنزعج من صوته، لكنّني مثل أيّ عاشق رومنسيّ من القرن السّابع عشر، أودّ أن يراني العالم، من لا يعرفني قبل معارفي، لن أصرخ يومًا، ولن أعرّف عن نفسي، ولن أجيب عمّا إذا أعجبتني هيلسينكي أم لا، لن أقول رأيي في أيّ شيء، رأيي هناك، في رأسي، حيث في الوحدة حنانٌ أكبر من عُهر الكلام، وحيث فاندا أكثر نساء العالم جمالًا.
الآن، لا أفكّر في شيء سوى رواية ديفيد فونكينوس "إنّي أتعافى" المركونة على الرف منذ سنتين، درجة ألمي: 10/10، وأريد أن أُحبّ، أريد من يقول أحبّ ظهرك، أحبّ وجهك، يديك المُصفرّتين، أحبّ مزاحك الثقيل، ورائحة جسدك، أحبّ صوتك المُسجّل، أحبّ صمتك وشكواك، أحبّ ألم ظهرك.
كنتُ جالسًا على مقعدٍ يشبه كابينة ويلبيك، تلك التي تواجدت على حافّة العالم، لا شيء أمامي سوى فكرة البحر، سمّاعاتي في أذنيّ، وعيناي مُغمضتان خوفًا من الجهات، ثمّ جلستِ بجانبي، كنتِ صامتة، لكنّني ولجتُ إلى أفكاركِ، كانت بلغة أخرى، عرفتُ أنّها السّيريانيّة، وفهمتُ أنّ لديك مشاعر تجاهي، لكنّك مضطرّة للتّخلّي عنّي، قلتُ لنحاول، فأجبتِ أنّك مثل تلك الموجة التي مرّت في ذهني، ستنتهي حالما تصلُ إلى قمّتها، فبكيت، وبكيتِ، وتودّعنا، وظلّ البحرُ يهدر وأمواجه لا تتوقّف عن الارتفاع ثمّ التّلاشي.
آكسل، في فيلم يواكيم تيرير الأخير ال��ّقيق وشديد الحساسيّة، يسأل مُغضبًا: هل على الفنّ أن يكون لطيفًا، ويقول في مشهدٍ آخر، متأسّيًا لحاله تلك المرّة: لا أريد أن يتذكّر أحدٌ فنّي، أريد أن أعيش في غرفتي، سعيدًا، معكِ، وهو يعرف أنّها على وشك أن تُنجب من شخصٍ آخر، خانته معه. أُريد أن أرى وجهك، وجهكِ فقط، فهو حتمًا أجمل من القصّة التي أكتبها، أجمل من ظهري الموجوع، أجمل من اسمي وجنسيّتي وميولي الجنسيّة، أتوسّل إليك، بكلّ لغات العالم التي أعيها ولا أفهمها، أحبّيني، أو جرّبي.
أمنيتي، مجدّدًا، لا أن أستريح يومًا واحدًا كما كنتُ أظنّ، بل أن أبلع أكبر كمّيّة غير قاتلة من الزّاناكس كي يصير العالمُ بطيئًا، بطيئًا حدًّا أستطيع منعكِ فيه من قول لا، حدًّا تتوقّف فيه كلّ زوامير العالم، وكلّ الآلام غير المُرحّب بها، حدًّا أستطيع فيه مواجهة الرّجال الغلاظ، أولئك الذين قالوا إنّني كاذب، دون أن أجرؤ على القول إنّ الصّدق أنبل من أن يكون بهذه البساطة، وأعقد من أن تعقله أذهانكم.
جسدي متشنّج، أحاول مداواته بقربة ساخنة، أحاول مقاومة الألم بالكتابة، أو لعلّني لا أتوخّى منها سوى مزيد من الألم، هناك، في النّقطة التي تفصل نصف ظهري السّفلي عن العُلويّ، هناك، حيث أعتقد أنّ الرّوح تكمن، هناك، حيث أريد أن تنشبي أسنانكِ.
لا أرجو الآن إلّا أن يكون الاثنين أقرب من الأحد، يا ربّ المُعجزات، أغثنا.
1 note · View note
labyrinthofarabs · 3 years ago
Text
في رأسك، ماذا يدور في رأسك؟
“"من يُمكّن لي حرمًا آمنًا؟ من يؤمّن لي صوتًا عصيَّا على الكتمان؟ من يمنحني بالًا لا تنتهك هواجسه العيون؟ لا يبحلق فيه الفضول السري؟.. من؟"“ - مؤنس الرزاز - اعترافات كاتم صوت.
في لحظة كشفٍ تعيسة، تفهم ما عجزت طوال أربع سنوات عجاف على فهمه. تخجل من حجم العمى الاختياري الذي فضّلته لنفسك، فقط لأنّك خائفٌ من الحقيقة. ما الذي تشعر به؟ فيمَ تُحس؟ فيمَ كنت تفكّر لحظتها؟ كنت تخترع سرديّاتٍ تجعلُ منك طبيعيًّا، كنتَ مرعوبًا أن يفضحوا سرّك، حتّى هم، أولئك الذين يمدّون أيديهم بالمساعدة ويتهيّأ لك أنّها أفاعٍ تسعى.
تتذكّر، في لحظة الكشف تلك، جملة مرّت على الخاطر فعلقت، مثل وجهها: صافٍ كما وجه نرسيس في البحيرة. جملة قرأتها قبل تسعة أعوام حين كنت مجرّد فتًى مادًّا ذراعيه للأفق، لاهيًا عن خطواته والطّريق. كنتَ ساذجًا، وما زلت، أيّها الأهبل.
لا يملك كثيرون إلّا أن يعيشوا حياةً مزدوجة، لا مفرّ في هذا البلد إلّا إلى العتمة، والشوارع الخلفية، والسيارات، والعمارات الكئيبة، والأحاديث التي تُنطق همسًا. وأنت، رغم كونك واحدًا منهم، اخترت طواعية حياة مزدوجة عن  تلك الحياة المزدوجة، لأنّ العيش بالمكشوف، حتّى أمام أولئك الذين تثق بكونهم مستودعًا للسرّ، يدبّ الرّعب في قلبك.
وحده مؤنس الرزاز فهم وحدتك، قبل أن تفهمها أنت بكثير، يا للفضيحة "ولكن ما أقبل السر للفرار إلى الفضيحة في هذه العمارة. أنا لا أستطيع أن أفكر بالسر هنا. إنهم يقرأون أفكاري. ونهبط على الدّرج. رأسي مقسوم إلى قسمين. كل الخواطر تحتشد في القسم الخلفي من بالي. إنهم يرون أفكاري. وأنا لا أراها. يا للفضيحة".
كنتَ تبحث عن الجواب في كلّ مكانٍ: عند أصدقائك، عند المعالجين النفسيين، عند أهلك، عند من أحببت،  نبشت في المزابل، صعدت إلى الأسطح، صرخت من أعلى جبل القلعة حتّى بحيرة طبريّا، بدّلت نظّارتك مرارًا فعيناك قصيرتا نظر، لكنّك أغفلت أنّ الكذب كان خيارًا لا مهربًا، وأنّك لم تكن تداري وتكبت وتبكي - وتبكي - إلّا كي لا تقول ما بك، لأنّ ما بك تافه، وتفاهته تحديدًا هي آخر وردة من ذاك الربيع تودّ أن تحتفظ بها لنفسك. وكي يستحيل الأمل رجاءً، عهدت إلى تبرير كُلّ شيء، كلّ شيء، كأنّك ارتكبت السبع الموبقات.
تقول إنّك لا تُحبّ الانتماء لإربد، ولا لملكا وربّما للأردنّ بأكملها حتّى، هجرت الإيمان ونسكتَ بنفسك، كأنّ كلّ ما سبقك تهمة: الهويّة تهمة، التديّن خدعة، الحبّ وهم، والعمل شيءٌ عابر، أمّا الأصدقاء فساعتان تنقضيان، لا ماضي لك، فالماضي هو جريمتك الكبيرة: اعتذر، بكلّ الندم الذي يتوخّاه الله من عباده، اعتذر عنك، عن اسمك ووجودك، عن بيتكم الصغير وفراش نومك، اعتذر عن رائحتك وذقنك التي لا تعرف كيف تعتني بها، اعتذر عن جلدك وأظافرك أيّها النّتن، عن رغبتك في الحياة، عن خوفك من الفقر وحبّك غير المبرّر لحياة لا منغّصات فيها، عن حاجتك للإيمان بشيء أكبر منك، حتّى لو كان مجرّد ابتسامة. لكنّ اعتذارك الأكبر يجب أن يكون لعدم اعترافك بكلّ شيء، عن ذاك الذي تخفيه - ما الذي تخفيه؟ -، حتّى وإن كنت مراقبًا طوال الوقت ولا تستطيع الالتفات، حتّى وإن أحزنك أنّ ذلك الشعور قد يؤشّر ولو من بعيد إلى اعتداد أبله بالذات، حتّى إن لم تُرد إلّا أن تُردم تلك الفجوة في رأسك، ليعود رأسًا واحدًا بلا نتوءات. 
“In your head, in your head
Zombie, zombie, zombie-ie-ie
What's in your head, in your head?
Zombie, zombie, zombie-ie-ie-ie, oh
in your head”
- The Cranberries
youtube
1 note · View note
labyrinthofarabs · 4 years ago
Text
صوت رفيقتي يناديني صوب الشمال
قد يكون الكلام التالي مدفوعًا بنبضات قلبك الدائبة، قد لا يعني أيّ شيء، لكنّك تشعر أنّ قلبك سينفجر، وعليك الانشغال عنه بأيّ صورة كانت.
ببساطة، ودون مقدّمات، أنت تشعر بالوحدة، وحدة شديدة لا طاقة لك بها، وحدة تتراكم وتتعاظم حتّى صارت عملاقًا يمشي أمامك حدًّا امّحى شكلُ وجهك معه. حياتك باتت محاولة متواصلة للهرب، هرب إلى الداخل، صمت، صمت، صمت قارص، كأنّك عهدت بلسانك إلى الغابة وضللت الطريق إليه. بأيّ لغة تقول إنّك وحيد؟ كيف تقول إنّ لا شيء، لا شيء يجعلك سعيدًا أكثر من لحظات عابرة. والأدهى، أنّ لا شيء يحزنك أيضًا. توفّي صديقك وعمّك هذه السّنة، ولم تشعر بشيء. لا شيء، فراغ، أوتوستراد بلا سيّارات. انظر إلى نفسك: نقطة وسط المجرّة، فسبحان الله العظيم.
أخذتَ أربع جلساتٍ مع طبيبة نفسيّة، مجدّدًا طبعًا، بعد كلّ الخراء الذي تجرّعته قبل ثلاث سنوات، قلتَ لمَ لا، لعلّ العلم تطوّر، سألَتك مرارًا لمَ تودّ رؤيتها، ولم تعرف كيف تجيب. كيف تقول لها إنّ العالم في رأسك لا يشبه العالم الذي تبصره، كيف تشرح لها أنّ لا شيء في الحقيقة يزعجك، وأنّك مجرّد شخصٍ مترف لم يتبقّ له من الإحساس سوى الوحدة، رفيقتك القديمة، والتي للمفارقة، تقرف منك، من صوتك وشكلك، من تدويرة رأسك، من جبنك رغم الشيب الذي بدأ ي��زو شعرك، من رائحة فمك وأصابعك الملطّخة بالتّبغ، من جلدك البارد، ومن سخافة وضحالة أفكارك.
اهرب، اهرب، اهرب، هذا ما قالته لك، اضرب رأسك في الحائط، يمّم صوب الشّمال، أقسمت أنّك سمعتها مرارًا تقول: شمالًا شمالًا أيّها المنكود، ولم يكن جهة الشّمال من شيء سوى الماضي، هاوية أليفة، ذراعاها ممدودتان، وأنت في أمسّ الحاجة لحضنٍ دافئ، يا حزين. لكنّك لم تستطع، تلوّيت في أرضك، صرخت، كسرت رجل الطّاولة بسبب ولدٍ توّجه البترول فيلسوفًا، وأكسبه الصّلع وقارَ البحث عن الحقيقة.
لا تملك شيئًا، لا مالًا ولا حُبًّا، لا ذكاء ولا إيمان، لا تملك سوى الغضب من نفسك، فتقبض عليه، تقبض حتّى تصير القبضة تمثالًا: اضرب كلّ عضوٍ من أعضائك: حنجرتك، عينيك، خصيتيك، قدميك، اخلع أظافرك يا مسكين، فالدّم وحده قد يطهّرك، إن كان لطُهركَ من غاية، ولخطاياك من منجى.
أنت وحيد، وحيد وحدة سربٍ بأكمله، مقهور وفيك رغبة بإيذاء البشريّة جمعاء، ابتداءً من أمّك التي تعبد، وليس انتهاء بظرفاء العالم. تودّ تمزيق الجدار، أعلم ذلك، أن تشقّه كما يُشقّ الثّوب، أن تسمل أعين الفقراء، وأن ترمي الشّعر في أقرب مكبّ نفايات، لا تريد شيئًا، ولا ترغب في أن يبلّغك زمنك ذا أيّ مبلغ، أيّ منتهى. أنت فقط بردان، بردان وليس بمقدور حرائق الدنيا أن تدفّئك، لست سوى جثّة مستوردة، لحم جورجيّ يتناهشه الذّئاب، كاتب على باب محكمة ظالمة، مدّعٍ بوجهِ حمل، أنت لا شيء، لا شيء على الإطلاق، محض كذبة صدّقت نفسها قبل أن يصدّقها الآخرون.
تُفكّر في رفيقتك الآن، في وجهها الذي نسيته، في صوتها الذي ما زال يطنّ في أذنيك: ادنُ، هات يديك، أغمض عينيك وخذ قدميّ فلم يعد لي بهما عازة، اقترب يا حبيبي خطوة. أنت تحبّها، ولا طاقة لك على المناهدة أكثر، فلمَ تُكابر؟ قُل لها كلّ سخافات الوله والعشق، لا شيءَ سيبدّلك في عينيها، فأنت أنت، رغم كلّ ما تعتقد.
1 note · View note
labyrinthofarabs · 4 years ago
Text
عاشوراء
گل را مجنبان هر دمی تا آب تو صافی شودتا درد تو روشن شود
تا درد تو گردد دوا
- جلال الدين الرومي
(1)
لم أكتب منذ فترة طويلة، لكنّني أفكّر فيكِ كثيرًا مؤخّرًا، إلّا أنّ التفكير وحده لا يكفي. أعيد قراءة ما كتبتُه لكِ سابقًا، أسمع الألبوم الذي أهديتنيه بكثرة، أحاول العثور على الفيديو الذي تظهرين فيه وأنت تتحدّثين الفارسيّة دون جدوى. لعلّه ذهبَ إليكِ، إلى ذلك المكان الموحش الذي تعيشين فيه حاليًّا، حيث لا نستطيع الوصول، وحيث الدّروب دومًا تقود إلى طريق يسُدّه حرس الحدود.
أربع سنوات يا فاطمة، أربع سنوات وها ذاكرتي بدأت تضمحلّ. أحفر وأكشط وأغرف وأمزّق رأسي لأتذكّر شيئًا آخر، شيئًا لم أكتب أو أتحدث فيه عنكِ لأيّ أحد دون جدوى. تسيل الدماء من رأسي ثمّ تتجلّط، لا شيء منها يصل حنجرتي أو أصابعي، وأنا أريد أن يقطر منّي الدم حين أكتب أو أتحدّث، تمامًا كما لو أنّني في كربلاء.
ربّما تعرفين أنّني لا أغضب كثيرًا، لكنّني غضبتُ يوم التقيتُ أخاك. يُشبهك حدَّ الخيانة، حدّ الانتحال. حين رأيتُه، ذاب الفاصل بين الجنسين، إذ يبدو أنّ لا شيء أقوى من رابطة الدّم. كان ينزلُ الدّرج، بخطوة بطيئة بليدة تُميّز أهل الشّمال، وجهه إلى الأرض، وهاتفه ودخانه بيده. رفع وجهه مُحيّيًا بابتسامة، فارتجف قلبي. كأنّ الحياة دارت فجأة، وأُعيد اللقاء في ذلك المقهى المبتذل الذي جمعنا آخر مرّة: العينان، الجبهة، النّظرة، والهيئة. كُلّ شيء يا فاطمة، كُلّ شيء تكرّر كما لو أنّه إعادة بالعرض البطيء، حتّى يقيني بأنّك لستِ يسوع بن مريم لم يستطع كبح جماح أنفاسي اللاهثة. أردتُ أن أخرج، أو أبقى وأشوّه وجهه المُزيّف، أردتُ أن أفعل شيئًا، واكتفيتُ بالتّشبّث بيديّ المقعد.
حاولتُ تحاشي النظر صوبه، دون أن أفلح. أصرّ أنّه يعرفني، وأصررتُ على الابتعاد، ببطء كمن يتحاشى الدّوس على لغمٍ. لكنّه ظلّ يحاصرني بالسّؤال، فأسعفتني ضربات قلبي الدّائبة. انسعرتُ، بدأتُ ألهث وفمي مفتوح على مصراعيه، لساني تدلّى وبدأت أعوي، يداي انقلبتا مخالبَ تضربان صدري بعنفٍ حتّى سال الدّم المقدّس:
يا حسين.. هايمة الروح بجمالك  
يا حسين.. نشتري الموت بوصالك
يا حسين.. نفتخر صرنا على بابك
يا حسين ويا حسين*
(2)
كتب أحمد حسن الزّعبي على تويتر "لا أتعاطف مع الذين يهدّدون بالانتحار، هؤلاء أجبن الجبناء. يبتزون عواطفنا على أن يصرخوا بوجه الظالم ويدافعوا عن حقوقهم. لا تنزلوهم وليذهبوا للجحيم". بغرابةٍ، لم يزعجني كلامه كثيرًا، كيف سيفهم من لم يعرف فاطمة؟
حاولتُ أن أفهم موتَكِ يا فاطمة مدّة طويلة، ثمّ توقّفت. انتبهتُ كم أكون عدوانيًّا حين تأتي سيرتك، أكره حين يُتَحدَّث عنكِ، ملازَمًا بشعورٍ دائمٍ بأنّ أحدًا سيطالب بنصيبٍ من ال��ركة، تركة رأس مالها معرفتك. في ذهني أنتِ لي وحدي، لا أحد يتشاركك معي، لا أهلك ولا أصدقاءَك، لا أحد. حين ��رسلت لي قريبتك تطالبني بحذف ما كتبتُ عنك، لم أردّ. أحدُ معارفي قال لي، بجرأة لم أتوقّعها، إنّني بحاجة للحديثِ مع أهلِك كي أتجاوز ما أشعرُ به. صرختُ بوجهه (وأنا نادرًا ما أصرخ) أنّ موتَكِ لا يعنيني في شيء. لعلّ موتَك لا يعنيني حقًّا، لكن كيف أشرحُ له؟ كيف أشرحُ له أنّ هذا الأمر "مَحطُّ رحالنا، وسفك دمائنا، ومقتل رجالنا"1.
انت خليتِ المنيّة.. عدنا مقياس
قلتِ تنذبحون.. لازم وارفع الراس
من خَذَتْني الحميّة.. قطّعتهن إديّه
يمّا اطمنچ عليّا.. قطّعتهن إديّه
 (3)
أورد عبد الفتّاح كيليطو حادثة كتبها الجاحظ في البيان والتبيين "يصف الجاحظ قاصًّا اسمه موسى بن سيّار الأسواري، فيقول عنه: "وكان من أعاجيب الدّنيا، كانت فصاحته بالفارسيّة في وزن فصاحته بالعربيّة، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعدُ العربُ عن يمينه، والفرسُ عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويُفسّرها للعرب بالعربيّة، ثمّ يحوّل وجهه إلى الفُرس فيفسّرها لهم بالفارسيّة، فلا يُدرى بأيّ لسان هو أبين". ثُمّ يسأل كيليطو سؤالًا "العرب من جهة، والفرس من جهة أخرى. ليس هناك اختلاط أو اندماج بين المجموعتين، فلكلّ واحدة مكانها المرسوم لا تتعدّاه ولا تحيد عنه... أمن الصدفة أن تجلس العرب عن يمينه والفرس عن يساره؟ هل بالإمكان تصوّر العكس؟"2. هل بالإمكان تصوّر العكس حقًّا، فيما يتعلّق بكِ يا فاطمة لا بموسى بن سيّار؟ هل كنتِ تُجلسين الفُرسَ عن يمينك وتُجلسينا عن يسارك؟ هل كُلّ هذا الجهل الذي نرزح فيه كامنٌ هناك، في أسرار الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، في الشّادور الذي رأيتُك تلبسينه؟ بشكلكِ وصوتك المختلفَين كلّما تحدّثتِ الفارسيّة؟ هل هو في بيت مولانا الرّومي؟ 
أسمع الألبوم الذي أهديتنيه مرارًا وتكرارًا، لا أفهمُ شيئًا، لكنّه يسحبني إلى لقاءاتنا، يذكّرني بكُرهِك لروايات شهلا العجيلي (هل أخبرتك عن احتمال إجرائي مقابلة معها؟) وربيع جابر، حبّك لبزرگ علوي وسينما أصغر فرهادي، وللتسجيل الطويل الجميل الذي تحدّثتِ فيه عن رواية ثلج لأورهان باموق، ذلك التسجيل الذي غيّبه خراب هاتفي الرديء، يُذكّرني بحديثِك الواثق والرزين عن فنّ الرواية في بيت عرار. لكن، مجدّدًا، أشعر أنّ هذا لا يكفي، تتملّكني الرّغبة في أن أفهم أكثر، أن أفهم ذلك الألبوم، وتلك اللغة التي تختلف عن العربيّة قدر ما تشبهها: فاطمة، أين يتعلّم المرء الفارسيّة؟
آه وا ويلاه ماتت فاطمة
آه وا ويلاه ماتت فاطمة
آه وا ويلاه ماتت فاطمة
آه وا ويلاه ماتت فاطمة
حان توقيت الدَّمِعْ والفاجِعَة
من الأَرِضْ حتّى السَّماء السابعة
اليوم ماتت رحمة الله الواسعة*
(4)
عزيزتي فاطمة، قلب أبي مُ��عب، وبعد أن أوصاه الأطبّاء بإجراء عمليّة قلبٍ مفتوح أخذت أفكّر في سؤالٍ ساذج: هل يموت الآباء؟ الإجابة ببساطة: لا. بإمكان أي فردٍ من العائلة أن يموت سوى الآباء. الفكرة تؤلمني إذ أكتبها، لكنّك دليلٌ على صحّتها. لا تغضبي، دعيني أشرح لكِ ما أفكّر به. النّاس جميعًا يتحوّلون إلى ذكرى حسنة بعد موتهم، إلّا الآباء ينتهي الأمر بهم دومًا إلى الاختزال، يتحوّلون إلى مخلوقاتٍ عجيبة بائسة ومقزّزة. جدّ صديقي مثلًا لم يتبقَّ منه شيئًا، وحين جاء ذكره أمام أمّ صديقي قبل أيّام قالت إنه كان يبصق على الحائط، وكمشت وجهها قرفًا. في المُقابل، يقول أبي إنّه تزوّج أمّي لأنّه أحبّ أباها. هل انتبهتِ الآن؟ هكذا هم الرّجال، تحديدًا من صار منهم أبًا: يشبهون بعضهم، أشدّاء على الكُفّار رحماء بينهم؛ لأنّهم يدركون أنّ لا حياة أخرى لهم، لا جنّة ولا نار، ولا حتّى أرضَ أعراف، إلّا لو كانت مقهًى لا يُسمح بدخوله سوى للآباء. ليس ثمّة سوى صورهم التي ما انفكّوا يدقّونها بالجدار، ثمّ غفلوا عن ميلانها.
كنتُ أهربُ من فكرة أنّ قلب أبي مُتعب، إذ لا يُمكن أن يحصل ذلك، هذا غير ممكن وحسب. أبي أصلب من أن يتعب، دائمًا حاضر عند النداء، يدفش الأبواب برجله مُحاربًا عن أبنائه، صوته يمُدّ الغريق ثقةً بالنّجاة، لا يبكي إلّا حين تُجرح كرامته، ولا يضحك إلّا ونضحك جميعًا. أبي كما كل الآباء، أكبر من الحائط، وأوسع من الكنبة، له هالة أكبر من محيط جسده الصغير، بسيط وواضح كما الأخيار في الأفلام. كيف له، أو لأيّ أبٍ في هذا العالم الضيّق، أن يموت؟ هذا أمرٌ مستحيل، منطقيًّا يعني.
فاطمة، اشتغلتُ مؤخّرًا. أعملُ في مصلحة تُحارب الإشاعات (أعرف رأيك سلفًا: لا عملَ أسخف من هذا! لا داعيَ للشّماتة). لديّ مديرٌ يأمر وينهى عن بُعد، مدير افتراضيّ، حين يكتب تشعر أنّ الكلمات على وشك أن تصرخ. في الحقيقة أنا أبالغ، الأمر ببساطة أنّني أقول له: تمام وحاضر وولا يهمّك وهسّا بسوّي وبعمل. لكن، كي أكون صريحًا، لا أحبّ أن أقول مثل هذه الأشياء سوى لأبي، رغم أنّه وبّخني مرّة لأنّني أُكثر من قول هذه العبارات: سيبك من هذا الحكي وشد حالك.
رُبّما (ورُبّما شديدة الأهمّيّة هنا، إذ لم أسمع أبي يقولها في حياته أبدًا)، كنتُ أبحث في المكان الخطأ على الدّوام، إذ كنت على اعتقادٍ أقرب للإيمان أنّني أشبهه حدًّا وددتُ معه لو أسلخ وجهي عن عظمه. الآن، فقط الآن، اكتشفتُ أنّني واهم، وأنّ علامة السّؤال أكبر من السؤال ذاته. الشّكلُ لا يعني شيئًا، على الإطلاق. لستُ صلبًا مثله؛ لا أحبّ رفعَ صوتي؛ لا أحبّ الشّاي؛ وأنهي طلبي دومًا ��صيغة اعتذار مبطّنة: لو سمحت، إذا أمكن، لو ما فيها غلبة، شكرًا، آسف على الإزعاج، بطّيخ مبسمر.
Tumblr media
(أبي على اليسار، أنا على اليمين)
لنعد مجدّدًا للمدير: لأنّني لا أريد أبًا آخر (فيما لو مات، إن كان يجرؤ على ارتكاب خطيئة كهذه أصلًا!) لا أريد أن أقول حاضر، أريد أن أبصق على الحائط وأصرخ شاتمًا اللي ما يتسمّى ثمّ أدعو له بطول العمر على الفيسبوك، أن أقول له إنّ لا معنى للبحث فيما إذا كانت صورة الحريق من الجزائر أو من تركيّا أو من اليونان، الأرض تغلي وحسب، لا أكثر عزيزي المدير، الأرض فقط تغلي وهذا كلّ ما هنالك.
أبي، حبيبي، لا يجب أن تموت فتاة وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، تمامًا كما لا يجب أن يموت الآباء، أتسمعني؟  أتسمعانني؟
يا نجمة لو شفتِ القُمَر... يَمِّ النَّهِرْ روحيله
زينبكم اِبْليل السّفر... شِبْعَتْ قَهِرْ واحْچيله
هذا انتَ يا وجه الصُّبِحْ... لو هذا قلبي على الرمح؟*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كلّ الأبيات من لطميّات ردّدها باسم الكربلائي.
(1) قول منسوب للإمام الحسين لحظة وصوله لكربلاء.
(2) من كتاب "لن تتكلم لغتي" لعبد الفتاح كيليطو.
5 notes · View notes
labyrinthofarabs · 4 years ago
Text
أنا سعيد
بدأ شكلي في التّحوّل مؤخّرًا. أنظر في المرآة، فأرى تغييرًا طفيفًا: شيبة جديدة، الدّوائر حول عينيّ تتّسع أكثر، درجة جديدة من السّمار، حمارًا يوسّع نفوذه داخل عينيّ. أمّا التغيّر ��لأوضح، فهما القرنان أعلى رأسي. هذا ليس نصًّا كافكويًّا، القرنان هنا ليسا حقيقيّين، لكن كلّما نظرتُ إلى نفسي في المرآة أراهما، غريب! قلق، أو��ك على الانهيار كلّ لحظة. أودّ لو ينتهي كلّ هذا، ثمّ أعود وأتساءل ما الذي أودّ له أن ينتهي حقًّا؟ أوّلًا، أن أنهي الشّغل الذي تسّلمته قبل ثلاثة أشهر. أماطل، لا أستطيع الإنجاز، وأتساءل كثيرًا كيف كنتُ أعملُ مسبقًا؟ أبني وأهدم السيرة الذاتية في الأسبوع ثلاث مرّات، تُطالعني كلمة الخبرات، أريد أن أمحوها، لا بضغطة الـBackspace بل بيدي، أن أكشط شقفة من شاشة اللابتوب، لكنّني أعرف أنّ هذا لن يفيد، فبمجرّد سحب الشاشة إلى أسفل أو أعلى سوف تعود الكلمة للظّهور. لديّ خبرة في إضاعة الوقت، وفي رفض فرص العمل والدّراسة، لديّ خبرة في التّلعثم، وفي حبس المشاعر كما يسدّ المرء طرف البربيش بإبهامه، لديّ خبرة في عدم إنهاء الكتب والألعاب، في التّفكير بالماضي من قدميّ، في استنزاف السّيّارة حتّى آخر قطرة بنزين، في مشاهدة تحديات اليوتيوب التافهة، في عدم الرد على الرسائل، في حشو جسدي بالكافيين، في شتم الآخرين بصمت، وفي تدخين باكيتي دخّان في اليوم. لكنّني شاب لطيف، ودود ومهذّب. ربّما أحتقر من يقابلني قليلًا، لكنّني لا أخبره بهذا، حرام. بإمكانك أن تقول لي أيّ شيء، أعني حقًّا أيّ شيء، محسوبكم يشبه مكبّ نفايات: مثلًا بإمكانك أن تقول لي "شغلك زبالة"، عادي والله، بإمكانك أن تقول لي كذّاب، الصراحة هذه تزعلني قليلًا، لكنْ ستمرّ، ولن أفاتحك بالموضوع من جديد، بل حتّى سأشاركك الاتّهام في المرّة القادمة، بإمكانك أن تذنّبني بالوقوف أمام الحائط ورفع يديّ عاليًا، والله حصلت، ووقفت، بل حتّى اعتذرت، وللمعلوميّة كان عمري 25 عامًا، يعني مش صغير. بإمكانك أن تسرق قدّاحتي وتقول لي "ييي إلك قدّاحة عندي، بس ضيّعتها"، سأقول لك معلش، وسأشتري لك واحدة في المرّة المقبلة، أنت نفسك من ضربَ عزيزًا عليّ حتّى ازرقّت كتفيه. بإمكانك ألّا تردّ على رسائلي، أن تجعلكها وترميها من النافذة، حقيقيّة كانت أم إلكترونيّة. بإمكانك ألّا تسألني كيف حالي، وأن تزعجني بحالك الذي يهمّني بشدّة فلديّ خبرة كافية بالمرض الجسدي والنفسي، بالعلاقات التي تخصّ الآخرين، بالمشاكل الزوجية من أوّل النّفور وحتّى التّعنيف والطّلاق 7 مرّات: الله بسامح، وأنا بحب الله. ملأتُ عديدًا من الاستمارات في حياتي، الكثير منها، يعني صرت شاطر بالموضوع. لا أحبّ الكذب أثناء التعبئة، الكذب يكون في الإجابات الطويلة، حين تستحيل نصًّا أدبيًّا يغلّف السم بالعسل كما يحب إخوتُنا المسلمون أن يقولوا. لكنّني لا أكذب في الأسئلة المباشرة: الاسم: نذير ملكاوي أو نذير عبد الله (حبّذا لو بدأوا يضيفون خانة لاسم الأم، ففي المدرسة كنتُ أخجل من ذكر اسم أمّي: أمّي هاي، كيف يعرفوا اسمها؟!)، العمر: 27 إلّا 19 يومًا. الجنس (أنظر في سروالي، للتّشييك مش أكثر): ذكر. أرفِق السيرة الذاتية: هنا مشكلة، فسيرتي الذاتية طويلة، يعني أطول من خطابات عبد الله النّسور، الله يسهل أمره، لذلك، أرجو قراءة ما كتبتُ أعلاه. وأشياء كهذه. اليوم أو البارحة لا فرق، فتحتُ استمارةً لأعبئها، كنت فاضي فقلت لأتسلّى، المهم، هناك تسعة أسئلة طوال: اثنان منها تتطّلب الإجابة على كلّ واحدٍ منها 1500 كلمة لا أكثر، أمّا السبعة الأُخرى، فكلّ واحدٍ 700 كلمة لا أكثر. الوقت غير كافٍ لأنهي الاستمارة في الوقت المطلوب، باقي 5 أيّام، وأنا لا أحبّ الكذب كما قلت، والصّدق يتطلّب وقتًا، يتطلّب مجاهدة للنّفس لوضعها في مكانها الصّحيح، بنفعش تعمل حالك باتمان وانت آلفرِد مش محصّل! لكنّني فكّرت، والتفكير يأخذ عندي شكل المونولوج: أبو اسكندر، هل بكفّي نجاوب على السؤال الأخير بس؟ السؤال الأخير يا سادة كان كالتالي "ما الذي يبعث الأمل في نفوسكم؟ ولماذا؟" والله خوش سؤال، كما لحسن بلاسم أن يقول. لكن أكو خوش إجابة؟ بطبعي شخص متفائل، الله خلقني وكسر قالبي، رغم كلّ اليأس البادي والظاهر والواضح والفاضح والمفهوم بأسباب ومقدّمات تخزق عين الشّمس (راجعا الفقرة 4). الإجابة: ما يبعثُ الأمل في نفسي، عزيزتي عزيزي المحكّمين، هو الحبّ. في كتاب يضمّ محاورات ميشيل ويلبيك وبرنار هينري ليفي (شايفك، ما ترفع حواجبك) يقول ويلبيك إنّه ببساطة يريد أن يُحَبّ، يعني رغم كلّ البغض والعفن الذي يبدو عليه خارجيًّا وداخليًّا (هذا لو اتفقنا على وجود الحياة الداخليّة)، ببساطة يرغب العزيز ويلبيك بالاعتراف، بالحبّ، بالمودّة. كما تعرفون أنا لستُ منفّرًا مثله، لكنّني لا أشعر بأنّني محبوب، ولو شعرت بالمحبّة أريدُ المزيد، أنا كلبٌ عطشان، والارتواء وحده، أو الرّغبة بالارتواء، الإحساس بأنّ يومًا ما، عام 2077 مثلًا، سوف يحبّني أحدٌ حدّ أن أقول "بس، ذبحتني"، ما يبعثُ في نفسي الأمل. أريدُ حبًّا كذاك الذي خصّه جيوفاني لديفيد، حبًّا يقتل، يوصلك البحر ويعود بك عطشانَ. الصّراحة، لقد نلتُ قبسًا من ذلك الحبّ في الماضي، وهذا جيّد، لا بل ممتاز، لكنّني شربتُه كلّه، خلّص. المشاعر السلبية مردّها فكرة خاطئة، غير منطقيّة. كنتُ أقرأ كتابًا للطبيب النفسي ديفيد بيرنز اسمه "Feeling Good". طريقته في علاج قليلي الثقة بأنفسهم هي الكتابة: اكتب لمَ ترَ نفسك مهزوزًا. ثمّ يبدأ بتفنيد النّقاط واحدة واحدة، وهكذا حتّى يقتنع المريض بأنّ الأسباب واهية، فيشعر أنّه بخير، وأمّا نعيمة نعمين. عزيزي ديفيد بيرنز، ثقتي في نفسي صفر، وهذه هي الأسباب: - لا أرى نفسي جميلًا. - أنا خجول. - عمري 27 عامًا، بلا عمل، بلا علاقة، بلا دخل، وبلا هدف. - أشعر أنّني ثقيلٌ على الآخرين، الأصدقاء المقرّبين قبل الغرباء، وعليه أشعر بالوحدة دومًا، حتّى لو كنتُ في لفيفٍ من الأحبّة. - لا زلتُ لم... لا أستطيع أن أنطقها، بس انت فاهم عليّ. أعرفُ أنّ لا منطق وراء كلّ هذه الأشياء، وإلّا ما علاقة قدميّ أصلًا حين تتخدّرا كلّما لاح سببٌ منها في رأسي، رأسي ذي القرنين؟! ها، ما علاقة القدمين بالثّقة؟ احكيلي، والله ما رح أزعل. حُسام البيرقدار، بطل شاي أسود (فكرة سريعة خطرتلي: كلّ الأبطال مهزومون! مش جديدة بعرف) "يأخذ يضحك، والضحك يتحول إلى قهقهة قوية. يقهقه وحيدًا في العتمة. يقهقه حتى توجعه عضلات بطنه. يهدأ تدريجيًا. يظل يطلق أصواتًا مقتضبة صاخبة: إنه سعيد. إنه سعيد بقوة وصخب وعنف"، وأنا مثله سعيد، سعيد جدًّا، سعيد غصبن عن العالم، غصبن عنّي، ولن أسمح للحزن أن يتسلّل إلى قلبي. أنا الآن مليءٌ بالأمل أيّها السّادة المحكّمون. لا دخل للثقة بالنّفس، للاهتزاز، للخضوع، بالسّعادة، بل إنّه، هيك بخطرلي، الأخيرة تجلب السّعادة: أريدُ أن أخضع أكثر، أن أطأطئ أكثر، أن يُدعس عليّ تمامًا كما يحصل الآن، لكن بدرجات أكبر بكثير، فذلك وحده ما يبعث في نفسي الأمل (هي شو النّفس أصلا؟ السؤال إلك عزيزي أرسطو). سيجارة؟
Tumblr media
8 notes · View notes