مفردات مغلوطة
أجد الكثير من اللحظات التي ينتابني فيها شيء من الشك، وقد تزيد أو تنقص بنسبة وتناسب بما يعتريني في هذه اللحظات، فأصبح حينها متمعِّنًا جيدًا في مفردات وقورة .. لا لشيء معين، بل لأعرف معنى ووقع هذه المفردات على قلبي، هل هي بالمعنى الجيد والواضح والمُترَبَّى عليه، أم أنها في نهاية الأمر مفردات منفوخة بشكل مبالغ فيه.
قد تكون مفردة "الصداقة" هي أكثر ما يصرخ في أذني في هذه الأثناء، بل في الفترة الماضية إن صح التعبير، ليست فترةً محددة .. لكنها ليست قصيرة، أجدني أتأمل في هذه المفردة وأُسقِطها على دوائري الخاصة من الناس.
لا أستطيع تحديد أي شخص ضمن خانة الأصدقاء، أجد حولي العالمين كثر، لكنني في نفس الوقت وحيد، أحمل في داخلي فراغًا شاسعًا خالٍ حتى من الصدى، معارفي كثر، وأستأنس التواجد حولهم، لكنهم ليسوا أصدقائي .. ولستُ صديقًا لهم.
وأتساءل دائمًا عن المعايير والمقاييس المطلوبة من الشخص ليكون صديقًا جيدًا، لقد تواجدت في دوائر كثيرة، وبين أشخاص كثر، لكنني بت ضائعًا تمامًا بين العلاقات التي تربط فيما بينهم البين، والتي تربطني بهم، ربما لفترات التباعد الطويلة التي أسحب بها نفسي عن الآخرين، لكن في نهاية الأمر أجد أسبابًا لا تستدعي قطع علاقة أو بالأحرى "صداقة".
بسبب هذا التخبط العظيم أجد أن الأمر عندي اختلط، فأنا لا أعرف حقيقة ماذا سأفعل أو ماذا سأقول لأجدني تحت سهام الآخرين المصوبة نحوي.
لذلك أجد أن الصداقة هي مفردة منفوخة، وأن التآلف بين شخصٍ وآخر لا يأتي إلا بسبب، إن التغى، التغت العلاقة بالكامل.
أعتقد أنه يجب علينا أن نجد تأويلًا جديدًا لمفردة الصداقة، لأن واقعها لا يحتمل كل هذه الوردية، تصبح مثلا فضل، لأن الفضل دائمًا مذكور في الصداقات وتحديدًا عند انقطاعها!
أو مصلحة أو تزجية وقت .. لأن هذه المفردات أيضًا مذكورة عند انقطاع الصداقة.
لست فيلسوفًا، لكنني أجد الكثير من المغالطات لمفردات تمت تربيتنا عليها، وهذه المغالطات توضح مدى سذاجتي بالدرجة الأولى، وأنه ليس كل سامي فيه من السامية، بل السُّمية.
قد يكون كلامي هذا لا يخرج عن محوري الخاص وفلكي الذي أدور فيه، لكنني في النهاية لا أستطيع تطبيق مفاهيمي على الآخرين، أنا أكتبها لأجد من يشابهني، لأبني لي عالمي الذي أجد فيه راحتي، لأنني لم أجد للراحة مكان، لأنني داخلٌ في السابعة والعشرين من عمري وأنا لا زلت لا أعرف من حولي، وهم لا يعرفون من هو مجيد، ولست متأكدًا إن كان السبب مني أو منهم، لأنني أعرف الكثير من البشر، ويعرفني الكثير، لكنني في نهاية الأمر عددٌ زائدٌ قابل للنسيان والمحو ..
لذلك، لا يوجد شيء يسمى صداقة -في قاموسي على الأقل- لأن العالم بشع ومظلم، ولا يحتمل الوقار الذي يتماشى معها.
2 notes
·
View notes
نور ورحمة ..
اليوم هو اليوم الذي يكمل فيه صديقي عبدالعزيز سنة تامة منذ وفاته .. في 15 أبريل 2019 مات, ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول التصالح مع هذا الحدث الذي أصابني بالشلل التام, وإن لم يكن شللًا بالمعنى الحرفي للكلمة, لكنني لم أعد أعرف بعده كيف للعيش أن يمكن. منذ ذلك اليوم وأنا أحاول بشتى الطرق أن أتعايش مع فكرة الموت, وأجدني في كل يوم أبتعد أكثر وأكثر عن التقبل, لكنني استسلمت .. هذا ما أعرفه, إذ أن المقاومة متعبة جدًا, أشعر أن مع كل مرة أقاوم فيها جزء من روحي يخفت ويبهت. في هذه التدوينة الطويلة, كتبت فيها الكثير من تساؤلاتي, عتبي, غضبي, مخاوفي, وحتى رجاءاتي. كنت أكتب لعبدالعزيز, لي, عنه وعني, كنت أؤرخ لحظات الجنون التي انتابتني, كنت أبكي كثيرًا وأنا أكتب, أبكي حتى يغشاني التعب. بدأت الكتابة حتى أشافي روحي من صدمة الفقد, حتى أتعافى ولو قليلًا, لأنني أشعر أن يوم وفاته قد نزعني من الشباب ورماني في قلب الشيخوخة, ليس لأنه صديقي العزيز, ليس لأنه مات, بل لأنني لم أنقذه. إن كنت لا زلت تقرأ وتريد أن تكمل لآخر التدوينة, دعني أخبرك أنك ستجد بعض التفاصيل غير اللازمة, ربما تجدني أتحدث عن موضوع, وفي لحظة قد تقرأ نصًا حالكًا .. أقول لك هذا لأنني أريدك أن تتهيأ لتقلبات عديدة في المزاج. لقد ترددت كثيرًا في طرح هذه التدوينة, ربما لأنني أشعر أنني عارٍ تمامًا ومشاعري مفضوحة أمام الجميع, أو ربما لأن بها جزء كبير كنت قد احتفظت به لنفسي, لكنني أضعها هنا لأن لا بد لي أن أتعافى, ربما ليس اليوم, أو غدًا, لكنني في نهاية المطاف يجب علي أن أطبب نفسي, ولا أعرف طريقة أخرى غير الكتابة. قبل أن تبدأ بالقراءة, أريدك أن تعرف عبدالعزيز. عبد العزيز عبيد الجغثمي, في السادس عشر من فبراير 2020 بدأ عامه السابع والعشرين, لم تمنحني الأقدار معرفته قبل 31 يوليو 2016 إذ تعرفت عليه بمحض الصدفة في المعهد العالي للصناعات البلاستيكية, ولم يكسب ثقتي كصديق بسهولة, إذ كنت –ولا زلت- أعاني من مشاكل في الثقة, لكنني وجدت فيه أخ قبل الصداقة. لقد كان إنسانًا ذا إطلاع في كثير من المواضيع, كنت أعتمد عليه في كل أموري التي أحتاج فيها لاستشارة ما, كان شخصًا يعتمد عليه, في أقل من ثلاث سنين بتنا أصدقاء .. لقد عرفت الكثير من شخصيته وهو كذلك, صرنا نعرف متى نمزح ومتى نعطي الآخر فرصة للبقاء وحيدًا. أعتذر مقدمًا عن أي جراح ممكن أن تُنكأ, لكنني في رحلة, وأود كثيرًا أن تكون نهاية رحلتي هي بالتخلي عن هذا الألم الذي كلما طالت المدة كلما تبارك أكثر وأكثر, ولا يأتي التخلي إلا بالإفصاح. من هنا بدأت: 9/6/2019 الخوف يطبق على أنفاسي، أخاف من كل شيء، أحيط نفسي بحذر يكاد يخفي كل انفعالاتي. أسمع شيرين تغني في رأسي قبل أن أسمعها من سماعة هاتفي، تغنيني لا تغني غيري، تشبهني بصوتها، تشرحني وتشرِّحني. أشعر بالكسر في نفسي، ليس في قلبي. روحي متصدعة .. تعبت من محاولاتي لسد هذا الصدع. لم أجد بديلًا مناسبًا لأضعه في عالمي الذي بات خفيفًا تأخذه الريح يمنة ويسرة. أحمل اللوم والعتب في داخلي، أحمل غضبًا عارمًا، وأمتاز بالكبت، الكبت الذي يؤذيني. لم أحزن بما فيه الكفاية. أحتاج راحة طويلة. 3/7/2019 أنت وحيد. تلتهمك مساماتك باتساعها, وحيدٌ جدًا .. تبحث باستجداءٍ عن معنى, تبحث باستمرار عن عائلة, لكنك مقطوعٌ مثل جذع شجرة أكله اليبوس. لا مكان حولك يتسع لغيرك, تدور مزاحمًا فراغك, فيبتلعك كلقمة طرية, لا تجد حولك من يأخذ القليل من همومك, الكل ملتهٍ عنك, الكل قد حصل على حياة, إلا أنت تدور في العدم, العدم الذي قد قيدت فيه, العدم الذي أصبح مثل جلدك, أنت مختفٍ عن الأنظار, بكل ثقلك المادي, إلا أنك أخف من صوت يحلق في الهواء, لا تُرى, تعبرك الأصوات, تتخطاك الذكريات, لا أحد يتذكرك. متوارٍ خلف عباءة الاختفاء, تسقط من الذاكرة مثل سقوط الريشة, بلا صوت, بلا وقع، بلا أي جهد. كلما حاولت أن تشعر بالحب, تجد أنك منسي تمامًا, متروك من جميع البشر. لقد تركك الله .. تركتك شياطينه, تحارب ما تبقى من إنسانيتك, تحاول أن ترفع صوتك, تصرخ ملئ رئتيك, لكن لا أحد يسمعك, تطحنك سنينك التي لم تعد تحسبها, تعد الأيام والليالي, تبحث عن موتك الخاص, تناديه تستدعيه هل أنت موجود؟ بسذاجة طفلٍ تسأل. تبدأ في عض كل شبر من جسدك, تريد أن تشعر, أن تحثهم على الشعور بك, لكن لا أحد يشعر, تغرس الأمواس, السكاكين, حواف العلب المعدنية, لكن حتى دماءك تأبى أن تسيل, بتواطؤٍ صريح مع عجزك, تتمسك في عروقك, تذكرك بأنك مخفي, بأنك حتى وإن كنت تتألم, فأنت في أنظارهم بخير. لكنك تحادث نفسك بأنك لم تعد تستطيع الاحتمال أكثر, لكنك تضحك على نفسك لأنك تعلم في قرارة نفسك بأنك لست مهمًا, رضيت بموقعك الأزلي, أم لم ترضى. 15/7/2019 اليوم يصادف نفس اليوم الذي أردتَ فيه الرحيل. ليس نفس التاريخ فقط, إنما نفس اليوم, الإثنين, سأكون نائمًا الآن, لو عاد بي الزمن لثلاثة أشهر, سأكون قد ابتلعت قرصي الفلوتاب وأغمضت عيني باستسلام لأعراض الانفلونزا. لكن لو كان بيدي لما نمت, لما أغمضت جفنًا, لبقيت مستيقظًا فقط لأعرف موعد رحيلك, علني أثنيك عن قرارك. عزيز, هل تذكر المرات الكثيرة التي استوقفنا فيها زملاؤنا في المصنع ليسألوننا إن كنا إخوة؟ هل تذكر رسائل أخواتي لي بأننا نتشابه .. أم قول إخوتك لك بمدى تناسخ ملامحنا. وكم من مرة رفضنا سوية هذه التصريحات الفادحة بأننا لا نحمل تشابهًا فينا إلا بارتدائنا نظارة طبية. أنت أسمر, لكنني أميل للسواد. أنت ممتلئ الجسد وأنا كروي الشكل. أنت مريض بضغط الدم, أنا مريض بالسكري. اللعنة يبدو أننا نتشابه في نهاية الأمر, إذ لا زال الكثير يسألني عنك, بأنك أخي. ولا زلت إلى الآن .. بعد ثلاثة أشهر من فقدانك أقول لهم بأنك أنت الذي تشبهني .. قد مت في 15 أبريل الماضي. لا نتشابه, أنت من عالم, وأنا من عوالمٍ كثر, عالم أعيشه, وعالم يعيشني, وعالم أختبئ فيه من خوفي, وآخر أتجرد فيه من كل أقنعتي. لا نتشابه, كنت أغبطك على صمودك, وكنت أتكلم بكل فخر عن مدى صلابتك, إذ لا تخلو جلسة حديث عن ذكرك, هل أخبرتك بذلك؟ كلا لا أعتقد. لأنني قاسٍ مثل حجر, لأن لدي قلبٌ يعرف كيف يداري كل معزته ويعرف كيف لا يقول, لأنني أعامل كل شيء في حياتي معاملة الغريب, لأنني غبي جدًا ولم أعبر لك عن مدى روعتك كإنسان. صمودك الذي لا أشبهك فيه, فأنا منهزم من كل شيء, أحمل على كتفي ربطة خيبات, حولتني من مجيد الذي تعرفه إلى آخر تمامًا. الآن أعيش في عالمٍ مختل التوازن .. عالمي الآن عبّارة فقدت مرساتها .. لا أعلم إن كنت أعيش واقعي أم أنني موهوم بأحلام مستمرة, بات عقلي يخدعني كثيرًا, وكنت قد أخبرتك مرارًا أن دماغي يخيفني. كثرت الأصوات التي تحادثني, علا صوتها أكثر من قبل, باتت تخيفني أكثر, أصبحت كائنًا من خوف, أخاف الأبواب المغلقة ولا أفتحها, أخاف من البقاء وحيدًا, ولا أبحث عن رفقة, أخاف من الموت .. ولكنني أستدعيه. أريد أن أتغير, هل ستعود لو أصبحتُ إنسانًا أفضل؟ 17/7/2019 عمري الآن خمس وعشرين سنة وخمسة أشهر .. كل ما يهمني الآن أن أحمي نفسي من الحياة، أن أرمم روحي من حطامها، لا أريد عيش أحلامي، أن أكون كاتبًا، مطرب أو طباخ. لا أريد أن أضيع ما تبقى من عمري في أوهام يستحيل عليها التحقيق، أريد أن أعالج اكتئآبي لأنني أشعر أنني كهل في جسد شاب، أشعر أن حياتي رحى تطحنني بهدوء وحنان يد العجوز التي جففت قمحها بكل حب. كل أفكاري ترسم لي جروح في يديَّ، تبني لي مشهد سيارة تصدمني، مكان عال أقع منه، أو حبوب لا أعرف ما هي تقتلني براحة ودفء. حتى حلمي بالتميز في مجال عملي لا أريد التفكير فيه، في النهاية حتى العمل عبارة عن تواطؤ صريح وواضح في عجن كل تميزنا وتوحيد أفكارنا بأننا نعمل هنا لنرضي المشرفين، لا مجال للابداع، لا مساحة للتفكير، لم أعد أقاوم، أصبحت أطيع الأوامر، لم يعد باستطاعتي التحمل ومواجهة كمية الظلم والمفاضلات في بيئة العمل. عمري خمس وعشرون سنة وكل ما أستطيع التفكير فيه هو كيف سأعيش هذه الحياة بدون مقاومة للأفكار الانتحارية والأصوات التي تتكلم في رأسي وتقول لي: لماذا أنا لا زلت حيًا؟ بدون مقاومة لكل خيالات عقلي المبدعة في وصف طريقة موتي، ولخوفي الذي يبدع في طريقة موت سهلة ومريحة. لا أتوقع أن ما أمرّ به الآن سببه وفاة عزيز، لا, لكنه تفاقم بعد وفاته. أنا الذي كنت أحثه دائما لتغيير الشقة, لم أكن أستطيع العيش فيها, كلما دخلتها يزيد علي .الاكتئآب، واستأجرنا أخرى بسبب ضغطي ولحّي المستمر في الموضوع قمنا بتغييرها ولم تطأها قدمي حتى الآن، لان عزيز قرر أن يموت قبل انتقالنا لها بنصف شهر. استحل الوجع قلبي، إنني أبكي به أكثر من عينيّ. 19/7/2019 لا زلت أشتهي الكتابة وأخاف كثيرًا من أن أسطرني في كلمات. لا زلت أخدرني بمشاهدة المسلسلات أو الطبخ, والكثير من الأكل. أراوغ هذا السواد المتنامي في داخلي. الساعة الآن 10:21 مساءً. أجلس على طاولة الطعام, أنظر للوحة المفاتيح, وأراقب كل كلمةٍ كتبتها, إن كانت خالية من الأخطاء الخرقاء التي دائمًا أفعلها. في يمين جهاز اللاب توب علبة مياه ذات اللتر والنصف, التي كلما فرغت ملأتها مجددًا بالماء. عن شماله حافظة طعام صغيرة بها قطعتان من الكيك الذي صنعته صديقتي وأرسلت بعضًا منه لي, لأنني تخلفت عن زيارتها, وكوب قهوة صنعته للتو قبل أن أبدأ كتابة هذه التدوينة. أنا أكتب الآن لأُطلع عزيز عمّا أشعر به الآن, لأنني لا أعلم حقيقةً إن كانت روحه تحوم حولنا كما صورت لنا أفلام هوليوود, أم إنها اتجهت إلى العدم حيث لا زيارات ولا استطلاع عن من تركوا في الوراء. وحتى الآن لم أحظى بزيارةٍ منه في أحلامي, أنا أعتب عليه, وعلى أحلامي, وعلى ذاكرتي إن كان قد زارني وهي تركت زيارته تمضي بدون احتفاء. حسنًا .. لا أعرف من أين المبتدأ يا صديقي .. لكنني أشعر بكم كبير من الطاقات الغريبة التي تعبرني, من المشاعر الثقيلة التي تفيض مني, بت لا أعرف كيف لي أن أتخلص من كل هذه الأحاسيس, وهي في نفس الوقت أحاسيس مجهولة, أشعر أنني أعبر أحراش غابة مخيفة .. لا أرى موطئ قدمي في أرضها. لا زلت يا صديقي أشعر بأن الله تركني, لكن شياطينه تلقفتني .. أشعر بوساوسهم وهمساتهم في أذنيّ ولا أجد الراحة. إنني في حرب عظيمة مع أصواتهم وسمومهم التي تُصَبَّ صبًا في عقلي, وفي كل ساعة حرب مع شيطان. ومن جهةٍ أخرى أشعر أنني الصندوق الأسود لكل معارفي. من كل جهة تأتيني شكاوى, من كل جهة تأتيني طلبات نصح, والجميع يتكلم وينفس عما بداخله, لكن لا أحد عنده أذن للاستماع. أشعر بالعجز, أريد أن أجد من يستمع إلي, أريد أن أتكلم, أصبحت نزقًا, أصبحت أبي. في كل مرة أقول سأوقفهم, أراهم مثلي لا يجدون أحدًا يتكلمون له. أمارس الشرود باحتراف, ولكنني لا أعلم حقيقةً إن كنت أمارسه أم هو من يمارسني, إذ أصبحت قليل الانتباه, سريع التشتت وفي كل كلمة أسمعها مشهد يسرقني من واقعي. ولا أشعر أنني أستحق أي فرصة جميلة في حياتي, أنت تعرف لماذا, وأنا كذلك, مهما حاول الجميع أن يثبتوا لي العكس, أنا لا أستحق حياة كريمة ومرفهة, اللعنة لا أستحق حياةً أصلًا. مرهَقٌ جدًا من كل ادعاءاتي بالفرح والضحك, منذ وفاتك ولم أعد لعادتي بالضحك ملئ رئتيَّ, مؤخرًا, لا أشعر إلا بالخزي, كيف لي أن أفرح وأنت ميت؟ هذا تساؤلي الأعظم الذي يشغل بالي كلما هدأت وسوسات شياطيني. 21/7/2019 هناك يوم يفصلني منذ آخر كلمة كتبتها هنا. في هذا اليوم الفاصل فقدت مقدرتي على الكتابة, وجدت أنني قد أفلست من بنك الكلمات التي كانت دائمًا تدور في ذهني, أم أنني لم أعرف كيف أن أعبر عما بداخلي, مثل عادتي .. عزيز, صدق أو لا تصدق, كنت قبل أقل من ساعة في ذكريات برنامج سنابشات .. هل تعلم أن في منتصف شهر مارس 2018 ذهبنا سوية لمدينة جدة. أنا أتذكر جيدّا عندما كنت أحثك أنت ونواف على أن نسافر جدة للاستجمام بعد عناءٍ طويل من الدراسة في المعهد. وأنني من حثك على تقديم موعد سفرنا ضاربين بالحصص والأيام الدراسية عرض الحائط. لقد سافرنا في يوم الاثنين 12 مارس 2018 بعد نهاية اليوم الدراسي وحصصك التعويضية, وبذلك كنا قد تخلفنا عن ثلاث أيام دراسية. أتساءل لماذا دائمًا أقول بأنني أصدق ما أشعر به, وفي نفس الوقت أتساءل لماذا لم أشعر برسائلك الوداعية. هل كنت تعرف أنك راحل؟ هل اخترت يومين من الغياب عن العمل والناس لتهيئ نفسك للوداع؟ ان كنت تهيئ نفسك .. لماذا لم تهيئني معك؟ لماذا تركتني أتخبط يمنة ويسرة؟ لماذا جعلتني أبدو في نظر الجميع القوي الذي لم يبكيك .. بينما تعلم جيدًا أنني هش جدًا وسهل الكسر والانحناء. هل تعلم أن الكثير من معارفنا وعائلتي تدور بيننا نقاشات كثيرة ومشاكل أكثر حول الشقة التي استأجرناها سوية. أمي وإخوتي يحاولون أن يثنوني عن السكن فيها. وأنا لا أريد إلا أن أسكن هناك, لأنها نفس الشقة التي اخترتها أنت وأنا لم أكن راضٍ عنها, لأنها نفس الشقة التي حصل خصام بيننا عليها, لأنك أردتها من كل قلبك. أخواني الشباب مثل عادتهم بدأوا يسببون لي المشاكل، إذ أصبحوا الآن يقولون لأبي وأمي أن أنتقل للدمام, عندهم. وأنا لا أريد ذلك, نفسيًا وجسديًا ولسلامة عقلي أيضًا لا أريد أن أسكن في منزل العائلة. لقد تغير موعد دوامي .. أصبح من الثانية ظهرًا حتى العاشرة مساءً, ومثل العادة, وضعوا فهد معي, لأننا نسكن بالقرب من بعض, لأذهب وأعود معه يوميًا. عندما أستلم مرتبي القادم, سوف أذهب لشراء مكيف لشقتي, أنت تعلم أنها بدون مكيفات, والأجواء الآن في الرياض عبارة عن حمم, لا يمكن العيش في هذه المدينة بدون تكييف. سوف أشتري مكيف واحد, وسأحاول أن أجعل من هذه الشقة بيتًا لي, بيتًا دائمًا لي. سأتعلم قيادة السيارة, كي أشتري لي سيارة مستعملة, لأن القيادة في مدينة مثل الرياض, هي شريان حياة, وأنا بدونها عاجز, لن أستطيع توفير قرش إن اعتمدت بالكامل على سيارات الأجرة أو شركات النقل أوبر وكريم, وأنا الآن في مفترق طرق, إما أن أعتمد بالكامل على نفسي, أو أنني سأكون لأبد الآبدين عالة على نفسي, وعلى غيري, وهذا أمرٌ مرعب جدًا بالنسبة لي. 24/7/2019 لقد قاطعني البكاء في آخر مرة كنت أكتب, لقد بت أبكي كثيرًا ودمعي مدرار. لقد سُئلت كثيرًا لماذا أبكي؟ سأجيبك أنت فقط, لأنك أنت يجب أن تعلم, أني أبكيك, لأنني لم أحزنك بالشكل الكافي, لم أستطع البكاء عليك في يوم وفاتك, لأنني كنت مصدوم ومذهول من هول الموقف, أنت الذي كنت تحادثني قبل ساعات, كنت أتوقع بأنه مغمىً عليك, أنك ستقوم لا محالة, أعتقد أنني لا زلت إلى الآن أشعر بأنك ستقوم من مرقدك لتعود لممارسة الحياة بطبيعية معنا. أنا أبكيك, وأبكيني, أبكيني لأنني أشعر بالوحدة, لأنني أشعر بالغدر, لأنني حزين عليك, لأنني أحمل حقدًا تجاهك, أبكيني لأنني مررت بتجربة قاسية, لم أكن مستعدًا لها, لأنني تعبت من تمثيل دور الشخص المؤمن بالقضاء والقدر. أنا لم أكن مستعدًا لفراقك, لقد خدروني بكميات كبيرة من "هذا وقته" و "محد يرد قضاء" و "الحمدلله على كل حال" و "افتك وارتاح من الحياة ما وراها الا وجع القلب". بكل بساطة يقولون كلامهم لي ويرحلون, لا يهتمون بما أشعر لا يعلمون عن مدى البراكين التي تفور وتغلي في صدري, لا يعلمون عن كمية الوحدة التي قذفت فيها, لا يعلمون عن مدى الوجع الذي يحتل قلبي, وعن أوصالي التي باتت لا تربت عليَّ. بكل بساطة يا عزيز أنا أصبحت جثة تعيش بين الأحياء, إذ لا المكان مكاني ولا الذين حولي يشبهوني. 26/7/2019 الساعة الآن 12:12 بعد منتصف الليل, أجلس وحيدًا في المنزل وجملة من رواية الطنطورية لرضوى عاشور تدور في رأسي منذ أن قرأتها. يقول الاقتباس: "أمسى البكاء مبتذلًا, لأن الدموع صارت تستحي من نفسها." وأشعر بهذا السطر يخترقني ويزلزل ما تبقى من عالمي, إذ مع إيماني بإسقاط الجملة عليَّ, إلا أنني لا زلت أشعر بأطنان من البكاء العالق في داخل حلقي, كومة مثل الحجارة التي لا أملك القدرة على بلعها أو لفظها .. أشعر بالابتذال عندما أتكلم عنك وعن مدى ضعفي وقلة حيلتي في تخطي موتك, إذ لا زلت أعيش نكرانًا عظيمًا, لا .. ليس نكرانًا, إنه رفض قاطع, آخ لو أن لنواميس العالم أن تتغير لمرة واحدة. تقتلني النظرات التي أواجهها من الجميع, وفي نفس الوقت لا أستطيع أن ألومهم, فكل شخصٍ هو ابن بيئته, ونحن أبناء التسليم والاستسلام, ويبدو أنني من شذّ عن هذه القاعدة. هناك تساؤلٌ يدور في ذهني منذ وفاتك, لماذا لا تأتيني في الأحلام, هو حلم فقط, لكنك بخيل الظهور, لا أنام يوميًا إلا وأنا أتذكر موقفًا ما, أتذكر يوم وفاتك, أتذكر لحظة خصام بيننا, كل يومٍ أتكلم مع نفسي, عفوًا أقصد أنني أتكلم معك, ولكنك لا زلت شحيح الظهور. ماذا تريدني أن أفعل لتأتيني؟ كل محاولاتي معك باءت بالفشل, إذ أنك في حياتك ومماتك صعب المراس. لقد آمنت بكل ما لا أؤمن به, آمنت بأنني لو أردت شيئًا وتمنيته من كل قلبي سيأتي, لكنك لم تزرني في منامي يومًا. ألشيء فعلته؟ أرجوك أن تخبرني. أشعر أنني متروك وغير مرغوب, لا أريد أن أشعر بذات الشعور منك أيضًا. 26/7/2019* الساعة الآن 3:39 بعد الظهر, كنت قبل قليل أقطع البصل لأنني أريد أن أطبخ البامية, هذا لا يهم, الذي يهم أنني مؤمن بالاقتباس الذي كتبته سابقًا من رواية الطنطورية, لكنني لا زلت أبكي, في حقيقة الأمر أنني لا أعلم هل كان البصل محرضًا لي, هل أبكي الآن بسبب البصل أم أنني أبحث عن فرص للبكاء؟ أشعر بتفاهة الأمور, إذ أصبحت الحياة بالنسبة لي لا تساوي شيئا, بدأت في فقدان شغفي في إكمال دراستي, هناك برود يسري في عظامي لكل شيء كنت أشعر بحرارة حماسته, أريد أن أنغلق على نفسي, لا أريد أن أذهب للعمل, للدراسة او حتى للقاء أيٍ من العالمين. أحمل في داخلي خوف عظيم, أخاف من المستقبل, من أصحابي, من أن أُترك وحيدًا, أريد لهذه المخاوف أن تتوقف وتختفي, أريد أن أقتلها. أخاف أيضًا أن تحقق هذا المطلب لا يكون إلا بموتي. لا أريد أن أموت. 27/7/2019 بالأمس راسلتني الأديبة فوزية أبو خالد, قالت لي بأنها تعاقدت مع دار نشر مهمة لنشر كتاب بعنوان سيرة الأمهات, ورشحتني ضمن مجموعة من الشباب والشابات لكتابة سير عن أمهاتنا لا تقل عن 700 كلمة ولا تزيد عن 1500. كنت قبل قليل أستمع لمقابلة مسجلة لي مع أمي لأنني أردت أن أكتب سيرتها في شخصية روائية, لكنني أرى الآن أنه أنسب وقت لأكتب أمي, لأكتبها حقيقية بلحمها ودمها بدلًا من شخصية متخيلة. المضحك في الموضوع أنني في هذه الرسائل التي أكتبها لك قد تعديت 1500 كلمة, أجد صعوبة في تحويل المقابلة المسموعة لنص مكتوب, مثل صعوبة ترجمة مشاعري هنا. 15/8/2019 تسعة عشر يومًا مرت منذ آخر مرة كتبت لك هنا, لم يحصل أي تطور في حياتي, كل ما كتبته عن خططي لهذا الشهر, لم أفعل منها أي شيء, أعتقد أنني أكثر خوفًا من العيش وحيدًا. أنا خائف من أن أكون وحيدًا, الأصوات التي في رأسي, وإن هدأت فإنها تسبب لي رعبًا أكثر, أخاف كثيرًا من أن تكون هادئة لأنها ستعصف قريبًا. أحتاج للذهاب لطبيب نفسي, أحتاج أن أعرف كيف أتكلم, كيف أنفِّس عن هذه المشاعر, لا أظن أن للكتابة أي أثرٍ إصلاحي لحالي, لا زلت مكتئبًا جدًا, ولا أجد الأدوات اللازمة لمحاربة هذا السواد, ضوئي خافتٌ جدًا .. أشعر بأيامي تمر أمامي بانسيابية الماء الجاري في إناءٍ من عدم, وأنا أقف وقوف العاجز عن فعل أي شيء لمداراة سنينه التي باتت تختفي .. كأنها أوراق شجرةٍ نال منها اليبوس, إلا أنني لا أمر في خريف, ولا من عودة لربيع مرةً أخرى. 18/8/2019 لقد بدأت مؤخرًا في فقدان إيماني .. لم أعد أجد مغزىً من الإيمان بأي شيء, بينما كل ما حولي آيلٌ للسقوط, بدايةً من عالمي الذي كلما حاولت أن أبنيه والذي لا يفتأ من السقوط مرةً بعد أخرى، منذ فناء المثالية والعالم الأفلاطوني, حتى الأحلام الوردية الخالية من المشاكل, أرى كل مخططاتي تتشرب الرطوبة, بدأت تتعفن أمام ناظري, والعطب يسري منها لكل خلاياي. لم أفعل أي شيء لأتلافى هذه الخرابات المتسرطنة, لقد بدأت بالتفشي, وأنا أستسلم, إذ في نهاية الأمر يبدو أنني ابن بيئتي, ابن التسليم والاستسلام. لم أشذ عن هذه القاعدة العظيمة, لا يوجد أي شيء مميز فيَّ, لست رسولًا ولا منبئنًا, أنا مجرد إنسان انهزامي مستسلم لا أثق في نفسي كيف بالآخرين والرسائل السماوية؟ مجرد بشري وجِد وسيذهب بكل هدوء, لا يعرف كيف يداري هذه الفجوات التي في روحه, هذه الشقوق التي يتسرب منها كل إيمانه, بدأ يفقد نفسه مع مرور هذه الخمس وعشرين سنة. قد تكون هذه رسالة انتحاري إن لم تتسرب وتختفي شجاعتي التي لا أعرفها, وقد تكون سطورًا أخرى في هذه اليوميات التي أكتبها. لكنني فقدت إيماني في الحقيقة, وفقدت إيماني في لقاءك, لست أدري إن كان هنالك حياة أخرى, لم أعد أعرف ولا أؤمن بشيء, لقد كان مريحًا جدًا أن أفكر أنك في مكانٍ أفضل, لكنني بت أعتقد الآن أن هذه خرافات هوليودية اخترعوها كي يستطيعوا المضي قدمًا في حياتهم, لأننا ننسى, ونحاول أن نجد مبررات لنسياننا. 4/9/2019 لم أودعك. لا أعلم لماذا بالتحديد، لكنني أعلم أنني لم أودعك. كنت نائمًا في سريري مثل جثة، نوم بلا أحلام، بجانبي كلبي. كنت أحاول أن أقنع نفسي أن الفيضان الذي في شقتنا، سببه تسريب ماء من المطبخ أو الحمام وأننا لسنا بحاجة لتدخل حكومي، بل نحتاج لسباك. لطالما كنت فاشلًا في الكذب، وقد أكون فاشلًا في الكتابة لذات السبب. لم أقتنع بكلامي، لأن حمامنا مغلق من الداخل والمطبخ جاف تمامًا لارتفاعه عن باقي أجزاء البيت، لأن الماء في الأرض يغطي القدم بالكامل مع جزء لا بأس به من الساق، لأن كل غرف المنزل تفيض ماء. قلت لك قبل أن ألعب دور الجثة "عن إذنك" لكن هذه الكلمات لا تعتبر وداعًا، لم أحضنك بالطريقة المناسبة، لم أقل لك ما كان يجب أن أقوله منذ مدة. هناك تأنيب في قلبي لأنني كنت نائم، بينما أنت كنت تنازع في الحمام، أنا كنت نائمًا تمامًا ويا ليتها كانت النومة الأخيرة. لم أزرك. لا أعلم لماذا لم أذهب للمقبرة لزيارتك. أنا أخاف أن أزورك، أخاف أن أفقد أعصابي وتتملكني الرغبة في لكمك. لقد تعاهدنا في مرات كثيرة ومناسبات عدة أننا سنفعل كل شيء سوية، سنكمل دراستنا، سنسافر لنستكشف العالم، وقد كنا قد بدأنا في إجراءات تغيير منزلنا. لقد خنتني، هذه طعنة في ظهري، لقد التزمت بكل معاهداتنا، وأنت الآن ميت، لقد انسحبتَ من كل مخططاتنا، تاركًا إياي وحيد. لازلت بعد خمسة أشهر أشعر بنفس الخواء في صدري، كأن الحياة الآن بالنسبة لي تحصيل حاصل، لقد وُجِدت فيها، إذًا سأمارس تنفسي كما يجب، لكنني ميت من الداخل. يقولون لي بأنني قوي جدًا لأنني لم أبكِ في يوم وفاتك، لست قويًا، كنت أشعر أن الماء في الأرض هي دموعي وجفاف حلقي، كنت مفجوعًا من هول الموقف، لم أرى في حياتي جثة، لكنني رأيت جثتك يا صديقي، كنت مستلقٍ على الأرض، تنظر في الفراغ، وفي عينيك وسع العالم، كانت الحياة تتقطر من أنفك على هيئة دماء، فاتحًا فاهك باتساع. لقد كسرتُ قلبي عندما كسرنا الباب عليك، فزعت عندما رأيتك عارٍ، لحفتك ببطانيتي كأنك طفلي الذي اعتراه البرد بقسوة، لم أكن منتبهًا لموتك، لأنني كنت أحاول أن أقنعني مرة أخرى بأنه مغمًى عليك، وأنك قائمٌ لا محالة، لم أعر أي اهتمام للزبد الذي كان يفور من فمك، نوبة صرع، هذا ما كنت أقوله لنفسي، أنت لست ميتًا أنت لست ميتًا لماذا يقولون لي بأنك ميت، ستقوم، ستذهب للمشفى وستعود مرة أخرى. ولكنك لم تعد. لقد وضعتك على جانبك الأيسر،أو الأيمن لا أتذكر بالضبط، لأن جاري قال لي أن أفعل ذلك لتخرج كل الزبد ولا تختنق به، جاري الذي كذب عليّ لأنه لم يكن يريد أن يقول لي بأمر وفاتك وأنا بهذه الحالة. لحظة، ألم يقولوا لي بأنني كنت قويًا؟ أنا لست قويًا، أنا هش وقابل للكسر، وموتك كسرني، كلما حاولت أن أجمعني أجدني مشوهٌ جدًا، هناك أجزاء كثيرة مني قد دفنت معك، لم يبقى لي سوى ذاكرة مليئة بالصور الفجة، ودموع لا تنضب. لقد أبقيت أكثر الأشياء التي كنت تستخدمها، أبقيت نظارتك، وسماعتك البلوتوث، لأنني أخاف أن أنساك، وأنت تعلم مدى خوفي من وحش النسيان الذي يأكلني. أعتقد أن وحش النسيان أنا من صنعه، لأنني بنيت صندوقًا أحتفظ فيه بكل ذكرياتي التي أريد أن أنساها أو التي سببت لي رعبًا لمدىً طويل، يبدو أن هذا الصندوق بات يتحكم في نفسه، لأنني صرت أنسى كثيرًا، لقد صنعت وحشي الذي سيظل يلاحقني مدى الحياة. أشعر بالوحدة، لأن الزمان الآن ليس زماني، ولا المكان يمت لي بأي صلة، هناك انهيارات تحصل لي، في شخصيتي، في اجتماعيتي، في مقدرتي على بناء صداقات جديدة، لقد بت لا أعرف كيف أغيّر من نفسي، ولا أعدل منها، أشعر بأنني أفقد أصدقائي الواحد تلو الآخر. هناك شعور بالابتذال يغزوني عندما أحاول أن أجمع شتات ما تبقى من حياتي، حياتي التي باتت لا تساوي شيئًا، لا أريد إلا أن أحافظ على ما تبقى منها، أريد أن أعقد صفقة مع شياطيني لأستطيع ممارسة حياتي بطبيعية. 11/9/2019 اليوم قمت بتركيب المكيف الذي كنت أتعذر دائمًا بعدم المقدرة على شراءه، اليوم بكل فرح حزين، قلت للجميع وأخيرًا أصبح لدي مكيف في شقتي، لقد اقترب موعد رحيلي واستقلالي عن حسن، حسن الذي عشت معه ستة أشهر بكل راحة، لم يكن يشعرني بمدى ثقلي، أنا كالطفيلي. كنت أتحجج بأنني لا أستطيع شراء مكيف لأن المكيفات غالية، غالية علي وراتبي ليس حفنة من الريالات، كنت أتحجج بهذه الحجة الواهية وأنا أعلم في قرارة نفسي أنني أتهرب من السكن في الشقة، لأن عزيز ليس معي، لأنني لا أريد أن أبقى فيها وحيدًا، وأنا أعلم أنه كان يريد هذه الشقة وقد اختارها بنفسه، إذ يبدو أنني لست طفيليًا فقط، أنا تابع. أشعر بالعجز، هناك أيادٍ خفية تكتّفني، تمسكني من حلقي، تخنقني، تحد من حركتي، أشعر بعدم رضا عزيز عني، ويقتلني شعوري بعدم رضاي عنه. أخاف أن أصاب بالجنون، لا أريد أن أسمع أصوات شياطيني، تحادثني بكل وحشية، تجعلني أبدو بمنظر غريب، لقد اتهمني مرة أحد الأصدقاء بأنني أكون سعيدًا جدًا عندما أكون غريبًا في نظر الآخرين! هناك الكثير من الأمور غير المنتهية فيما بيني وبين عزيز، هناك الكثير من الأشياء التي لم أقل له عنها، المضحك المبكي أنني قبل أن يتوفى كنت مستعدًا جدًا لمشاركته الكثير من المواقف التي كونتني الآن بالشخصية التي ينتقدها. كنت مستعدًا أن أعرّي الكثير من الطبقات التي كنت قد كومتها أكوامًا فوقي والكثير من الجدران التي بنيتها على مدار السنين. لكن الموت كان ينتظرني ليكسرني، ليحطم كل استعداداتي التي أمضيت ثلاث سنين أتهيأ لها، يبدو أنني أصبحت منسيًا من خانة الراحة، لم يتم إدراج اسمي ضمن هذه اللائحة، هناك لسعة في قلبي من هذا الموت، لا أريد أن أعمق علاقاتي بالبشر، أخاف هذا الشعور، إن مررت به مرة أخرى سيقتلني، لا أعرف كيف أعالج هذه الثغور التي أشعر بها في قلبي، لا أعرف كيف أرمم هذا الحطام الذي خلفه موت عزيز، أنا كومة من حطام مترامية على بعضها البعض، تؤلمني حنجرتي من كميات البكاء التي أكبحها، أسناني تؤلمني من الضغط المتواصل على فكي، جسدي بدأ يتداعى، أشعر بي أهوي في حفرة عملاقة بلا نهاية. 16/9/2019 أستطيع أن أشبه ما أشعر به بهذه الحالة: مثلما أكون في منزل ممتلئ بالأطفال، الكثير من الإزعاج والضوضاء وضيق الخلق والتأفف من هذه الأصوات الملحة والتي تطالب بأمور تافهة، مثلما أكون جالسًا في منزلي الذي يتحول لكرنفال بوصول كل الأطفال، وأقصد بالأطفال من بدايات المشي والنطق وحتى أطفال الخمسين والستين من العمر ومحاولاتي السياسية البائسة للوصول لنقاط سلام وسطية. من محاولاتي كوسيط صلح بين الأولاد والبنات، بين الأشقاء على جهاز البلاي ستيشن، بين الأقارب والمناكفات فيما بينهم، عن كل تصرفات المهرج التي أتبناها لإلهاء طفل ما عن شيء يغضبه. وفي ليلة يلملم الأهل حاجياتهم، يأخذون أطفالهم مغادرين المنزل للعودة لأشغالهم ومواصلة حياتهم، ويرموني في عزلة موحشة، أصبح فيها مثل غرفة فارغة يتردد فيها صوتي بحزن، لا يوجد فيها أحد سواي وقلبي المجروح في وحدته، يصبح الوقت فيها ثقيلًا، وكل ما أفعله يتسم بلزوجة وكثافة مقيتة، تدور فيها أفكاري في فلكٍ ضيق ويضمحل ما تبقى لدي من خيال، أسترجع كل الذكريات، لدرجة التشوش فيها، تتسع مساماتي لتبتلعني، لا تبقي مني أي شيء. هذا ما أشعر به منذ وفاة عبدالعزيز. هذا أقرب مثال قد يتوازى مع شعوري، أنا هذا المنزل الذي مات باختفاء الأطفال. 4/10/2019 قد يكون هذا اليوم الأكثر ظلمة في حياتي، لا أشعر بشيء، هناك نوع من الجمود والخدر الذي يسري في عروقي. أصبحت لا أشعر بأي شيء، عدا الحزن، ولا أستطيع أن أعبر ع��ه ��أي شكل من الأشكال التي كنت مقتنعًا بها كوسيلة تعبير. لا أعرف كيف أتعدى هذه المرحلة .. أريد أن أشعر مرةً أخرى، أن تأخذ كل المشاعر مساحاتها الخاصة وحالاتها التي تستطيع بها الخروج على السطح، تعبت من مقبرتي الخاصة التي أدفن فيها نفسي ومشاعري. أريد أن أتخلى عن كل شيء، أن أبقى وحيدًا مثل شعوري، أن أستدعي موتي الخاص، أن أموت. 3/4/2020 شهر أبريل من أصعب الشهور، وأكثر الشهور التي أشعر فيها بالوحدة، الجميع من حولي يبدون سعداء، وأنا قابع في الظلام الذي يسكنني. بعد أيامٍ قليلة سأكمل السنة منذ اللحظة التي أغمضت فيها عينيك. هناك خدرٌ يسري في أطرافي كلما تذكرتك، أشعر بهدوءٍ لا يشبه السكينة. سأكمل عامًا كاملًا وأنا أحمل صداقتك معي مقارنًا بها الجميع، محاولًا خلق صداقة تشبه صداقتك. لم أنجح حتى الآن في ذلك. 10/4/2020 خمسة أيام تفصلني عن ذكرى وفاتك .. لا زلت أشعر بذات الشعور، لا أستطيع أن أحدد مصداقية الحياة وأحقيتي بعيشها، مثل جناح بعوضة تحملني الأقدار بين أناسٍ أكاد لا أعرفهم. منذ ذاك اليوم وأنا أحاول أن أتخيل هل سأكون صامدًا متماسكًا أم أنني سأتلاشى وأتشظّى لقطعٍ صغيرة .. أصبحتُ شخصًا غير مرئي، لا أراني بين العالمين، رغم محاولاتي في الوجود .. إلا أنني أستمر بالتلاشي مرةً بعد مرة .. كل ما أقوله مثل الهمسات الغريبة التي لا تُعطى أي بال. خمسة أيام تفصلني عن تخيلاتي الغريبة التي أحملها في عقلي .. هل سأكون مجيد الذي كان أم أن لموتك تأثير عليّ. *********************************************************** 12/4/2020 لا أدري إن كانت هذه الكلمات هي ختام ما سأكتبه لك, أو عنك, لكنني أجد قصورًا حادًا في الإفراج عن مشاعري, ربما لأنني تعودت كبحها في داخلي, فتأبى الخروج للنور دفعةً واحدة, ربما لأنني لا أعرف كيف أكتب الكلمات مرة واحدة, لذلك ربما سأحتاج لسنة أخرى .. لا أعرف إن كان هنالك أي ضوء في نفقي, لكنني أسير فيه, بكل ما لدي من رغبة في المواصلة. سأتوقف الآن عن الكتابة, حتى الأربعاء القادم 15 أبريل 2020 , لأضع كل ما كتبته في مدونتي .. سأحاول أن أجعل منك ذكرى طيبة, وأجمع كل ما تبقى لدي من حياة لأعيشها. نور ورحمة يا عزيز .. نور ورحمة.
5 notes
·
View notes
إيمانٌ ناقص
نمشي في طرق غير ممهدة, فاختياراتنا دائمًا في نظرنا غير صائبة, هل هو شعور بالنقص؟ العجز؟ أم هو أسلوب حياة؟
نحاول دائمًا أن نقيِّم هذا الاعوجاج الذي ما ينفك أن يزيد اكثر فأكثر, لكننا في نهاية الأمر لا نستطيع.
لماذا؟ هذا هو السؤال المطروح ببجاحة أمام أعيننا .. هل العيب فينا أم أنه في الأقدار التي تسير وفق منهجٍ موضوعٍ لكسرنا وبعثرتنا؟
إن كان جوابك أنه القدر, وأنك مهما حاولت مخالفة سيله الهادر بلملمة نفسك ووضع غراء القوة عليك, يهزمك مرةً أخرى ..
فأعتقد أنك هنا وصلت لطريق مسدود .. فالطريق المسدود يخبرك بأن تحاول مجددًا طريقًا آخر غير الذي سلكته ..
أعتقد أن أسهل الحلول المتوفرة أمامنا هي اللوم, وبالطبع اللوم لن يكون علينا, فنحن في النهاية أناسٌ صالحون, ولا ندري لماذا نحن مهزومون في هذه الحياة.
فكر مرة أخرى, حاول مراتٍ أخرى, خذ الفكرة نفسها, وانظر لها من زاويةٍ أخرى, جرِّد نفسك من الملائكية, وانظر لنفسك بالعين اللوامة لمرةٍ واحدة, ستجد أن الطرق كثيرة لمواجهة الفشل, الانكسار, والحزن الذي يلازمك.
فلتؤمن بنفسك بأنك إنسان, ومن حقك أن تخطئ, لكن إن كنت لا تعترف بخطئك فأنت مؤمن نصف إيمان.
نحن موبوءون بأنصاف مجوفة وخالية, إيماننا بأنفسنا مجوف لأننا لا نؤمن بالجزء السلبي فينا, لكننا معجونون بالصواب وماء الخطأ, وكلنا نمتلئ بثقوب الأخطاء, الأغلاط, والآثام, لكن ليس من حقنا أبدًا تصنع المثالية, وادعاء الشخصية الأفلاطونية, فالتصالح مع أنفسنا هو المحفز الأول والرئيسي للمواصلة.
نعم أتفق أن هذا العالم محبط, وقد لا أكون الشخص الأكثر تفاؤلًا هنا, لكن الحقيقة تقال, إن كانت كآبة هذا العالم خانقة, فسأصنع لنفسي ريحًا أتنفسها, سأخلق من أصغر الثقوب عالمٌ أتقو��َى به على هذا العالم الذي يكبلني, وسأحاول أن أتعايش مع أخطائي التي رسمت بها طريق حياتي, ففي النهاية هذا دربٌ أنا عبدته بإرادتي.
لكن كلما اختبأت أكثر خلف جدران الحياة, وكلما رضخت لسطوة الهزيمة ستكون مارًا مرور الكرام وستكون نسيًّا منسيَّ.
العالم سيمضي, ولن يتذكرك الناس وأنت تختبئ خلف طرقٍ مسدودة متذرعًا بأن الأقدار هي من وضعتك خلف هذا الجدار.
نعم هذا أمرٌ صعب, صعبٌ جدًا لكنه ليس مستحيل, تسلّح بالعقلانية اللازمة والكافية لوضع قراراتك تحت الضوء, ففي النهاية كلنا نحتاج البصيرة التي تقينا ألم القرارات غير المدروسة.
ضع عقلك وقلبك تحت المساءلة وابدأ في حساب قراراتك, ستعرف في النهاية مكان الوجع, لتبدأ عندها مرحلة العلاج, مرحلة التدقيق والصواب, وعندها فقط ستجد أن الطرق غير الممهدة, تفتح طرقًا جديدة, وأن إيمانك الناقص امتلأ, وأنك إنسان كاملٌ بثغراته وهفواته التي لم ولن تفتأ بالظهور من وقتٍ لآخر.
عبدالمجيد الصيعري
1 note
·
View note