lostinkotoba
4 posts
Don't wanna be here? Send us removal request.
Text
من أجل تلك اللحظة - مييكو كاواكامي

كان أحد أقاربي البعيدين مصابًا بالعمى. كبرت ولم نتقابل سوى بضع مرات، ولكننا قضينا سويًا نصف يوم في حفل تأبين منذ ما يتجاوز الثلاثين عامًا.
كان شخصًا لطيفًا دمث الخلق، يلاعب الأطفال الضجرين، قائلًا لهم: "صحيح أني لا أرى، ولكن احملوا إلي أي شيء تحبونه، وسأحاول تخمين ماهيته".
وكأنها مسابقة، كان الأطفال يحملون كل ما تقع عليه أيديهم، من أكواب الشاي والأقلام وقصاصات الورق واللعب، وحتى الأغراض المتنوعة في حقائب أمهاتهم، ثم يهللون للعم الذي كان يجيب الإجابة الصحيحة بلا لحظة تردد. كان هذا وقتًا ممتعًا، لكنه لم يغادر بالي بعدها لمدة. لم يكن الأمر يتعلق بالعم بقدر ما كان متعلقًا بما كان يراه.
أخبرتني أمي أنه مرض ففقد بصره. عندما سألتها إن كان العمى يعني الوجود في عالم بلا نور، صدَّقت على كلامي. صحيح أن العم لا يرى الآن، لكنه كان يرى في فترة ما، أي أنه يعلم ماهية النور، ويمتلك ذاكرة عن النور. لو كان لي أن أقابله ثانية، لكان هناك ما أود أن أسأله عنه. إلى أي مدى يختلف النور الذي في ذهنك والنور الذي نراه؟ أو كم يتشابهان؟
في النهاية، لم يتسن لي سؤاله عن الأمر، ولكني من وقتها، قبل أن أنام بالليل وبعد أن أغلق جفوني في قلب العتمة الممتدة، صرت أستدعي نور الصباح مرارًا وتكرارًا.
كنت أود أن أعرف بأي وسيلة كيف وإلى أي مدى كان النور الذي في ذاكرتي يضيء الظلام من حولي.
مر الوقت، وصرت روائية، وكتبت رواية "حكايات صيفية". تتناول الرواية بشكل أساسي أخلاقيات الإنجاب، كما تتحدث عن النسوية والفقر واللاإنجابية، وقضية الطبقية، وتتمحور حول علاقة نساء من ثلاثة أجيال وأحاديثهن.
رغم وجود قواسم مشتركة بيني وبين ناتسوكو البطلة (كنشأة كلتينا في منزل فقير في أوساكا، وكتابتنا للروايات)، إلا أن ما هو خلاف ذلك من العناصر خيال بالطبع. إلا أن هناك جزءًا واحدًا من القصة كتبته من تجاربي ومشاعري الخاصة كما هي، وهو كل ما يتعلق بمشاعر ناتسوكو تجاه جدتها التي ربتها.
توفت جدتي في مطلع صيف عام 2019. ربتني جدتي كما لو كانت أمي، وحمتني من شتى الأشياء. كنت وأنا طفلة أخشى موت جدتي، وأبكي ما إن تستحوذ علي خاطرة موتها المحتم. كانت جدتي طيبة، كما أن وجودها كان تقريبًا السبب الوحيد الذي جعلني قادرة على عيش طفولتي.
مضى عام ونصف على وفاة جدتي، وهو ما كنت أخشاه منذ تفتح وعيي على هذا الدنيا، إلا أني ما زلت مضطربة من الأمر. عندما أنظر إلى الصور، أبكي. ماتت جدتي بالشيخوخة. عاشت حياة مليئة بالصعوبات، إلا أنها تقدمت في العمر حتى وصلت إلى السابعة والتسعين دون أن تصاب بمرض خطير. في نهاية المطاف، لم يكن لها أن تحظى بنهاية أفضل من تلك.
يحيا في هذا العالم من داهمهم الموت وفرق بينهم وبين عزيز لهم، ومع ذلك تمكنوا من المضي قدمًا. إلا أنني عندما أفكر في أني قضيت معها وقتًا طويلًا حتى شهدت وفاتها بنفسي، أشعر بأنه لا يحق لي أن أحزن أو أبكي. في الواقع، لا أعرف لماذا ما زلت حزينة. ربما تكون هذه طريقة غريبة لوصف الأمر، ولكني أشعر أن أنا الصغيرة لا البالغة، تلك التي تخاف أن تموت جدتها، ما زالت موجودة في مكان ما بداخلي، وأنها هي التي وراء هذا الشعور.
منذ طفولتي، كان وجهي وتكويني الجسماني يشبهان جدتي كثيرًا، إلى الحد الذي يجعلني أتذكر جسد جدتي عندما أغير ملابسي وأنظر إلى النصف السفلي من جسدي. أُزيلت الحقنة الوريدية المستخدمة لحفظ الحياة بناء على قرار مني، وقضينا ليلتها الأخيرة سويًا بمفردنا في غرفة المستشفى.
بينما أتأمل شعلة الحياة وهي تنضب في جسد جدتي شيئًا فشيئًا، أخذت أدلك لعدة ساعات جبينها وذراعيها وفخذيها الذين تغير لونهم نتيجة وضعها للمحلول. أخذت أشكر جدتي على كل ما قدمته لي وأنا أتحسس جسدها الذي أصبح دافئًا وما زال الدم يتدفق فيه، ولكني لم أكن أعرف ما يتعين علي القيام به حين أفكر في أنه في غضون بضعة أيام، سيحترق جسد جدتي الموجودة أمام عيني الآن، ثم يتحول إلى رماد ويختفي تمامًا.
كانت آخر مرة تحدثت فيها مع جدتي وهي واعية قبل أسبوعين من هذا الوقت. ضحكنا سويًا، والتقطنا الصور، ولوحت لها قائلة إني سأعود ثانية، ثم أغلقت باب ال��رفة، وكانت تلك هي المرة الأخيرة. لا تزورنا النهاية دائمًا متسربلة بهيئة النهاية.
ندرك فقط بعد مضي الأمر برمته، أن تلك كانت المرة الأخيرة. بالطبع أفهم هذا، ولكني أحيانًا أتساءل لو كان بوسعي أن أخلق "مرة أخيرة" مختلفة عن تلك. لو كنت جئت لزيارتها في اليوم التالي.. لو كنت جئت لتفقد حالها.
يا ترى كم مرة ستتكرر تلك "المرات الأخيرة" التي لن أعرف بها حتى أنظر للوراء؟
كنت أستحم دومًا مع جدتي، وكان ينتشر على جسدها بثور دموية كثيرة. كنت أخشى وأنا طفلة أن تنفجر البثور ويخرج منها الكثير من الدم فتموت جدتي، لذا كنت أرجوها أن تلصق عليها كلها ضمادات، فما كان منها إلا أن تضحك وتخبرني ألا أقلق. ما الذي يعنيه حقَا أن نتذكر الذين رحلوا؟ وأن نتذكر الأحاسيس التي تخفت؟
أجد نفسي أفكر في تلك الساعات التي كنت أدلك فيها ذراعي جدتي وساقيها طوال الليل والنهار والظهيرة. وقتها، كان جلد جدتي دافئًا، وكانت لا تزال على قيد الحياة، وكنت بالطبع ألمسها. لكنها الآن رحلت ولا يمكنني لمس جلدها مرة أخرى.
أفكر في هذا الأمر، كما أفكر في النور الذي كنت أتخيله في قلب العتمة وأنا طفلة. أفكر في النور الذي ربما كان قريبي الذي فقد بصره يتذكره. هل يختلف هذا عن رؤية النور؟ هل تذكُّر ملمس جلد جدتي الذي لم يعد بإمكاني لمسه يختلف عن لمسها؟
أن تكون قادرًا على لمس أحدهم، وأن تصبح غير قادر على لمسه. أن يكون أحدهم على قيد الحياة، وأن يموت ويصبح غير موجود. أن تلتقي بأحدهم في الحقيقة، وأن تلتقي به في الحلم أو الذكريات. النور الماثل أمام العينين، والنور القابع في الذاكرة. ما هو الفرق الحقيقي بين هذه الأشياء؟ هل لا نستطيع لمس من ماتوا حقًا؟ هل لا يعود النور الذي فقدناه ثانية؟
ماذا لو كان هناك عالم هم فيه كما هم، ونحن فقط الذين لا نستطيع الوصول إليه؟ لا أدري. لكن حتى لو لم يكن هذا العالم موجودًا، وحتى لو لم نستطع الوصول إليه، أعتقد أن هذا هو السبب وراء كتابتي للقصص؛ لأخلق لحظة.. ولو حتى واحدة فقط، نستطيع خلالها أن نصدق من أعماقنا أن كل هذه الأشياء ما زالت كما هي.
0 notes
Text
اللهو وحيدة في جوف الليل - ساتسوكي فويوبي
أمسياتي طويلة.
الكاميرا الثابتة الموجهة نحو البحر تلتقط في هدوء الأمواج المتدحرجة. الرذاذ الأبيض والنور الأصفر يمتزجان ثم يتلاشيان بسلاسة. بَثٌ من هاتشيجو-جيما، جزر إيزو. أستلقي على السرير محدقة في التلفاز. الوقت المعروض على الشاشة لا يعبر عن الوقت الراهن. في الليالي التي يجفوني فيها النوم، أعيد أحيانًا مشاهدة الإذاعات التلفزيونية التي سجلتها في الأيام العاصفة. الجو خارج النافذة هادئ لا نسمة هواء فيه.
يعقب بث البرامج الأرصاد الجوية العالمية وإعلانات التسوق التلفزيوني التي يتكرر محتواها المرة تلو الأخرى. كلها أشياء بعيدة عني كل البعد، لذا فإنها قطعًا لن تجرحني. لا أستطيع دائمًا أن أتكشف على الملإ هكذا، ولكن حين أكون وحدي في جوف الليل، يشعرني هذا بالأمان.
عندما أكون شاردة الذهن، أتسلى برسم خطوط نازكا[1] على فخذي بقلم الحبر الجاف. يُقال إن كلمة "نانازكا" التي هي أصل "نازكا" تعني "قاسية أليمة". بينما أحول جسدي إلى أرض نازكا، تتوسع الخطوط شيئًا فشيئًا. أما بالنسبة لخطوط نازكا الحقيقية، فهي معرضة لخطر الزوال. إن اختفت تلك الخطوط بالكلية يومًا ما، إلى أي مدى يا ترى ستتلاشى حقيقة أنها كانت موجودة هناك.. وأن هناك من قام برسمها؟
تجاوزت الساعة الثالثة صباحًا، خطر على بالي فجأة أثناء شربي للبيرة أن أعد الحلوى. سأعد شيئًا سهلًا لا يتطلب سوى المزج والخبز. شعرت بأن السحر الذي يغلف الأجواء سيزول إن طلع الصبح وأنا ما زلت أخبز، فأسرعت بإدخال الحلوى في الفرن. بعد أربعين دقيقة، نِمت أخيرًا ورائحة الحلوى تغمر المكان بأسره.
في طفولتي، كنت أعتقد أن السهر امتياز يستأثر به البالغون. لكن عندما أنظر إلى الأمر الآن، أرى أن على البالغين أخذ مسئوليات اليوم التالي في عين الاعتبار، والنوم في الساعات المخصصة للنوم. ربما تسلية نفسي في جوف الليل هو بمثابة تمرد بسيط ضد أن أصير بالغة.
ما إن أحلم قليلًا فقط، حتى تحل ساعة الاستيقاظ. أبدل ملابسي وعيناي مغلقتان، وأغلف الحلوى التي بردت لتوها بورق الألومنيوم وأنا لا أزال غافية، ثم أضعها في الحقيبة لآكلها وقت الغذاء. أخرج من المنزل فتغمرني أشعة الشمس، ثم آخذ نفسًا عميقًا لأغير به حالتي المزاجية تمامًا.
في طريقي إلى المحطة، أمر بأناس بتعابير وملامح شتى؛ بعضهم متزن هادئ، وبعضهم يبدو وكأنه لا يزال نائمًا، وآخرون سهروا على الأرجح، يبدون وكأن الصبح لم يطلع عليهم بعد.
أما بالنسبة لي، فأتذكر وأنا في القطار الخطوط الأرضية على أفخاذي فأشعر بأن ضحكة ستعلو وجهي. وبهذا، أحمل بداخلي ليلي الخاص بي وحدي، وأنزل من القطار متجهة إلى العمل.
[1] مجموعة من الرسومات الهندسية الضخمة الموجودة في الصحراء في جنوب بيرو.
0 notes
Text
يوميات الكرب - أوسامو دازاي

يوم/ شهر/
هناك من ألقى بثعبان حي في صندوق بريدي. حنق. هذه بالتأكيد فعلة شخص يستهزئ بالكتاب المغمورين الذين يتفقدون صناديق بريدهم عشرين مرة باليوم. تعكر مزاجي. طريح الفراش طوال .اليوم
يوم/ شهر/
"رسالة من صديق، يقول لي فيها: "لا تجعل من عذابك سلعة
يوم/ شهر/
.صحتي سيئة. أسعل دمًا بصورة متكررة. أبلغت أهلي لكنهم لا يصدقونني
.في ركن من أركان حديقتنا، تفتحت أزهار الخوخ
يوم/ شهر/
يقولون إن التركة كانت تبلغ مليون وخمسمائة ألف ين، ولكن قيمتها الحالية مجهولة تمامًا. اسمي محذوف من سجل العائلة منذ ثمانية أعوام. تمكنت من العيش حتى اليوم بفضل أخي الأكبر. ماذا سأفعل من اليوم فصاعدًا؟ لم أتخيل -ولا حتى في أحلامي- أن أستطيع تدبر نفقات معيشتي. إن استمر الحال هكذا، فلا طريق أمامي سوى الموت. قمتَ في هذا اليوم بأعمال قذرة، فانظر إلى حالك.. كاتب فاشل حقير.
.زارني السيد كازؤ دان. استلفت من السيد دان أربعين ينًا
يوم/ شهر/
تنقيح مسودة المجموعة القصصية "خريف العمر". يخطر فجأة على بالي تساؤل.. هل ستصبح هذه المجموعة عملي الأخير يا ترى؟
.نعم، تقرر الأمر
يوم/ شهر/
ما عدد الذين لم يتحدثوا عني بالسوء هذا العام؟ ثلاثة أشخاص؟ أقل؟ معقول؟
يوم/ شهر/
.رسالة من أختي الكبرى
" استلم العشرين ينًا التي أرسلتها لك. طلبك المستمر للمال يسبب لي المتاعب. لا أستطيع حتى أن أخبر أمي، وبهذا يقع العبء كله علي ويثقل كاهلي للغاية. ليست أمي هي الأخرى حرة نفسها فيما يتعلق بالمال. (...). يجب عليك ألا تهدر المال، وأن تكون أطول بالًا عند التعامل معه. تحصل الآن على قدر -ولو بسيط- من المال من شركات طباعة المجلات، أليس كذلك؟ اقتصد في استخدامه بكل ما تستطيع، ولا تعول على الآخرين. انتبه لصحتك ولا تخرج كثيرًا مع رفاقك. طمنَّا عليك، ولو قليلًا. (...)"
يوم/ شهر/
.شارد الذهن اليوم بطوله. أصابني الأرق لليلة الثانية، وإن لم أنم الليلة، فستصبح الثالثة
يوم/ شهر/
.ذهبت مع بزوغ النهار إلى الطبيب، وتذكرت في الطريق شعر السيد تاناكا
إن نسيت خطواتي المخضبة بالدموع على هذا الطريق
هل سيعرفها أحد؟
.أجبرت الطبيب على إعطائي المورفين
استيقظت بعد منتصف الظهيرة، وقد أشعرني النور المتسرب من بين الأوراق الخضراء بالقلق .والحزن. قررت أني سأتحسن
يوم/ شهر/
.أكثر اللحظات إحراجًا بصورة لا تُطاق يكون لب مصدرها بلا شك هو الأهل
قفزت من مكاني، انتعلت قبقابي، وانطلقت من فوري إلى السكة الحديد. وقفت بهيبة للحظة. رفست الموقد. ركلت الدلو في الهواء. وصلت إلى غرفة صغيرة، ركلت الغلاية في الباب. أصدر زجاج الباب صوتًا. رفست الطبلية. صوص الصويا يعلو الحائط. قدح الشاي والأطباق مبعثرة. تحولت هذه الأشياء .إلى كبش فداء لي. إن لم أكسرها، لم أكن لأستطيع الاستمرار في العيش. لست نادمًا
يوم/ شهر/
.كثيف الشعر، وطوله 170 سنتيمترًا. يموت من الخجل. أستحضر هذه الكلمات فأضحك
يوم/ شهر/
يزورني غايشي ياماغيشي. أقول: "أنا محاط بالأعداء من الجوانب الأربعة"، فيرد مصححًا قولي "بل .من جانبين تقريبًا". ضحكنا من القلب
يوم/ شهر/
يُقال: "إن لم تتحدث عن الأمر، لن تبدو تعسًا أمام الناس" أو شيء من هذا القبيل، ورغم هذا، فهناك .شيء أريدكم أن تسمعوه. أو لا.. هذا يكفي
.ليلة أمس، تشاجرت مع أسرتي على ين ونصف لثلاث ساعات. نادم أشد الندم
يوم/ شهر/
لا أستطيع الذهاب بمفردي إلى الحمام ليلًا. يقف خلفي صبي في الخامسة أو السادسة عشر، صغير الرأس، طويل نحيل، يرتدي يوكاتا أبيض. كان الالتفات للخلف بالنسبة لي الآن بمثابة مجازفة بحياتي. .هناك حقًا صبي صغير الرأس هنا
يقول غايشي ياماغيشي إن هذا بسبب فعل بشع لا يُحتمل قام به فرد من أسلافي من خمسة أو ستة أجيال ماضية.
.ربما يكون الأمر هكذا فعلًا
يوم/ شهر/
أتممت كتابة روايتي. هل كان هذا أمرًا مفرحًا هكذا؟ عندما أعيد قراءتها أجدها جيدة. أبلغت صديقين أو ثلاثة.
."بهذا، أستطيع الآن أن أسدد ديوني للجميع. عنوان الرواية: "خَبَل القرد الأبيض
1 note
·
View note
Text
تحت أشجار الكرز- موتوجيرو كاجي

تحت أشجار الكرز، توجد جثة مدفونة!
هذا أمر عليك تصديقه؛ وإلا فكيف تصدق أن أزهار الكرز تتفتح بتلك الروعة؟
كنت مضطربًا اليومين الماضيين لأنني لم أستطع استيعاب جمالها، ولكنني قد فهمته الآن أخيرًا.
تحت أشجار الكرز، توجد جثة مدفونة.. إنه أمر عليك تصديقه. لماذا -من بين كل ما تعج به غرفتي من أدوات- يخطر على بالي كل ليلة في طريق عودتي للمنزل مثل رؤية غيبية شيء ضئيل نحيل كشفرة الحلاقة مثلًا؟
قلتَ إنك لا تعرف، وأنا أيضًا لا أعرف. ولكن ما أعرفه حتمًا هو أن هذا وذاك أمر واحد. وأيًا كان نوع الشجرة، فإن أزهارها حين تبلغ أوج ازدهارها تخلق حولها أجواء غامضة، مثلها كمثل توقف البلبل الدوار عن الحركة في سكون تام، أو الهلوسة التي تصاحب أداء موسيقيًا مُتقنًا، أو هالة الهذيان التي يصنعها التكاثر المحموم. إن لها جمالأ غريبًا حيًا لا يفشل أبدًا في اختراق القلوب.
كانت تلك الأجواء هي ما سبب لي كآبة فظيعة أمس وأول أمس. أحسست أنني لسبب أو لآخر لا أستطيع تصديق هذا الجمال، بل وأصابني هم وتعاسة وشعور بالخواء. إلا أنني الآن أفهم. تصوَر مشهد جثث مدفونة واحدة واحدة تحت وفرة من أشجار الكرز المزدهرة وستفهم سبب اضطرابي.
جثث خيول، جثث قطط وكلاب، وحتى جثث بشر. كلها جثث متحللة تنخرها الديدان، عفنة بصورة لا تُطاق، ورغم ذلك تقطر سائلًا بلوريًا. تطوق جذورالأشجار الجثث كأخطبوط جشع، وتتشابك جذور الشعر التي تشبه مجسات شقائق البحر في بعضها البعض وتمتص ذاك السائل. ما الذي يمكنه أن يصنع بتلات كتلك؟ ما الذي يمكنه أن يصنع أسدية [1]كتلك؟ أستطيع تقريبًا أن أرى السائل البلوري الذي تمتصه الجذور يشكل صفًا هادئًا ويرتفع داخل أوعيتها كأنه حلم.
علام يبدو وجهك متألمًا هكذا؟ ألا تظن أنها رؤية جميلة؟ لقد وضعت زهور الكرز نصب عيني، وصرت الآن قادرًا على رؤيتها. تحررت أخيرًا من سطوة الغموض الذي قض مضجعي أمس وقبل أمس.
من يومين أو ثلاثة، هبطت إلى قاع واد وأخذت أتمشى فوق صخرة من صخوره. ومن قلب رذاذ المياه المتطاير هنا وهناك، شه��ت مجئ أسود النمل [2]إلى العالم، الذي شابه بدوره مجيء أفروديت إليه[3]، ورأيتها تطير عاليًا صوب سماء الوادي، وهناك -كما تعلم- يقيمون زواجًا جميلًا.
وبعد أن سرت قليلًا، صادفت شيئًا غريبًا. بركة صغيرة لا تزال باقية حيث جف نهر ما، علا سطح مياهها لمعان يشبه بقعة نفط. خمن ماذا كان هذا الشيء! إنها جثث آلاف..بل عدد لا يحصى من أسود النمل، تغطي صفحة المياه بالكامل. تتكوم أجنحتها بعضها فوق بعض، ويجعلها الضوء تبدو ملتوية، كما يخلق لها لمعانًا يشبه بقعة نفط. كان المكان مقبرة لمن انتهى منها من وضع بيضها.
عندما رأيت هذا، شعرت بلكزة في صدري، وتذوقت اللذة القاسية عديمة الرحمة التي يشعر بها المنحرف الذي يهوى نبش القبور. لم يوجد في هذا الوادي ما يسرني، لا الطيور المغردة وطيور القرقف[4]، ولا حتى البراعم الوليدة التي تكسوها زرقة باهتة تحت أشعة الشمس البيضاء، كلها لا تزيد عن كونها صورة غير واضحة في عقلي.
إنني أحتاج إلى مأساة.. ومع التوازن الذي ستجلبه هذه المأساة إلى حياتي، ستتضح الصور التي في مخيلتي للمرة الأولى. نفسي عطشى للكآبة مثل شيطان. وعندما تصل الكآبة إلى تمامها، حينها فقط ستسكن نفسي.
آه..تحت أشجار الكرز، توجد جثة مدفونة!
لا أعرف بتاتًا من أين خطر على بالي هذا الخيال.. أن الجثث وأشجار الكرز توحدا وأصبحا شيئًا واحدًا. ومهما هززت رأسي، لا أستطيع التخلص منه.
أشعر الآن أخيرًا أنني أمتلك حق شرب الخمر ومشاهدة الزهور وهي تتفتح، كحق أهل القرية هؤلاء الذين يقيمون مأدبة أسفل شجرة الكرز تلك.
[1] السَّداة: عضو التكاثر في الزهرة
[2] أسد النمل: حشرة تعيش في الرمال وتستخدم حفرة تحت الأرض لمطاردة وصيد الفريسة. يشتهر بشكله الذي يشبه الأسد الصغير.
[3] في الأساطير اليونانية، تُعرف أفروديت بأنها ربة الحب والجمال والنشوة الجنسية. يُحكي أنها وُلِدَت وسط رذاذ مياه البحر، فبعد أن قام كرونوس بخصي أبيه أورانوس وإلقاء أعضائه في المحيط، ظهرت حولها رغوة وزبد، ومن زبد البحر ظهرت أفروديت.
[4] القرقف: طائر صغير الحجم يتميز بريشه ذي الألوان الزاهية، وعادة ما يتميز بوجود رأس أصفر وجسم ملون بألوان مختلفة تشمل الأحمر والزرقاء والخضراء.
******
التعريف بالكاتب
موتوجيرو كاجي 梶井基次郎
(1901-1932) كاتب وشاعر ياباني نشط في مطلع القرن العشرين، واشتهر بقصصه القصيرة التي تغلب عليها طبيعة شعرية مميزة. تتناول أعماله مواضيع عدة: كالاغتراب والعزلة والتأمل الذاتي، وقد أشاد زملائه من كبار الكتاب بأعماله، بمن في ذلك الكاتبين الكبيرين ياسوناري كواباتا ويوكيو ميشيما. توفي في الحادية والثلاثين من عمره نتيجة إصابته بمرض السل.
1 note
·
View note