Tumgik
m0n3m96-blog · 5 years
Text
حلاوة الروح 1
ما حدث في هذا اليوم تحديدا، شكّل علامة فارقة في حياتها، علي باب القاعة، أخرجت فريدة هاتفها المحمول بعد أن أطفأت شاشته، نظرت إليه لتري انعكاس وجهها لمرة أخيرة، كانت ترتدي أجمل فستان تملك، وشعرت بالرضا عن ملامحها بعد أن دفعت ثروة من مالها الخاص لتغطيها بكمية هائلة من مساحيق التجميل.. لم ترسم فريدة ملامح وجهها الجديد فقط، وإنما رسمت أيضا العديد من السيناريوهات التي قد تحدث اليوم في حفل زفاف صديقتها المقربة، أعلاها حصولها علي عريس الليلة، وأدناها إثارتها لإعجاب ودهشة الأصدقاء..
"ايه يا بنتي القرف اللي انتي عملاه في نفسك ده، وايه الهبل اللي انتي حطاه علي وشك!"، كانت هذه أول جملة سمعتها فريدة حين دخلت القاعة، تبعتها ضحكات جميع أصدقاءها والحاضرين.. بضحكة مفتعلة، فسلام سريع علي جميع الحاضرين، تماسكت فريدة حتي تعبر الموقف بسلام، ثم اتجهت لأقرب ركن فارغ في القاعة، وأجهشت بالبكاء، قبل أن ترحل سريعا للغاية من القاعة، وبعيدا عن أنظار الجميع، وحيدة..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يمكننا إنكار أن لفريدة حضور من نوع خاص، حضور عبر عنه أصدقاؤها بمقولة: "انتي جدعة جدا، انتي أرجل حد احنا نعرفه".. في البداية كانت تعتبره إطراءا فريدا من نوعه، تفرح به وتبتهج، بمرور الوقت وتكرار العبارة، بدأت فكرة واحدة تسيطر عليها: هل أبدو كالرجال حقا؟!
تأكدت شكوكها في سن مبكرة، وفي جلسة مع صديقين من أصدقاء المدرسة، تلفظ أحدهم بلفظ خارج، فنظر له الآخر بعتاب، لكن الأول ضحك قائلا: "احنا كلنا ولاد في بعض يا جماعة، نهزر براحتنا!"..
"الحلاوة حلاوة الروح!" جملة كتبتها فريدة وعلقتها علي باب غرفتها منذ كانت في الثانية عشر من عمرها، ثم بذلت مجهودا مضنيا لتحقيقها، تفوقت فريدة دراسيا واجتماعيا ورياضيا أيضا.. لكن هذا لم يكن كافيا أبدا..
في الخامسة والعشرين من عمرها، ولم تثر إنتباه أحد أبدا، فضلا عن أن توقعه في حبها.. وكأي فتاة مصرية، بدأت حياتها بسقف طموح عال للغاية، سرعان ما أنهار فوق رأسها.. في البداية، هناك البطل الوسيم في المسلسل التركي يداعب أحلامها، ثم البطل الكوري، ثم الأمريكي، ثم عودة للحياة الواقعية، تلخصت أحلامها في الحصول علي الشاب الوسيم الغني، فالوسيم أو الغني، فالرضا بمتوسط الحال والشكل، وأخيرا: سأقبل الزواج من أي أحد يأتي ليتقدم!
لكن أحدا لم يأت قط! ورغم أنها اجتماعية للغاية، يمتليء هاتفها بقائمة أسماء يصعب حصرها، فيما ستجد حشدا من الأصدقاء علي مواقع التواصل الاجتماعي، لكن أحدا لم ينظر لها قط، بجسد نحيل تبرز عظامه وتنعدم تضاريسه، ووجه خال من الأنوثة، وملامح لا تسر الناظرين.. كان علي فريدة أن تواجه العالم. منذ البداية، جربت فريدة بعض الحيل لاستعادة ثقتها، مثل محاولة استجلاب تعليقات متعاطفة محبة علي صورها علي مواقع التواصل الإجتماعي، لكن أحدا لم يعرها أدني اهتمام.. في النهاية قررت إزالة جميع الصور مكتفية بصورة لممثلة أجنبية لم تملك عُشر جمالها..
تكررت المواقف الشبيهة، لا يمكنها أن تنسي تلك المرة التي وقع فيها هاتف أمها في يدها، سرعان ما قلبت فيه بدافع الفضول، وحين فتحت المحادثات الخاصة بأحد البرامج الشهيرة لتبادل الرسائل، حين فتحتها لم تجد ما يسرها! هناك عشرات المحادثات بين أمها وأصدقاءها، تبدأ الأم بتوضيح مميزات بنتها، ثم تنهي بقولها "عندنا عروسة جاهزة تتجوز، معندكيش عريس؟".. مجهود دؤوب من أم محبة، استمر لشهور، لكن جميع المحادثات كانت تنتهي بنهاية واحدة فقط، "ابعتيلنا صورتها"، وحين ترسل الأم الصورة، لا تتلقي الرد أبدا..
متساءلة لماذا هي محاطة بالأولاد رغم أنهم لا يرون أنوثتها، أتاها الرد سريعا، حين سمعت شائعات ترددت أن "أسهل طريقة تتعرف بيها علي بنت حلوة، هي عن طريق فريدة"، عملا بالمثل القائل "صاحب الوحشة تجيبلك الحلوة"، أنكرت أن تكون علاقتها مع أصدقاءها بسبب تحقيق مصلحة، قبل أن يأتيها التأكيد حين صرح أحدهم في شجاعة لأول مرة: "ما تعرفيني علي سلمي صحبتك؟ البنت ديه شكلها جميل خالص"..
بمحاولة تقبل نفسها، اعترفت فريدة في شجاعة كبيرة أنها لن تُري أبدا.. فهي تملك دخلا أقل من المتوسط، تعيش في مستوي معيشي أقل من المتوسط، تملك أحلاما متوسطة، وشكلا أقل من المتوسط، كما أنها الأخت الكبري لأربعة من الأولاد، اعتادت هي علي تحمل مسئوليتهم واعتاد والدها علي ترديد "أنا مخلف خمس رجالة" متفاخرا بها أمام أقربائه، فيما اعتبرتها هي إهانة علي الدوام، لكنها لم تجرؤ علي البوح أبدا..
بمرور الوقت، أزالت فريدة الجملة التي علقتها علي باب حجرتها "الحلاوة حلاوة الروح" بعد أن سبّت أول من قالها، معتبرة إياها محض كذب، أو علي الأقل، هناك حد أدني لجمال الوجه والجسد، قبل أن ينظر أحدهم إلي الروح.. وحين فطنت إلي هذا الاستنتاج، أزالت الورقة المعلقة في غرفتها منذ سنوات بعيدة، ألقتها في صندوق القمامة، بعد أن فتتتها إلي قطع صغيرة.. تحول حبها للجميع، وعطاءها السخي لكل الناس، علي مدار السنوات، إلي طاقة غضب، ثم كره للجميع، بدون استثناء.. بما فيها نفسها.. لزمت غرفتها عدة أيام لم تخرج منها، وحين خرجت، لم تكن فريدة التي نعرفها!
قررت فريدة أن تتزين وتذهب لعُرس صديقتها المقربة، بذلت مجهودا خرافيا في وضع مكياج كانت قد اشترته بمالها الخاص الذي ادخرته طوال سنين حياتها، لسنا نبالغ إن قُلنا أنها رسمت ملامح وجهها بالكامل.. تزينت فريدة وارتدت أجمل فستان تملك، مُتجة إلي حفل زفاف صديقتها المقربة، وقد رسمت العديد من السيناريوهات أعلاها حصولها علي عريس الليلة، وأدناها إثارتها لإعجاب ودهشة الأصدقاء..
"ايه يا بنتي القرف اللي انتي عملاه في نفسك ده، وايه الهبل اللي انتي حطاه علي وشك!"، كانت هذه أول جملة سمعتها فريدة حين دخلت القاعة، تبعها ضحك جميع أصدقاءها والحاضرين.. بضحكة مفتعلة، فسلام سريع علي جميع الحاضرين، تماسكت فريدة حتي تعبر الموقف بسلام، ثم اتجهت لأقرب ركن فارغ في القاعة، وأجهشت بالبكاء، قبل أن ترحل سريعا للغاية، وبعيدا عن أنظار الجميع، وهي تغطي وجهها بيديها وحيدة..
كان هذا قبل أن تلحظ خطوات متعجلة تلحق بها، ثم صوت أحدهم يلاحقها: يا آنسة، بقولك!
5 notes · View notes
m0n3m96-blog · 5 years
Text
دائرة
إن أردت أن تراه، لا تنتظر أن يدير لك وجهه وينظر إليك، حتي لو ظللت تتبعه طوال الطريق، حتي وإن ناديته بأعلي صوتك.. هو يحفظ التعليمات عن ظهر قلب، يعلم جيدا أن الملتفت لا يصل.. لذلك هو يسير للأمام فقط، ولا ينظر وراءه أبدا..
لا تتوقع أن يتوقف من التعب، هو يعرف أن الحياة كالدراجة، اذا توقفت عن التبديل فستسقط لا محالة.. لذلك لن يتوقف أبدا.. ولا تنتظر منه أن يتوقف للقاء صديق، فهو يعلم أنه اذا أراد ان يصل أسرع، فعليه ان يسير وحده، ولذلك قرر أن يسير وحده لآخر الطريق..
لن يبطء الخطي، فهو يعلم أن السير في طريق الوصول وصول، ويعلم أن الطرق تتضح رويدا رويدا كلما سرت فيها.. ولا تتوقع أنه يمكنك أن تختصر الطريق لتصل أسرع وتواجهه، لأنه كان قد سمع أن أقصر طريق يصل بين نقطتين هو الخط المستقيم، لذلك يسير في خط مستقيم ودون توقف.. يعلم كل هذا، يحفظه عن ظهر قلب..
 لكن لا تفقد الأمل، سأخبرك سرا صغيرا، لو أردت أن تقابله وجها لوجه، فما عليك إلا أن تبقي مكانك! لأنه ببساطة، يحفظ كل الإرشادات عن ظهر قلب، لكنه لا يعلم وجهته! هو فقط يدور في دائرة!..
11 notes · View notes
m0n3m96-blog · 6 years
Text
طالب إلي ما لا نهاية!
أصدقاؤه الطلبة تخرجو جميعا منذ عصور سحيقة... زملائه المتميزين أصبحوا معيدين ثم أساتذة جامعيين يشرحون له المواد نفسها التي كانوا يحضرونها برفقته قديما.. مضت عليه أزمان عديدة لدرجة أنه لم يعد يتذكر أحد تاريخ انضمامه للجامعة ..
كثرت الشائعات من حوله، أقسم البعض أنه أقدم من مسلة الجامعة نفسها، في حين روي آخرون كرامات متعلقة بحضوره الدائم، وعندما كثر الحديث من حوله، قرر أخيرا الإفصاح عن هويته.. في السبعين من عمره، وكان لا يزال في الفرقة الثالثة، قرر لأول مرة أن يحكي حكايته.. تحدّث عن والديه الذين أجبروه علي دخول هذه الكلية رغما عنه بدعوي أنها كلية قمة، كي يتفاخرا به أمام أقربائهم وأصدقاءهم، ولأنه كان بارا بوالديه دخل الكلية فعلا، ورغبة منه أن يُرضي والديه حتي آخر العمر، قرر أنه سيبقي في الكلية، إلي الأبد!  كي يمنح والديه شعورا بالفخر الأبدي.. بعد سنوات لم يعودوا يفخرون به أبدا، خاصة بعد أن تخرج ابن أخيه من كلية الهندسة في عمر ال60 بينما هو لايزال طالبا بها..
لم يتزوج أبدا، رُغم مساعدته في إتمام زيجات أصدقاءه كلهم..  قال إن الزواج يحتاج الي شهادة التخرج حسب إجماع والده ووالد الفتاة التي أحبها، أعلن اندهاشه حين تخلت عنه الفتاة سريعا، قال إنه تأخر خمسين عاما فقط في الكلية فلماذا لم تنتظره؟ تساءل متعجبا...
عندما سألوه عن خبرته التي اكتسبها طيلة هده الفترة، قال إن الخبرة التي اكتسبها طوال هذه السنوات يمكن تلخيصها في جملة واحدة: أفضل مكان للنوم في الجامعة هو الركن الأيمن من المدرج في المقعد قبل الأخير تحديدا..
اعترف بشجاعة أنه لم يعد يملك أي حياة خارج الكلية، بعد سنوات تطور الأمر، بدلا من أن يذهب في الصباح الباكر ويرجع إلي بيته في الثلث الأخير من الليل، وينام بضع ساعات ويكرر الأمر نفسه يوميا، قرر أن ينام في الجامعة، لم ياخذ إذنا من أحد، وعندما علم العميد لم يمنعه احتراما لسنه الكبير وقدمه في الجامعة..
لم يكن يؤذي أحدا، ولذلك تركه معظم الناس في حاله، باستثناء بعض عبارات السخرية التي تعود سماعها في بداية كل عام من الطلبة الجدد..
الإنجاز الوحيد الذي حققه في حياته، كان دخوله موسوعة جينس ك أقدم طالب جامعة علي وجه الأرض.. وفي اليوم الذي مات فيه –وكانت ميتته طبيعية للغاية، فقد توفي من شدة الملل أثناء سماعه إحدي المحاضرات للمرة السابعة والثمانين-تغير شيء ما في الجامعة، شيء لاحظه الجميع ولم يُعبّر عنه أحد، حل صمت مطبق علي المكان..
دُفن في حرم الجامعة بناءا علي وصية عُثر عليها في الركن الأيمن من المدرج في المقعد قبل الأخير، ثم صباح اليوم التالي، بدأت عمليات إنشاء تمثال ضخم، حمل وجه ذلك الطالب لتخليد ذكراه، وحمل معه تغير مصيير الجامعة للأبد...
لقد كان متميزا في فشله بحق، كان متميزا للدرجة التي جعلت العالم يسمع عن جامعته للمرة الأولي وربما الأخيرة، فقبل وفاته توافد عشرات العلماء من مختلف جامعات العالم لدراسة حالته، ثم بعد وفاته، توافد عشرات الآلاف من الطلبة من مختلف الجامعات حول العالم، لزيارة تمثاله، التمثال الذي عُرف باسم: ومن البِر ما قتل!
1 note · View note
m0n3m96-blog · 6 years
Text
حياة باهتة (الجزء الأخير)
نحن الآن أمام نقطة التحول الثالثة والأخيرة في حياة سمير... واقفا أمام بوابة الفيلا السوداء، ضغط سمير علي الجرس، وحين تأكدوا من هويته سمحوا له بالدخول.. لم يصدق سمير ما وقعت عليه عينه، لا نتحدث هنا عن قطع الأثاث الفاخر ولا عن الديكور المبهر المتناسق، بل نتحدث عن لمياء!
لم تتذكره لمياء بالطبع، ولم ينسها هو أبدا، عرفها رغم تغير ملامحها كثيرا، أربعة سنوات كانت كافية لتحمل رضيعا علي كتفها والآخر في بطنها، ويزداد وزنها زيادة مهولة...
مجرد رؤيتها أعادته للحياة مرة أخري، تفاني سمير في أعمال السباكة هذه المرة، أصلح العيب الذي كان يسد الطريق أمام مياه الصرف، ثم تطوع بإصلاح بعض العيوب الإضافية التي رآها بعينه الخبيرة في بعض حنفيات دورة المياه، كان راضيا عن نفسه بحق، وقبل أن يهم بالانصراف بعد ثلاث ساعات قضاها في العمل، سألته لمياء كم يريد؟ قال انه اشتري "كوعا" جديدا وبعض القطع اللازمة، التي كلفته مبلغ مئة جنيه، بينما أجره عن العمل  ف "اللي تجيبيه يا ست الكل"..
بالطبع لم يقصد هذا بالمعني الحرفي، حين ناولته لمياء مبلغ مئة وعشرون جنيها نظر إليها باشمئزاز، "ايه ده يا مدام؟" " 100 جنيه تمن الحاجات اللي جبتها، و20 جنيه علشان تعبك معانا".. بعزة نفس، رفض سمير تناول المبلغ، "لو معكيش يا مدام خلي عنك خالص"، في حين بدت له العبارة عادية، كانت كالشرارة التي أشعلت الحريق داخل رأس لمياء، حيث ذكرها هذا بأيام فقرها قبل أن تتزوج من ذلك الثري..
 كانت العبارة كافية تماما بالنسبة للمياء كي تُلقي النقود في وجهه وتنعته بالنصاب، وتطلب منه الانصراف "بدل ما اجيب حمدي البواب يجي يخرجك"...
البؤس الذي ارتسم علي وجه سمير وهو يغادر الفيلا لا يُنسي أبدا، خطواته الثقيلة وهو عائد إلي بيته مطأطأ الرأس في انهزام تام، تسربت المياه إلي قدمه من ثقب في حذاءه، المياه الناتجة من الطفح المتكرر لبالوعة تقع في أول شارعه، قرر سمير أنه بحاجة للاستحمام بالماء الساخن كي يخرج من ضيقه ويفكر بشكل صحيح..
بالطبع هو لا يملك سخانا، لكنه كان عاقد العزم علي تسخين بعض المياه، قبل أن تنهره والدته لأن "الماية قاطعة واحنا محتاجين شوية الماية دول، لما الماية تيجي ابقي استحمي".. منصاعا لرغبة والدته قرر الذهاب إلي غرفته، وحين استلقي علي سريره –بجوار أخيه، حيث كان يتشارك وأخوه الأصغر في سرير واحد- كان كل ما يحتاجه هو الهدوء، بعض الهدوء فقط ليفكر بشكل صحيح..
أني له بالهدوء في هذا الحي الشعبي؟ من النافذة تعالت أصوات التكاتك، وكراسي القهو��، وتقافزت حكايات الجالسين علي القهوة إلي مسامعه، كان هذا قبل أن تنشب مشاجرة تضاعفت علي إثرها الضوضاء بسبب الصيحات المتبادلة من الطرفين، ثم بعد أن انفضت، ارتفعت أصوات الأغاني الشعبية قادمة من أحد التكاتك، لتُعلن استحالة النوم بالنسبة لسمير..
جلس سمير علي كرسيه القديم المتهالك، أشعل اللمبة الوحيدة الموجودة في غرفته، فانبعثت منها إضاءة باهتة للغاية، كانت تتوهج وتنطفأ باستمرار، لكنها كانت كافية لسمير كي يحدق في ساعة الحائط المقابلة له، ولأول مرة أدرك سمير أن الوقت غال جدا، ليس لأن الوقت الذي ذهب لا يعود، بل لأن ساعة الحائط كانت متوقفة، مما يعني أن عليه شراء بطاريتين لتشغيلها، يبلغ ثمن الواحدة عشرة جنيهات علي الأقل..أدرك هذا قبل أن تنقطع الكهرباء بالكامل ويحل الظلام..
في الظلام، أدرك للمرة الأولي أنه كان مخطئا بشأن الكثير من الأمور، أدرك أن حياته باهتة للغاية، وعليه، فيجب علي أحلامه أن تكون باهتة أيضا، وبناءا عليه، قرر أنه لن يرتاد الجامعة بعد الآن، سيُسخّر كل وقته وجهده للسباكة، قرر أخيرا أنه سـ "يعيش عيشة أهله"..
مرت عشرون سنة علي هذا اليوم، علي نفس القهوة يجلس الأسطي سمير –الأربعيني الأصلع البدين- مع صديق مدرسته القديم حسام، كان راضيا عن حياته بحق، فقد ساهم في تجهيز ثلاثة من إخوته البنات، بينما علم أخويه الصغيرين أصول المهنة، وتزوج من زينب –ابنة خاله- التي رضيت بحاله وأحبته بحق، وفتح الله عليه في عمله فامتلك ورشة للسباكة ذاع صيتها في المنطقة كلها..
كل هذا انهار فجأة حين ذكره حسام بحلمه القديم، فاكر  يا سمير لما اتهبلت في عقلك، وجيت قولتلنا بعد الإعدادية أنا هطلع مهندس كمبيوتر زي مش عارف مين ده؟ صمت سمير بضعة ثوان كانت كافية ليستعيد أحداث حياته كلها، قبل أن يبتسم ويرد في ثقة: اه فاكر طبعا، لعلمك أنا احسن من مارك بكتير، أنا عايش حياتي من غير فيسبوك ومش ناقصني حاجة، إنما أنا أراهنك انه مستحيل يعيش حياته من غير سباك!...
1 note · View note
m0n3m96-blog · 6 years
Text
حياة باهتة (الجزء الثاني)
نحن الآن في اليوم الأول في الجامعة، حيث تختلف ردود أفعال الجميع، هذا يوم يتكرر في العمر مرة واحدة، هناك من يحاول لفت الانتباه والحصول علي أكبر قدر من الاهتمام، هناك من يحاول فرض سيطرته منذ اليوم الأول بإستعراض عضلاته، هناك من يحاول التودد لطاقم التدريس، بُغية الحصول علي مكاسب مستقبلية، هناك من يحاول مغازلة الفتيات، وهناك سمير..
منعزلا عن الجميع، جلس في الصف الأخير من المدرج يراقب الجميع، تواري عن الأنظار تماما، نصف ساعة فقط، كانت كافية لسمير كي يهرب مُسرعا عائدا لبيته، متمنيا أن لم يره أحد! أدرك سريعا أنه لا يشبههم، يحتاج لتغيير كامل هيئته، ملابسه الرثة –التي تلقي عليها مزحتين ثقيلتين من أشخاص لم يرهم من قبل- لا تناسب الجامعة علي الإطلاق!
 هذه نقطة التحول الثانية، قرر سمير أن يخفي هويته عن الجميع، بعدما أخرج كل مدخراته، بما فيها تلك التي ادخرها لزواج اخته التي تصغره بعامين، ليشتري بها ملابس باهظة الثمن -بالنسبة إليه طبعا-.. وفي اليوم التالي بذل سمير كامل جهده في تأليف عدة حكايات خيالية تتضمن محل سكنه، عمل والده، ومغامراته النسائية، ثم جُهدا مضاعفا في مراعاة تناسق الحكايات..
حين جلس سمير علي إحدي المقاهي القريبة من منزله في ذلك الحي الشعبي برفقة حسام –ابن منطقته-، اشتعل بينهم نقاش حاد حول النقود، ففي حين رأي حسام أن النقود هي كل شيء، هاجمه سمير بشدة، مُعلنا أن: "يا صاحبي الفلوس مش كل حاجة، الفلوس ديه تدوس عليها ترفعك لفوق"، ... كان هذا قبل أن تدهسه الأيام تحت وطأة الفقر الثقيل..
لم يندمج سمير في بيئته الجديدة –عكس ما توقع-، حكاياته لم تجد جمهورا من المستمعين، لم يقتنع بها أحد، هذا شخص تفوح رائحة الفقر منه، حكاياته تفتقر لعنصر الإبهار، ويمكنك بسهولة تمييز نمط حياته من طريقة ارتداءه لملابسه، والمصطلحات التي يستخدمها أثناء حديثه..
ثلاثة أشهر فقط كانت كافية ليُعلن سمير فشله! أين ذهبت الطبقة الفقيرة؟ لماذا لم يجد من يشبهه رغم أن ربع سكان مصر تحت خط الفقر؟ أم أن الجميع نجح في التخفي الذي فشل هو فيه؟
تمني سمير أن يسخر منه الجميع، علي الأقل سيحظي باهتمامهم لبعض الوقت، لكن سمير قوبل بالتجاهل التام.. ثلاثة افتراضات تحدث تلقائيا عند ذهابك لدراسة الحاسب: الأولي انك تمتلك حاسبا متنقلا فائق القدرات، والثانية انك تمتلك جهاز انترنت فائق السرعة،  والثالثة أنك متفرغ تماما ولا تفعل أي شيء بجانب الدراسة، والثلاثة لم ينطبقوا علي سمير...
حين قرر سمير أخيرا البوح بحقيقته، واستجمع كل ما يملك من الشجاعة، ذهب لمعيد المادة بعد انتهاء الدرس، متسائلا ماذا يفعل من لا يملك حاسبا في منزله؟ كان سمير شديد الجدية في سؤاله، بينما كان المعيد شديد السخرية في جوابه، ظانا منه أن هذا طالب يستخف دمه لا أكثر..
بمرور الوقت، زادت عزلة سمير، رغم أنه اكتسب صديقين أو ثلاث، إلا أنه تخلّف عن كل خروجات أصدقاءه القليلين بدعاوي مختلفة، ثم قُرب امتحانات نهاية العام، وفي اليوم الأخير الذي شوهد فيه سمير في الكلية، تلقي عرضا لا يقاوم من صديقه محمود، الذي بادره قائلا: "بقولك ايه تعالي ذاكر معانا في كو وركينج سبيس جنب الكلية، حلو جدا وأسعاره قليلة وهادي"
سمير: بكام يعني؟
محمود: الساعة ب 10 يا ابني، واليوم كله ب30، هات لابك بس معاك علشان نشتغل علي المشروع ونخلصه..
لا يذكر سمير كيف أنهي المحادثة، لكنه ساعتها أيقن أن أصدقاءه أثرياء بحق، فهم ينفقون إنفاق من لا يخشي الفقر أبدا! وكان هو يخشاه، فبجانب أنه لم يملك حاسوبا محمولا أبدا، هو أيضا لم يكن مستعدا لتبذير  ميزانية أسبوع كامل في يوم واحد كي يذاكر..
عائدا لبيته سيرا علي الأقدام –لأنه لا يملك ثمن المواصلات، حتي وإن ملكها، فهناك أمور أولي للصرف- أدرك سمير أنه لا ينتمي لهذا المكان، يبدو أن الموضوع أصعب مما تخيل، الكلية صعبة بحق، اعترف أخيرا لنفسه، فذكائه الفطري، مع اجتهاده واستعداده لبذل كامل مجهوده لم يشفعوا له للنجاح في هذا المكان، النجاح هنا يتطلب شيئا لا يملكه: الكثير من الأموال!
لكن الأسطي سمير لم يملك رفاهية التفكير، كان عليه حمل صندوق العدة والذهاب سريعا لتأدية عمله وتلبية نداء الواجب، وإنقاذ أحد البيوت من غرق محقق في مياه الصرف الصحي.. هذه المرة كان ذاهبا لأحد بيوت الأثرياء في المعادي، هذه الفرصة تتكرر علي فترات بعيدة، لكن فرص مثل هذه، قادرة علي توفير مبلغ من المال يكفيه –وأسرته- لأسبوعين متتاليين..  
واقفا أمام بوابة الفيلا السوداء، ضغط سمير علي الجرس، ولم يكن يملك أدني فكرة عما ينتظره في الداخل .. 
3 notes · View notes
m0n3m96-blog · 6 years
Text
حياة باهتة (الجزء الأول)
اليوم الأول في الجامعة لا يُنسي أبدا، هو يوم يتكرر في العمر مرة، سميرُ الآن يقف أمام بوابة الجامعة، ينظر لها وعيناه تفيض من الدمع، فهذه هي السلمة الأخيرة في سبيل تحقيق حلمه..
لكي نفهم طُموح سمير، علينا العودة بالزمن قليلا، نحن الآن في غرفته، حيث دأب سمير علي المذاكرة بجد منقطع النظير، هذه ليست غرفته وحده بالطبع، فالبيت كله مكون من غرفتين، وستة أفراد يتشاركونها، والدته وهو وأربعة من اخوته الذين يصغرونه..
سمير الآن في الثانوية، لكن أحدا لم يتوقع ذلك أبدا، ولا هو نفسه، هذا طالب كان ينجح في الابتدائية بأعجوبة، أضف لذلك أنه يعمل صبيا في احدي الورش القريبة من المنزل منذ وفاة والده، أي حين كان في الصف السادس، فلماذا لم يدخل مدرسة صنايع كما فعل باقي أقرباءه؟
نقطة التحول الأولي كانت في الصف الثالث الإعدادي، حيث وقعت أحداث قصة حُب ملحمية، بدأت وانتهت في رأس سمير، بينه وبين لمياء مُدرسة الحاسب، المعلمة الأولي والوحيدة من نوعها في مدرسة سمير الاعدادية الحكومية بنين، والأنثي الأولي في حياة سمير خارج أسرته.. لا يُمكن وصف لمياء بالجميلة، أما بالنسبة لسمير، فقد اتخذها مرجعا للجمال، كان يقيس جمال الفتيات –الذين سيدخلون حياته لاحقا- بالنسبة لجمال لمياء، فأجمل الفتيات هي التي تقترب في شكلها من شكل لمياء..
قصة الحب الأسطورية تلك، ظهرت نتائجها سريعا، في تفوق ملحوظ لسمير في مادة الحاسب، انتهت برحيل لمياء عن المدرسة في إجازة نصف العام، نتيجة لعدة مشكلات تعرضت لها بسبب مراهقي المدرسة، كونها الأنثي الوحيدة.. لكن رحيلها خلّف حُبا غير طبيعي في نفس سمير تجاه الكمبيوتر، كونه الشيء الوحيد الذي يُذكره بلمياء..  
في العام نفسه اكتشف سمير لأول مرة عالم الانترنت، بعد عملية تزويغ مُتقنة برفقة أصدقاءه من فوق سور المدرسة، اقترح أحد الأصدقاء الذهاب لمقهي انترنت قريب، لم يكن قد ذهب هناك من قبل، بعد أن استفسر عن التكلفة، عد الجنيهات في جيبه عدة مرات وتأكد أنها ستفي بالغرض، قرر الذهاب معهم..
تركهم يلعبون، وبدأ هو يتصفح لأول مرة عالم الانترنت، بفضول مراهق يحاول اكتشاف العالم لأول مرة، تنقل مسعد بين المواقع المختلفة في سلاسة ويسر، وحين انطفأ الجهاز أمامه فجأة، أطلق مُسعد سُبة مستفتسرا عن السبب، فيما رد عليه السُبة صاحب المقهي معلنا أن:  "الساعة اللي كنت حاجزها خلصت، معاك فلوس تزود الحجز؟" كانت إجابة سمير الخروج من باب المقهي في صمت  مطأطأ الرأس مُعلنا انتصار صاحب المقهي...
في كل مرة ينجح سمير في إدخار بضعة جنيهات، تتوالي زياراته للمقهي سواء مع أصدقاءه أو بدونهم، وفي نهاية العام صارح سمير أصدقاءه والعالم كله: سأصير مهندس برمجيات، مثل مارك زوكربرج!  و حين انهالت الضحكات من أصدقاءه والمحيطين، بين من يسخرون من طريقة نطقه للاسم، وبين من لا يعرفونه أصلا، وبين  من يسخرون من أحلام يقظته المتكررة، أصر سمير علي موقفه أكثر..
سمير الآن في الثانوية، يعيش نمط حياة يُعتبر الأكثر انتاجية علي ظهر الكوكب، فهو يستيقظ في الخامسة فجرا، يُذاكر بعض دروسه من كتاب مدرسة قديم كانت قد استعارته  والدته من احدي قريباتها بعد أن أنهي ابنها الثانوية، يُلخص بعض الدروس ويحاول إفهام نفسه بنفسه، ثم يشرب كوبا من الشاي وينزل للورشة ليمارس عمله، ثم يُنهي يومه بالعمل عدة ساعات في مقهي الانترنت ذاته، بدون مقابل، وكانت صفقة مربحة للطرفين، صاحب المقهي وافق علي الفور لأنه سيوفر راتب من يعمل في المقهي، بينما أعتبرها سمير أفضل صفقة عقدها في حياته، فهو سيجلس علي الانترنت مجانا طوال ساعات عمله.. يعود لمنزله في الواحدة فجرا لينام ويستيقظ في الخامسة فجرا ويكرر اليوم ذاته..
بسبب دأبه الشديد، كوفيء سميرفي النهاية بتكليل مسعاه بالنجاح،  حصل علي المجموع الذي كان يحلم به، دخل الكلية التي كان يتمناها، مُعلنا انتصاره علي جميع من سخروا منه، ومُخرجا لسانه للجميع..
نحن الآن في الإجازة الأخيرة التي تسبق التحاقه بالجامعة، اتخذ سميرعدة قرارات ثورية استعدادا لدخول الجامعة.. القرار الأول كان شراء جهاز حاسوب مستعمل ثابت قديم، بمبلغ كان قد ادخره علي مدار الأعوام السابقة، تبعه بقرار ثوري جديد: لقد أقنع خمسة من سكان المنطقة بالاشتراك معا لإدخال الانترنت، وتقسيم التكلفة عليهم.. وحين نجح في ذلك، اعتبره أهل المنطقة طفرة لن تتكرر.. ك نتيجة لذلك، تخلي سميرعن عمله في مقهي الانترنت الليلي، فلا حاجة له بعد الآن –أو هكذا كان يظن-، تبعه بالقرار الأكثر ثورية علي الإطلاق: ترك العمل في الورشة تحت قيادة الأسطي فتحي، قرر أخيرا انه تلقي كل الخبرات التي يحتاجها ليصبح الأسطي سمير، وليعمل مستقلا في حرفة السباكة التي تشربها علي مدار ستة أعوام، قراره هذا كان بناءا علي رغبته في مضاعفة دخله، كما كان بسبب تعارض مواعيد الجامعة مع مواعيد الورشة...
نحن الآن في اليوم الأول في الجامعة، حيث تختلف ردود أفعال الجميع، هذا يوم يتكرر في العمر مرة واحدة، هناك من يحاول لفت الانتباه والحصول علي أكبر قدر من الاهتمام، هناك من يحاول فرض سيطرته منذ اليوم الأول بإستعراض عضلاته، هناك من يحاول التودد لطاقم التدريس، بُغية الحصول علي مكاسب مستقبلية، هناك من يحاول مغازلة الفتيات، وهناك سمير.. يُتبع...
2 notes · View notes
m0n3m96-blog · 6 years
Text
لم يتصل أحد!
دق جرس الهاتف، فانتفض هو فزعًا، ليس من علو صوت الجرس وضجيجه، بل من شدة المفاجأة.. هذه أول مكالمة يتلقاها منذ أحد عشر عاما هي عٌمر هذا الهاتف!
في البداية لم يُصدق أذنه، فركها عدة مرات ليتأكد أن ما يسمعه حقيقة وليس حُلمًا، حاول الوقوف لكن قدميه لم تسعفاه، بحث عن عكازه كي يتسند عليه، لكنه لم يجده.. تررررررن.. ما زال الهاتف يرن، ما زالت أمامه فرصة..
قبل أحد عشر عاما، وبمساعدة أحد أبناءه، ابتاع هذا الهاتف النقال، بعد ما تساءل عن جدواه ألف مرة، ثم اقتنع في النهاية واشتراه كما يفعل الجميع.. وبمساعدة نفس الابن، علمه كيف يستقبل المكالمات.. "بسيطة يا بابا، لما يرن الجرس دوس علي الزرار الأخضر ده، وحطه علي ودنك".. تعليمات حفظها ذلك العجوز عن ظهر قلب.. لكنه لم يستخدمها أبدا!..
تسارعت دقات قلبه، كما تسارع تدفق الذكريات في رأسه، أحس أنه في سباق مع الزمن.. شعور لم يداخله مذ كان في العشرين من عمره.. سباق لا يحترم سنه الكبير ولا جسده الواهن، عليه أن يصل إلي الهاتف قبل أن تنتهي دقات الجرس لتعلن ضياع الفرصة إلي الأبد، الفرصة التي انتظرها العجوز طويلا، واستعد لها بكافة الأشكال الممكنة، فهو علي مدار الأعوام السابقة ومنذ أن اشتري هذا الهاتف، أضاف لحياته عددا من الطقوس اليومية، فهو لا ينفك أبدا عن شحنه يوميا، ثم ما إن ينتهي من شحنه حتي يضعه بجانب وسادته، ويمسكه في اليوم ألف مرة.. علي الأقل!
تُري من يكون المتصل؟ كان هذا أول سؤال بادر إلي ذهن العجوز بعد أن استفاق من ذهوله.. جال العجوز بذهنه قليلا، بعض الأسماء تبادرت إلي ذهنه، أصدقاء الماضي ربما، ربما واحد من أبناءه الذين ان��طعوا عن زيارته منذ سنين طويلة، قد يكون قريبا من بعيد، أو زميل عمل ما.. لكن من أين حصلوا علي رقم هاتفه؟
عاد العجوز بذاكرته قليلا، متذكرا حماسته الشديدة بعد أن حفظ رقم الهاتف حين أشتراه، وألقاه علي مسامع كل من يعرف، مُخبرا إياهم أنه يرحب ب استقبال مكالمتهم في أي وقت.. وفي الأيام التالية انتظر العجوز حصاد ما زرع، توقع  أن تنهال المكالمات علي مسامعه، ظن أن الهاتف لن يتوقف عن الرنين من كثرة المتصلين، حتي أنه أجري بعض العمليات الحسابية لحساب ما إذا كان بمقدوره أن يبتاع هاتفا آخر إضافيا أم لا..  أفاق العجوز من أحلامه بمرور الأيام، لا شيء يحدث، لا شيء سوي الوحدة والصمت وضجيج ذكرياته..
التمس العجوز أعذارا للجميع، كان العجوز سخيا بحق، لم يلتمس سبعين عذرا بل ألفا من الأعذار لكل شخص يعرفه..  لابد أن هناك ما يشغلهم، لابد أن الرقم ضاع من ذاكرتهم، لكنه لم يستطع أن يسامحهم حين أعجزه المرض وكان بحاجة لأن يسعفه أحدهم، لكنه لم يجد! وبمعجزة ما ظل يصرخ طويلا من النافذة إلي أن أتي بعض الغرباء واتصلوا بالإسعاف.. قبلها، حاول العجوز مرارا استخدام هاتفه ليتصل بأحد ما كي ينجده، لكنه تذكر أمرين، أحدهما أنه لا يملك رقماً لأي شخص، طوال سنين حياته لم يتصل بأحد! لم يكن يعبأ أبدا حين يأتي أحدهم ليخبره برقم هاتفه الجديد، لا يعبأ بتذكره ولا بكتابته، هو يعلم أنه لن يتصل.. الناس هم من يحتاجونه وليس العكس، أو هكذا كان يظن وقتها!
وبناءا عليه، فهو لم يتعلم أبدا كيفية استخدام الهاتف للاتصال بالآخرين، من الأساس! لم يسأل ابنه أن يعلمه ولا البائع ولا أي شخص آخر، كنتيجة حتمية للاعتقاد الراسخ فيه، الذي تزحزح كثيرا بمرور الأيام حتي تأكد أنه كان مخطئا.. هو بحاجة للناس نعم، اعترف لنفسه بهذا، علي مضض.. ثم استدرك قائلا أنه ليس مثل الآخرين، فهو يستطيع تدبر أموره بنفسه!
ترررررررررررن، الفرصة تأتي دائما عندما نكون غير مستعدين لها! اللحظة الوحيدة التي قرر أحدهم الاتصال أخيرا بالعجوز، كان فيها العجوز أبعد ما يكون عن الهاتف..  في دورة المياه، استطاع العجوز أخيرا إمساك عكازه والنهوض بمساعدة الجدار، لملم العجوز شتات نفسه واستطاع فتح الباب وبدأ يخطو في ثبات في اتجاه الهاتف.. الهاتف الملقي علي سريره بجوار وسادته..
لكنه تمهل فجأة، فكر العجوز: هل هو حقا يرغب بمعرفة المتصل؟ ماذا سيس��فيد؟ ماذا إذا كان الرقم خاطئا؟ هل سيتحمل هذه المفاجأة؟ ماذا إذا كان أحدهم يتصل ليطلب منه شيئا؟ ماذا إذا كانت هناك مصيبة حدثت لأحد أبناءه ويريدون إخباره بها؟ ثم ما الذي استجد أصلا ليتذكره الناس مرة أخري؟ طوال أحد عشر عاما كان نسيا منسيا.. علي الأقل هو الآن يدرك أن أحدهم اتصل أخيرا.. في داخل رأسه علي الأقل رسم العجوز صورة رائعة الجمال ولو لمرة واحدة أخيرة للجميع.. ثم انتابته فكرة شديدة الغرابة، ربما يكون المتصل عدة أشخاص يجلسون معا، أصدقاؤه وأبناؤه وأحفاده مثلا، يذكرونه بالخير، ويرغبون جميعا في السلام والإطمئنان عليه..
تررررن، ما زال الهاتف يرن.. أسرع العجوز في خطوه قليلا، رأي الهاتف علي مد بصره، زادت خطاه.. وحين وصل أخيرا إلي الهاتف وأمسك به، أدرك حقيقة واحدة أخيرة مخيفة.. هو لم يسمع رنين الهاتف أبدا منذ أن اشتراه.. لسبب واحد: الهاتف لم يرن أبدا من قبل.. لماذا افترض أن ما يسمعه رنين هاتفه؟ حين وصل أخيرا إلي الهاتف، لم يكن هناك رنين، تساءل العجوز إن كان هذا الصوت يحدث في عقله فقط؟ ربما كان الصوت قادما من الخارج أصلا، صوت هاتف أحد الجيران.. ربما الصوت صوت أحد الأجهزة الكهربائية في المنزل يئن من الوحدة والإهمال وعدم استخدامه، كما يحدث دوما علي مدار السنوات السابقة..
وربما، كاحتمال واحد أخير جال برأسه، لكنه جعله يتنهد ويجلس في سكينة.. ربما كان الهاتف لم يرن ببساطة طوال السنوات السابقة، لأنه صامت، لا يرن بصوت مسموع أبدا.. ربما يكون قد تلقي آلاف المكالمات علي مدار السنوات السابقة من أحبائه، لكنه لم يُجب لأنه لم يسمع رنين الهاتف أبدا.. تنهد العجوز في ارتياح، ارتسمت علي شفتيه شبح ابتاسمة خافتة، لم ترتسم منذ عدة سنوات.. هو لا يعرف كيف يتأكد إن كان الهاتف يرن أم أنه صامت، لذلك في النهاية، قرر العودة لممارسة طقوسه اليومية.. شحن الهاتف، وانتظر بجانبه، ووضعه علي الوسادة أخيرا.. وأمسكه ألف مرة.. منتظرا أن تحدث معجزة ما، ويسمع رنين الهاتف، قبل أن يموت.. من الوحدة!
5 notes · View notes
m0n3m96-blog · 6 years
Text
بيتهيألي علشان نوصل لمرحلة الحب اللي في آخر فقرة ديه، محتاجين نمر برحلة طويلة قبلها مع اللي بنحبهم، رحلة فيها تبادل كتير وتضحيات كتيرة، وفي النهاية نوصل للمرحلة ديه
في الخامسة من عمري كنت أظن أن الحب هو أن تجعلها سعيدة صباح كل يوم جديد, كل الأطفال يبكون، يتذمرون، لا يريدون الذهاب إلى الحضانة، وأنا استيقظ مبكرا وأرتدي ملابسي وحدي بكل لهفة ونشاط وأذهب سريعا فأجدها قد حجزت الكرسي المجاور لها، وما أن أصل حتى تسألني باللهفة نفسها التي لا يمكنها إخفاءها: “ماذا ستقص علي اليوم؟”، هكذا يبدأ اليوم، بقصة الصباح، أسهر ليلتي أحفظ جيدا كل كلمة في القصص التي كان يحرص جدي على أن يقصها على مسامعي قبل النوم في نهاية كل أسبوع، أدفعه في كتفه كلما غلبه النوم ليستيقظ ويكمل، تنتهي قصة فأطالب بأخرى، وكل هذا ليكون لدي ما أقصه عليها طيلة الإسبوع، فقد كانت تعشق القصص ..
في العاشرة عرفت معنى جديد أضفته على السابق، عرفت حينها أن الحب هو مشاركة الحماقات الصغيرة، ولكن هل كنا ندرك حينها أنها صغيرة؟ ربما لم تكن تبدو حينها كذلك, نحن مختلفان، هكذا أخبرونا، من الآن البنات ستلعب مع البنات والأولاد مع الأولاد، لم نفهم أيضا لم ذلك ولم تكن تبريراتهم مقنعة بالمرة، ولكن لم يكن للأمر علاقة بالاقتناع، فالصوت العالي واللهجة الآمرة كافيان لنشعر بأن في لعبنا سويا أمر خطير، هكذا وضعوا القانون، وهكذا عرفنا التحايل على قوانينهم، سنلتقي بعيدا عن البيت، وبعيدا هذا كان يعني أن نلتقي بعد شارعنا بشارعين، يا لسذاجتنا كم كنا نظن أن العالم صغيرا جدا، صغير بقدر ما كنا صغار، سنصعد فوق السطوح أو خمسة دقائق خلسة تحت بير السلم, مشاركة الخوف من أن يدخل أحدهم في هذه اللحظة من باب البيت، على الرغم من أننا كنا نتحدث، نتحدث فقط.
في التاسعة عشر عرفت أن الأمر لم يكن له علاقة بقصص الخامسة، ولكنه بالقدرة على فتح مواضيع عامة, لا تجعلها تصمت، استمع إليها كن جريئا وعليك أن تفرق بين الجرأة والوقاحة، ولكني سرعان ما اكتشفت أن الأمر لم يختلف كثيرا، فقط تغيرت نوعية القصص، فأصبحنا نتحدث عن أنفسنا وعن أحلامنا، أصبحنا نحن أبطال قصصنا وأخذنا نبحث عمن قد تعجبه تلك القصة.
في الحادية والعشرين وصلت إلى المعني الأكثر تعقيدا، الحب هو أن تكون لديك المقدرة على إبهارها صباح كل يوم جديد، وهذه هي ضريبة الوقوع في حب فتاة تمل سريعا، ربما أنها لم تكن التجربة الأكثر إمتاعا، ولكنها كانت كافية لأتعلم منها الكثير عن قواعد اللعبة.
في التاسعة والعشرون كان هناك معنى جديد تماما, المعنى الذي اكتشفته حين كتبت لها “المجد مرة لامرأة تكتشف معها العالم, والمجد ألف مرة لامرأة تكتشف معها نفسك”, أن يأتي أحدهم ويعيد ترتيب ما بداخلك ويستخرج لك أشياء لم تكن تعلم عن وجودها بالمرة وتجده يخبرك “يمكنك أن تبدأ بفعل ذلك”, وحين تبدأ تفاجئ بأنك قادر على النجاح فيه بل وتحبه أيضا, الأمر أشبه بأن تعيش حياتك كلها وأنت تظن أنك تجيد التعامل مع الأرقام ثم يأتي أحدهم ويخبرك أن لديك موهبة إلقاء قصص عظيمة يمكن الاستفادة منها.
أما في الرابعة والثلاثين فقد اختلف الأمر, اكتشفت أن كل هذا لم يكن حبا, فطبيعي لرجل يحكى القصص أن يثير اهتمام إحداهن, طبيعي لرجل يعشق المغامرة أن يفعل الأمر نفسه, طبيعي لرجل يجيد الاستماع بقدر ما يجيد الحديث أن يفعل الأمر نفسه أيضا, طبيعي أن يحبك من يبدأ صباحه كل يوم وأنت تخبره أنك تحبه وتحاول إثبات ذلك, كل هذا طبيعي, مادام لدينا ما يمكن للآخرين أن يحبوننا لأجله فطبيعي أن يقع أحدهم في حبنا, ولكن ماذا عن حين نصمت؟ ماذا عن حين تنطفئ تلك الطاقة في عيوننا؟ ماذا عن حين لا يكون لدينا ما نقدمه حتى لأنفسنا؟ أو أكثر من ذلك، ماذا عن حين لا نكون قادرين حتى على أن نحب أنفسنا؟
استيقظت ذات صباح واكتشفت أن الحب هو أن تستيقظ, وتخبر أحدهم أنك لست قادرا على الحديث, وأن هذه الحياة سخيفة, وأنك حزين, والأسوأ أنك تشعر أن هذا الحزن سيدوم طويلا, تخبره أنك فقدت مقاومتك فتجده يخبرك أنه يحبك, دون أن يطلب تبريرا لحزنك, أو أن يصر على أن يفهمه, أو أن يتهمك بالضعف, أو أن يتوهم أنه قادرا على إنقاذك ويضغط عليك لتصبح أفضل.
الحب هو أن تخبر أحدهم كل صباح أنك أصبحت ترى نفسك في المرآة قبيحا من كثرة الحزن, فيخبرك هو أنه لا يزال يراك جميلا, ويبقى.
- محمد فِتفِت .
64 notes · View notes