noirbeduzz

[noirbeduzz]

كُنتُ مُثَقَّلاً بالأغلالِ، كَانَتْ خُطُوَاتِي بَطيئةٌ للغَايَةِ، ولِسَاني مَعقودٌ بإحكَامٍ، وتَفُوحُ من جَسَدِي رَائحةُ المَعدِنِ، جِلْدِي قَدْ تَأثَّرَ بالصَّدَأ، كَانَت كَلالِيبَ الأغلالِ تَختَرِقُ الجِلْدَ واللَّحمِ، وكلَّ خُطْوةٍ أخطُوهَا خَارجَ المَسَارِ، كان القَيدَ يُشَدُّ، فَيُسبِّبَ ألمًا يُعيدَنيَ للمسَارِ المُحدَّد، مَع ذَلك لِحُسنَ حَظِّي كَان العَقْل، هو الحِصْنَ المَنيع ضدَّ كَلالِيبْ الحَديدِ والصَّدَأ.

ثمَّ جَاءَ اليَوم، والَّذي أمَجِّدَهُ إلى يَومِي الحَالي، أستَجمعتُ كلَّ القِوى العَقليَّةِ لِنزْعِ الأغلالَ دونَ إلتمَاسِ طَلبَ الحُريَّة، دونَ إحتجَاجِ، ودُونَ سِلسلةِ إنتِقامٍ، نَزعتُ الأغلالَ بِيديَّ العارِيتينِ، وكلَّ قَيدِ يُنزَع، فإنَّهُ يَنزَع مَعهُ قِطعةٌ مِنْ لِحمي وشَريحةً من جِلدي، كلَّ قَيدٍ كانَ أشدَّ إيلامًا مِنْ قِبلَه، وظلَّ الألمَ يَنهشُ في بَدني سِنينًا، وقدْ ظننتهُ ليَالٍ وحسب.

وقدْ خَفُضِ وَزني كَثيرًا، لأنَّني فقدْتُ الكَثيرَ من جَسدي، وأَلتَزمتُ الصَّمتَ طويلاً لأنَّ اللِّسانَ لمْ يَلتَئمْ بعد، لِكَثرةِ الأغلالِ الَّتي سَمحتُ لَها بتَقييدِ جَسدي عن طِيبِ خاطِر، ولكِن العائدَ كانَ ثمينًا، إعادَةُ خَلقٍ ومِيلادٍ، وشعورًا مُقدَّسًا يُشبِه التجلِّي لمَرتبَةِ مَافوقَ البشَرِ، كُنتُ أحلِّقَ مثلَ المَلاكِ حتِّى على الرَّغمِ نَزيفِ جَسدي. ثمَّ لَبثتُ سِنينًا أخرى بعيدًا عنْ ضَوءِ الشَّمسِ وأعْيُنِ النَّاس، لمُداواةِ الذَّاتِ والرُّوحِ ورَفعِ حصَانةِ العَقلِ درجةً أخرى، كُنتُ أتلوَ كثيرًا عندمَا أداوي حتِّى لا يَمسَّني الذُّعرَ لشدَّة الألمِ، مِثلمَا يُداويَ الرَّاهِبَ الفقيرَ وأسيرَ الحَربِ.

مرَّ عامٍ تِلوَ عامٍ أتَلذَّذُ بِحُرِّيتي، وأرفعُ درجة الحَذَرِ، ويَزدادَ يَقيني، أنَّ الإنسَان لا يَتعلَّم طُولَ ما أنَّه يَستأنِس الآخرينَ، كانَتْ خَطيئتي هيَ أنَّني إنسانٌ في الأصْل، ثمَّ خَطيئتي التَّالية الَّتي لا تُغتَفرْ، أنَّني أرْخَيتُ دَرجة الحَذرِ، لأنَّ الحَذَر المُفْرط قد أرهقَ ذَاتي، لنْ أعاتِبَ مَن ألقَى الأغلالَ، ولكنّ عِتابِي لِذاتي لأنَّني سَمحت. سَمحتُ لِقَيدٍ وَرُبما قَيدينِ بالتَّسلُّلِ، لأنَّني آمَنتْ بِقُدرتي على نَزعها في المَاضِي وتحمُّلِ تبعاتِها، فلا ضَيرَ بِنزعها لاحقًا.

لِذلكَ أطْلَقتُ عليها خَطيئة لا تَغتفَر، بَلْ هو تَجديفٌ صَريحٌ ارتَكبتَهُ بِحقِّي، أرتَكبتُها ولَمْ أكُن مُمتنًا بالمُبَاركَة الَّتي مُنحتْ لِي لَيلةِ نزعِ الأغلالِ والتَّطهيرَ بالألمِ، تِلك الكَلاليب الجَديدَةِ الَّتي سَمحتُ لها حاضرًا، لَمْ تَعُد تَختَرق اللَّحمَ، تَلكَ الأغلالِ أصبَحت مَعقودَةٌ بالرُّوحِ. وأظنُّ أنَّ نَزعهَا من الرُّوحِ سَيكلِّفُ الكَثير، يَتطلَّب إمكانية تَفوقُ البَشَر، مِثْلَ تميمَةٍ شَرِّيرةٍ، يَتطلَّب قِوى خَارِقة، سَمَاويِّة كانَتْ أم مُظلِمَةً لِحِلِّها. رُبما سأفقِدُ جُزءًا من عَقْلِي، ومَخافَتي تَكمُن في إستحَالةِ نزْعها بالأصْلِ.

ثَمَّ أدْرَكتُ أمرًا، وأقولها آسِفًا، لا مَناصَ للمَرءِ منَ الأغلالِ، هيَ آتيَةٌ لكُلِ نَفَسٍ، بإستثناء لو كُنتُ تَعيشَ في كَهفٍ، أو جَزيرةٍ مَعزولَة. لقَدْ رَأيتُ أناسًا يَحْبُون على رُكَبِهم لِتكالُبِ الأغلالِ عليهم. وعندمَا قَارنتُ موضعَ قدمي بهم، تَقبَّلتُ قَدَري، على الأقَلِ إلى الآن لمْ يَنحني ظَهري درجَةً وَاحدة جَراءِ تلك القيود. وعَقلِي لَمْ يَتلوَّث بعد. لازَال الآوانَ لمْ يَفُت بعد.

أخَافُ على عَقلي أكثَرَ منْ لِساني، بَدَني، ورُوحي، لأنَّ الرُّوحَ المُلوثَةٍ بالصَّدَأ، يَعني شُيوعَ الضَّرَرِ في أنحاءِ البَدنِ، بما فيهِ العَقل. مَع ذَلك فإنَّ هذا العَقل يُخيفني الَّذي حَصَّنتَهُ بكلِّ ما أوتيتْ، لِقُدرته على التلاعُب.

قدْ يَكونُ القَيد يَسيرُ الحِلُّ، وقَد لا يَكونُ موجودًا بالأصْل،

لأنَّ العَقلَ لا يَتهاون حتَّى مع صَغائرَ الأمور.

أعْرِفُ عَقْلِي جيدًا، فَقدْ شَهِدَ الكَثيرَ منَ المُوبِقَات، إنَّهُ يُجسِّدُ مَحاكِمَ التَّفتيش؛ صمَّامَ أمانٍ للذَّاتِ، وحصنٌ مَنيعٌ ضدَّ البِدَعِ والرِّجس، مَع ذلك فإن بُوصَلتَهُ الإرتيَاب، أحيانًا يُضخِّمُ من الخطَايا الصَّغيرة، ويَقيِّمه كتهديدٍ حتمي وَجَبَ استِئصَاله، يَرفعَه إلى درجةِ الهَرطَقة، ثم يُشيع الخوفَ والقَلق والتوجُّس. مَع ذلك فإن الحقَّ معهُ سَواءً كانَ دقيقًا في تَقديرهُ أو مُبَالغٌ فيهِ، فَمُهمَّته هيَ ردَعِ كلِّ ما يدنِّسُ الذاتَ، وتفادي تِكرارَ ذاتِ الحَوادِث.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٣ يونيو، ٢٥

[noirbeduzz]

[noirbeduzz]

العَالَم مَليءٌ بالخُطَاة، يُطْلِقُون الأحكَامَ على خَطَايَا الآخَرين، مُرتَكب الخَطيئة يُقرُّ بِخطِيئتِه، حتَّى يَرى خَطيئةٍ أخرى لَمْ يَرتَكبها، فَيُصيِّغُ هالةَ القدَاسَةِ من خِلالِها، ويُصدِّقُها، ومِن ثمَّ يُنَاشِدُ بإنزَالِ أشدِّ العِقابَ السَّماويْ والإنْسِيُّ على الخُطَاة. على الرَّغمِ من أنَّ قدَاسَتَهُ وُلدِتْ من رَجَاسةٍ لَمْ يَتطَهَّرْ منها، بَلْ يَتبَاهى بِها، لأنَّها أكَّدتْ قَدَاسَته، بِفضْلِها نالَ التجلِّي، لأنَّ وُطأتِها أهْوَنَ من رَجاسةِ الآخر.

كمْ يُبهرني ضُعف الإنسِ، يُبْهرني كَيفَ أنَّ الإنسَان يُثبتُ هَوانَه، وكَيفْ يَذْعَن سَريعًا للعَاطِفة والرَّغبةِ والمَخاوِف، وكَيفَ يَسمح للآليَاتِ الدِّفاعِ النَّفسية بِصياغةِ رُؤيتهِ ومَسيرتهِ نيابةً عنه، وكَيفْ يُكافِح بالإنكارِ والتَّهرب من بَديهيِّة إعوجاجِهِ الإنْسِي إلى قَداسَةٍ كاذِبَة، لا تَجني إلا توكيدًا على نُقْصَانِه الفِطْريْ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٥ مَايو ٢٥

[noirbeduzz]

اسْعَى للإنْسَانِ الوَاقِعي في كلِّ شُؤونِ حيَاتِك، ولا تَسْعَى للمُختَبئ ورَاء الوَاقِع، الكِيخوتِي، الَّذي لا يُميِّزْ بينَ الخيَالِ والوَاقِع في مَآربَ حياتِه.

وإنْ خَالفَكَ الوَاقِعيُّ في مَعاييركِ - ولنْ تَقدِر كإنسَان على مَرارةِ الإختِلافِ - فالمَعاييرَ لَنْ تَشْفَعَ في لَيالِ القَلقِ والأسَى، وفي المَصابَةِ والمِحَن، النَّفسيَّةِ والوُجودية. إن المُختَبِئ وراءَ الوَاقِع ليسَ بمُتميِّزٍ ومُتألِّق، بَلْ مرتاعٌ منْ مُجابَهةِ الحَيَاة، فَيُجمِّلَّ ملاذَهُ ويَنصَبْ قَوانينَهُ الوَضعيَّة، ويَتطرَّفَ بها، نِكَالاً لإخفَاقِهِ في نَيلِ مِقعدٍ بالحيَاةِ الوَاقِعية. هوَ ذاكَ عندَمَا تشتَدُّ العَاصِفةِ، كانَ أوَّلُ الهَاربين إلى مَلاذَه الآمِن، وإنْ أصَابَتهُ تشكَّى وتبَاكَى، ولو أصَابَكَ غادَرَ حيَّزكَ خوفًا على مَلاذِه.

اسْعَى لمِنْ يَملك قُوِّة التمييزَ، بينَ المَلاذَ الآمِن الشَّخصي، وبينَ الوَاقِع الغَليظ، لِمَن يَجرؤ على إبْرَازِ الفَاصَل بينَ عالمِه، والعَالمَ الوَاقِعي، فالمَرءُ في عَالمِهِ يَحلُمُ فَارسًا مِغوارًا، وفي الوَاقِع هو مُدركٌ أنَّهُ مُكافِحٌ في القِطَاع الخَاصِ بنَوبَتينِ عمَل. لأنَّ الوَاقِعي عندَمَا يَنظُر إليكَ خارجَ عالمَه الخاصْ فإنَّه يُجرِّدُكَ من�� مَعاييركَ الَّتي تتألَّق بها، ويُنظرُ إلى مَاهيَتك الحَقيقيَّة، إلى مَشَاعِرك الَّتي تشعرَ بها الآن، إلى أفكَارك الَّتي تُؤرقُك، وإلى نِبْرَتك الَّتي تَعكسُ شُعورك.

المَرءُ مُتميِّزٌ بمَلاذهِ - وجَمعينَا وأنَا من بَينهم نَعتَصِمُ لملاذَنا الخاصَ عندمَا تُظلَمُ السُّحب - المرءُ مُتأنِّقٌ بفلسَفَته الخاصَّة وبذَائقته، ومُتزمِّتْ في مُعتَقدَاتِه ومبَادِئهِ، حتِّى يَخرجَ إلى الوَاقِع، فَتُختَبِر جودةِ تلكَ المَعايير وجودَة تَألُّقِه، حينهُ يَأتي الاستثناء.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٤ مايو، ٢٥

[noirbeduzz]

1913March3rdMrAndMrsHart View at Nullbrook More from Nullbrook

[noirbeduzz]

في بَادِئ الأمر سَعَى لنَيلِ صُحبَةِ المُتمَيِّز، المُبْهِر والفَريد من نَوعِه، ثمَّ صَعَدَ دَرَجةً ورَغِبِ في صُحبَةِ الشَّغوفِ ذُو طموحٍ لا يَعرفَ الحُدودِ، ارتَقى دَرجةً أخرَى وسَعى لنيلِ صُحبةِ قَرينِ رُوحِه، منْ يُشَابِهَهُ في الذَّائقةِ، والفِكرِ، وكلَّ ممارسةٍ. أُشْبِعتْ جمَيعَ رَغبَاتِه، مع ذلك لمْ يَنَلْ غايَتَهُ.

ثمَّ تمهَّل، فكَّرَ وقدَّر، الأمْر على ما يَبدو لا يَسيرُ بهذهِ الطَّريقةِ، هَبَطَ دَرجَة، لا مانِع لتركِ الإهتماماتِ والمَعايير الثانوية، سَعيًا لصُحبَةِ أهلِ المَعرفةِ، لأن المُتعلِّم بإعتقَادِه البَريء مُلتزمٌ بالمَبادئ ويَجدُ غايتَهُ فيهم، مع ذَلك تَعذَّرتْ غايته عنِ المَجيءِ.

هَبَط دَرجةً أخْرَى مُتخليًا عنْ كلِّ المَعايير، سَعيًا لِصُحبةِ اللُّطفِ والتَّفهُمِ وحسْب. ثمَّ شَعرَ بالارتيَاحِ للمرَّة الأولى، طُمأنينَةً لمْ يُسْبَق له أن شَعَر بها طوالَ حياتِه.

وجَدَ ضالتَهُ في اللُّطْف، ولا شَيءَ سِوَى اللُّطفِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٤ مايو، ٢٥

[noirbeduzz]

عادَتْ الرُّؤيةُ أُحَاديةَ اللَّونِ مرةً أخرى، وتَلاشَيَ الظِّلالِ لإنْحِسَارِ الضَّوء، وعَادَ الجَبَليدِ يَسْحَقَ الصَّدْرِ، والبِنَاياتُ والأرْصِفَةِ تَخنِقُ عِندمَا أسْيرُ خَارجًا، وتَطغى التَّنهدَات على التّنفسِ، تَزهَرُ الزُّهورَ في الرَّبيع، وفي دَاخِلي ذَبُلِتْ زُهورِي بَعدَ رِعايةٍ مَديدة، وتيَبسَتْ خشنةً مِثْلَ الشَّظايا، يَأنَّ الرُّوحَ ألمًا منها، أدْرِكُ تلكَ البَوادِر جيدًا.

مَا يُعذِّبُني لَيسَ الأسَى بحدِّ ذاته، ولكنَّ الأنينَ الَّذي أسْمَعَه دَاخِلَ رَأسي دومًا عِندمَا يَهبِطُ الأسَى عَليْ، بالتَّأكيدِ ليسَ أنِيني فأعْرِفُ أنيني جيدًا، ولكنِّهُ أنينٌ ملائكيْ خَاشِعْ، مِثْلَ ترنيمَةً مُناجاةِ، نَقيٌّ مثلَ مياهٍ عذْبَة، ومُؤلمَةٍ مِثلَ روحٍ ضائعة تَستنجِدُ الحيَّ. فأتُوقُ للخَلاصِ، لا لِيَسكُن الفُؤادِ، ولكنِّ لأجْل سُكونِ الأنينِ. لأنَّ هذا الأنينُ يعزل مَسَامِعي عمَّا يَتوقُ للاسْتِمَاع، وعنْ كلَّ صَوتٍ يُسْمَع.

إنَّهُ الأسَى، يَأتي عَظيمًا مِثْلَ الطُّوفَانِ، يَبتَلِعَ كلَّ أشكَالٍ الحياةِ لِوهلةٍ، ويَغمِرهَا عُنوَةً، واليَقينَ بأنَّ الطُّوفانَ يَنحَسِرُ تَدْريجيًا، حتِّى يَمْنَحُ على الأقَلِّ إمْكَانيَّةُ السِّبَاحةِ والنَّجاةِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢١ إبريل، ٢٥

[noirbeduzz]

حسابك جدا جميل ، اتمنى تكتب الكثير 🙏🏻

أرجُو أن تَتحقَّق أمنياتُكِ. شُكرًا جزيلاً.

[noirbeduzz]

جَفَّ قَلَمِي، واقِعًا بينَ المُذكَّرَاتِ وإفْتِرَاضيًا على مِنصَّاتِ المَصْفوفَةِ. اشْتَقتُ لِشَهوةِ السَّردِ، والمُوَاصَلة المُستدِيمة بالكِتَابةَ. فَهيَ بمثابةِ قُوتُ يومِي، تدْفَعني للعَيشِ، والتحرُّك، هيَ بَهجَتي وعَزائي، مِسْنَدي ولِحَافي، مِصْبَاحي وبُوصَلتي، دونَها، أبْدو مِثَل فزَّاعةٍ جافَّةٍ، بلا حياةٍ ولا رُوحٍ وهيئةٍ تُثيرُ النُّفور، أو عابرٍ تَاهَ عنْ وُجهَتِه.

هَذِه النَّقاهة وَضَعتي في حيرةٍ لِبُرهةٍ منَ الزَّمَنِ، طَرحتُ على ذَاتي بِضْعَ تساؤلٍ: هلَّ لأنَّني اكتَفيتْ؟ وبَلَغتُ الاسْتِقرَارَ الدَّاخلي، ونفَّسْتُ بِشكلٍ جَيِّد عنْ الكَبْت العَاطِفِي، وأسْكَتُّ الهَمسَاتِ دَاخِلَ رَأسي، وتقبَّلتُ الألمَ والشُّرور؟

إنَّني أيَّهُا القَارئ، أيها المُسْتَمِعَ الوَفِي، لسْتُ بمُتحدِّثٍ في الوَاقِعِ، وألتَزِمَ الصَّمتُ دَهرًا، ليْسَ بِدَافِع الغرور، بَلْ لأنَّني أخَاف، وأبَالغُ بالخَوفِ، فَتنْحَسِرَ تلكَ الكَلمَاتِ، والأصْوَاتِ، والمَشَاعِرَ إلى الدَّاخِل، ومِنْ ثمَّ تُصدْرِ ضَجيجًا، وأنينًا، وقدْ تُبَالغُ وتَتسلَّلُ إلى مَنامِي على صِيغةِ كوابيسَ مُزعِجة، ولكنَّ المُطمَئنِ في الأمَرِ أن الكَوابيسَ انْقَطَعتْ مُؤخرًا.

وجَدتُ المُداواةِ في الكِتَابة، هُنَا وهُناكَ بينَ الوَرقِ حيثُ لا يَقرأهُ أحد. وكُنتُ أصيِّغَ منَ فائضَ الشُّعورِ الخامِ وأحوِّلهُ إلى كَلماتٍ تُقْرَأ، مُستعينًا بِبُوتقَةِ المِخيَالِ، وخَيَالي عظيمٌ، يَتَّسِعَ الكَونُ كُلُّه. فَأضعُ مَا يَختَلجُ صَدري مِلئ البُوتَقةِ، فَتسْردُ كلمَاتٍ قدْ تُربِتُ كَتِفي قَارئ، فيُسْكَنُ الضَّجيجِ في ��َاخلي وأجِدُ السَّكينةِ، وأتنهَّدُ كمَا يَتنهَّدُ الطِّفْلَ بعدَ بُكاءٍ طَويل.

رُبمَا لأنَّ الهمَسَاتِ لمْ تَعُدْ تحومُ دَاخِلَ رأسي، وسَكَنَ قَلبي أخيرًا عن الضَّجيجِ، وأفْرَغْتُ العِبئ الَّذي لازَمني لمُدَّةٍ منَ الزَّمن. مع ذَلك، لازَالَ الأمْرُ مَوضِعَ شَكٍّ، لمْ أقتَنِع بَعد، سَعيتُ أكثَر لنَيلِ السَبَب. ثمَّ طَرحتُ تساؤلٍ آخر، هَلْ الكِتابةِ والتَّعبير لمْ تَعُد تُجدي نَفعًا؟ وأنَّ مَشَاعري تحتَاجُ لمَادَةٍ أكبَرَ وأكثَرَ تَشويقًا لتَجد سُبلهَا نحو التَّنفيس؟ لا أعْرَفُ مَا يُنَاسِبُني بعد فيمَا يَتعلَّقُ بهذا الأمر، ولكنَّ المُتيَقنَ منهُ أنَّ الإنسَانَ تَزدَادَ شَهيَّته في إدْرَاكِ مَعنى الحَياةِ بأساليبَ جَديدة كُلمَا يَتقدَّم في مَسيرَتِه.

سَأستَثني مَسألةَ فُقدَانِ الشَّغف، لأنَّني شَغوفٌ بإكِتِشَافِ المَزيدِ عنِ الحَيَاةِ، على الرَّغمِ منَ الألامِ الَّتي لمْ أتجاوزها بَعد، وأخشَى أن الشَّغفَ النَّامي قدْ حلَّ محلَّ شَغفِ السَّردِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١١ إبْريل، ٢٥.

[noirbeduzz]

ʙᴏᴛᴀɴʏ ᴘᴛ. 1

P.D. Mood boards aren't back, but I've got some queued because I was stressed and needed a release...

[noirbeduzz]

غُرَابٌ يَعيشُ بينَ عِترةٍ منَ النُّسورِ، ظنَّ بِبَلاهةٍ أنَّهُ وَاحِدٌ مِنهُم لأنَّه يَنتمِيَ لذاتِ الجِنسِ وغايَةً لنَيلِ الشُّعور بالتَّفوُّقِ، رَحَّبَتْ النُّسُورِ بهِ، لَيسَ لأنَّهُ غُرَابٌ مُميَّزٌ بِقتامَةِ اللَّونِ، بَلْ لأنَّ ثمَّةِ سِمَاتٍ مُشتَركة كَأكْلِ اللَّحمِ. هُنَالِكَ ازْدِرَاءٌ خَفِي تَجاهَ الطَّائرَ القَاتِمْ، مَع ذَلك فَقدْ احتَاجَتْ النُّسورِ لِقُدُراتِ الغُرَابِ الغَير مُتوفِّرَةِ لديهم لأسْبَابٍ تتعلَّقُ بالكِبْرِيَاء، وقدْ ازدَادَتْ سَعادَةُ الغُرَابِ ازَّاءَ ذلك، حتَّى يَكادَ لهُ أن يُؤمِنَ بتَحوُّلِهِ لِنسْر.

كرَّسَ الغُرَابَ جُلَّ طَاقاتِهِ لإثْبَاتِ ذاتِهِ في أعْيُنٍ النُّسُورِ، يُقلِّدُ أسَاليبَهُم في الطَّيَرَان، انْقِضَاضِهِ السَّريعِ على الفَريسَةِ، ورُغمَ أنَّه لم يَكُنْ بِبَرَاعةِ النُّسُورِ في تَطْبِيقِهِ لِسِمَاتِهم، فَقدْ اطمَئنَّ بأنَّه تمكَّنَ من إبهَارِهم، على الرَّغمِ من أنَّه لَم يَتلَقَى إشَادَةً واحِدة منهم.

قَدَرَهُ غراب! وفي أعْينُهم مُجرَّدُ طائرٍ مُشرَّد. ظنَّ الغُرَابْ أنَّه سَيُحلِّقَ مع السَّرب، ولمْ يُدْرك أنَّ النِّسرَ مُنفَردٌ لا يُحلِّقَ مع القَطيعِ، فمَا بَالُ بطائرٍ أقلَّ رُتبَة؟ ثمَّ ظنَّ تارةً أخرى أنَّهُ سَيَحظَى بمَسكَنٍ وَفيرٍ ومَحمي، ولَمْ تَأذَن النُّسُورَ بأنْ يَتَخذِ عُشًا في مِنطَقَتِهم، بَلْ عليهِ أنْ يَسكُنَ خارجَ إطَارَ حيِّزهم.

عِندَمَا تَنوي النَّسورَ للإصْطِيَادٍ، فإنَّهُم لا يُخبِرونَ الغُرَاب، خوفًا من أنْ يَكون نَعيقَهُ يُرْهِبَ الفَريسَةِ ويُفسِدَ عليهم هِواياتِهم. وعِندَما تَحتَفِلَ النُّسورَ بِصيدٍ ثَمين، فإنَّ الغُرَابَ يَتبقَّى لهُ الجِيَف، ليسَتْ إهانَةً، بَلْ نَصيبٌ يَليقُ بِمكَانَتهِ. حتَّى على الرَّغمِ من كَونِه مُرحبٌ بهِ مَعْهُم، وأقنَعَ ذاتَهُ لكَونِه نِسْرًا، مَع ذَلكْ فإنَّ الحُدودَ لدَى النُّسُورِ واضِحةٌ لا يَنبَغي التعدِّي عليها.

ذاتَ لَيلةٍ تَسلَّل الغُرَابُ لَيَسْتَرقَ السَّمع، وسَرَق أُذُنَيهِ همْسَةِ أحدِهم، بأنَّ الغُرَابَ باتَ مِثْلَ الشَّوكَة على خَاصِرتِنا، وتَشوُّهٍ لعِرقِ النُّسور، وهَرطَقةٌ أمامَ عشائرَ النُّسورِ الأخرى. إمَّا أنْ يُلْقَى خارجًا أو يُقتَل.

رَفْرَفَ الغُرَاب بِجنَاحيهِ بكلِّ ما أًوتيَ من قوَّةٍ، وحلَّقَ إلَى أقصَى أرْضٍ وَقعتْ عليهِ عَيناه. أسْتَوَى على غُصنٍ، وأدْرَك في أسَى، أنَّ جُزءًا كبيرًا من حَيَاتِه كانَتْ كَذِبَة، فَلمْ يَكُن نِسْرًا، ولمْ يَكُنْ مُرَحبًا بهِ. إنَّ أسَاه لمْ يَكُن في مَكيدَةِ النُّسُورِ، ولكنَ في عدَمِ تقبُّلِ مَاهيَتهِ، وتَحَايُلهِ على الذَّاتِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٥ مارس، ٢٥

[noirbeduzz]

يُلمْلِمُ الشِّتَاءَ مَتَاعَه، مُودِّعًا الأرْضَ بِغُيومٍ بَيضَاءَ وعَاصِفَةً هَوجَاءَ بزَمْهريرَ، وتَارةً يُلاطِفُ الأرْضَ بِرذاذَاتِ الثَّلجِ والمَطَر، يَبدُو مِثْلَ السَّيدَةِ المُسِنَّة وهِيَ تُلقِي بِقَطَعِ الحَلوَى على الأطْفَالِ قُبَيلَ المُغادَرةِ.

لَقدْ كانَ شِتَاءًا سَاحِرًا، خَاليًا منَ الأسَى مُنذ مَا يُقاربَ لِعَقدٍ، ورُغمَ أنَّ مَطْلَعهُ قاسيًا على الرُّوحِ، مع ذَلك فإنَّ تلكَ القَسْوَةِ تَتلاشَى مَعْ اشْتِدَادِ البُرودَةِ، كمَا يَتلاشَى الحُزنُ عِندمَا يَجيءُ طَاغيًا في بَادِئ الأمْرِ، ثمَّ يَنحسِرُ رويدًا.

ظَنًنتُ أنَّ القَسوةِ في هذا المَوسِم، سَتُواصِلُ تَوغُّلها بينَ العُروقِ لِتُحجِمَ قَبضَتها على القَلبِ مِثَلَ وباءٍ طُفَيليْ، مع ذَلك شَعرْتُ بِحصَانَةٍ رُوحيَّة قَاومَتْ وُطئةِ الشِّتاء لمْ أشْعُرْ بها منْذُ عقدٍ منَ الزَّمَنِ.

وفي الشِّتاءِ تَوقَّفتْ يَداي عنْ صِيَاغةِ الأحْرُفِ طَوَالَ الشِّتَاءِ، ودَخلَ المِخيَالُ حالةَ الكُمونِ، فيمَا الشُّعورَ فَقدْ أحيلَ للتَّجمُد. إنَّ سَبَبَ عُزوفيَ عنِ السَّردِ – وإنَّني في بَالَغ الأسَفِ – لأنَّني لَمْ أكُن مَوجودًا، لا وَعيًا ولا رُوحًا، ولكنَّ بالجَسَدِ فَقط. غادَرتُ في الشِّتَاء أرْضَ الوَاقِع لأجلٍ غيرَ مُسمَّى، وتَجلَّيتُ نحوَ المَاضي، سَعيًا في اسْتِقرَاءِ المَزيدِ منَ الذِّكرَى، ومنْ ثمَّ إحيَاؤُها. بَقيتُ في رِحلةٍ رُوحيَّة طَوالَ المَوْسِم، مِثل بَاحثٍ يَسعى للإجاباتِ، أو مُتَصوِّفٌ يَسْعَى للتجلِّي الرُّوحي.

أَطمَئنُّ وأقول؛ الآن بَاتَتْ ذِكرياتي جَليَّةٌ، مَلمُوسَةٌ ألتَمِسَهُا بِيديَّ، بنُعومَتِها وخُشونَتِها، وأشمُّ رَائحتِها، وأسْمَعُ كلَّ نَغمَةٍ ونِبَرة تَصْدَحُ منها، ويَستَجيبُ شُعوري مَعهَا كَمَا لو أنَّها ظَاهرةٌ حيِّة، ولَيسَت من أرشِيفِ الخيَالِ، ويَنبُضَ القَلب تَفاعُلاً مع كمَا لو أنَّهُ يَعيشُ اللَّحظةِ حاضِرًا.

كلَّ ذِكْرَى تَتضَّحْ تَلتَحقُ بها ذِكْرِى أخْرَى قابِلِة للاسْتِقراء، حتَّى تَتحوَّل إلى سِلسلةٌ منَ الذِّكريَاتُ الجَليَّةِ تُعادُ وتُسرَدُ بشُعورها ومَلمَسُها. الآن عَرفتُ مَصدْرَ كلَّ ذِكرى، بمَا فيها الذِّكريَاتِ المُشوشَةِ عصيَّةُ التَّعرفُ عليها.

الآن حُلَّت جَميعَ الألغَازِ، وأنْحَسَرَ ضَّبَابَ المَجهولِ عنْ بَعضِ الذِّكريَاتِ، أرَى شَريطَ الأمْسِ وقَدْ أعيدَ تَجسيدُ مُحتويَاته جَليًا مِثَل لُوحَةٍ أعيدَتْ تَرميمُها، بَعضُها شديدةُ الجَمَالِ حدَّ النُّشوَةِ، وأخرَى قاتِمَةٍ حدَّ الألَمِ، ولأنَّني سُكِرتُ بالجَمَالِ وتَغاضَيتُ عمْدًا عمَّا يُجلِبُ الأسَى، فَقَدْ طَالَ بَقائي في الحَّيزَ المَجازي منَ العَالمِ.

سُكِرتُ بِذكرَياتِ الصِّبَى، وأحيَيتُ شُعورَ الأمْسِ، وأتمَمتهُ بِشُعوري الحَالي، مِثَل حلِّ أحجيَةٍ أُسْطُوريَّة، تَربُطُ بَينَ المَاضي والحَاضِرْ. سُكِرتُ حدَّ أنَّني نَسيتُ الوَاقِع، نَسيتُ ذَاتي، ونَسيتُ أُسْرَتي، ونَسيتُ الحَيَاة، كًأنَّني قِدْيسٌ تجلَّى لحيِّزٍ خَارجَ نِطَاقِ العَالمِ، ولمَّا عادَ رأَى أنَّ الحَيَاةَ لم تَعُدْ كمَا كَانَتْ عِندمَا تَرَكها، ويَتسائَلُ في حِيرةٍ: هَلَّ لأنَّ مُدِّة تِرحالَه الرُّوحي قدْ طَالَ، أمْ لأنَّ الحَيِّزَ الخَارِقَ قدْ سَحَرَه؟

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٥ مَارس ٢٥

[noirbeduzz]

نَشَأ فَارِسًا وقَاتِلاً، توَّجَهِ، وهيَّئهُ أبَاهُ على هَذِهِ الفِطْرَةِ ولَمْ يَكُن يَعيَ مَا يَفعَل، ولَمْ يَكْن عَقْلَهُ مِلكٌ لهُ فَقدْ كَانْ يُمْلِى عليهِ عَقيدَتهُ وقدْ كَانَ أكثَرَ مِمَّا قِيلَ عنهُ. الكَثيرَ منَ الأكَاذِيبِ تمَّ حَشْوها كَافيًا لإحتِقَارِ ذاتِه، فُروسِّيتهِ، ومَلكَه عِندَمَا يَسْتَيقِظ.

لقدْ كَانَ التَّتويجَ بُهتانًا، فَلمْ يَعرْفَ الحُبَّ قط ولُغَتهُ هيَ الكُرهَ، وَوُعودَهُ هيَ القَتْل، وبِها يُغذِّيَ مَجدْ أبَاهُ المَلِك. مع هَذَا فَقَدْ كانَ يَسعَى مُتفاخِرًا بالإفْكَ الَّذي تُوِّجَ بهِ ويَسْعَى بَاحِثًا عمَّا يَنقُصَهُ، وهوَ الحُبُّ، كيْ يَجدَ مُبرِّرًا لِغمْدِ سَيفَهُ، والتحرُّرِ منَ الأكَاذيبِ.

ولكِن، أنِّى لأدَاةِ العُنْفِ أنْ يَشْعُرَ بالحُبِّ؟ وأنَّى لمَن اعتَادَ الرَّقصَ على النُّصُلِ أن يَرْقُصَ على الحُبِّ؟

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٩ فِبْرَاير ٢٥

[noirbeduzz]

"أنَا أفكِّرْ إذًا أنَا مَوجُود."

بالشكِّ، يُؤكِّدَ المَرءُ هَويَّتَهُ.

لطَالمَا تقلَّبَ هَذَا الكُوجيتُو الدِّيكَارتي كَثيرًا في رَأسي لِفترةٍ منَ الزَّمَنِ، وقَدْ كَانَ مُلهَمَ الكَثيرِ منَ أعمَالِ الفنِّ السَّابِعِ، وحتِّى ألعَابَ الفِيديو، والأنميشَنْ، وخَاصَةً الَّتي تَدُور رِحاهَا حولَ نِهايةُ العَالِمِ ويَليهَا انْهِيَارِ الحضَارَةِ، والتَّيهُ الوُجودِيُّ الَّتي يَعْقِبَها، ومَا تَركْتُ عمَلاً فنَّيًا مَبنيٌَّ على الكُوجيتُو إلَّا ومَنَحتَهُ حقَّهُ في المُشَاهدَةِ سَعيًا في التَّيسُّرِ لفِهمِ مَا يَدورُ في جُعبَةِ دِيكارت. وقَدْ مَجَّدتُ بعضًا مِثَل سِلسلَةِ المَاتريكسْ، وارْهَبَتني بعضٌ مِثَل لعبةِ الفِيديو "Returnal" المَزيجُ المُعقَّدِ بينَ مبدَأ الكُوجيتو، وفلسفةِ "العَودُ الأبَديُّ" لِنيتشَه.

بَعيدًا عنِ الفنِّ السَّابِع، قَدْ يُطبَّقُ مبدَأ الكُوجيتُو على إنسَانِ اليومِ المُرَهَقُ منَ التمدُّنِ، فكُلُّ إنسَانٍ على قيدِ الحيَاةِ طَالمَا يَعي ذَلك، بالمُقابِلْ ليسَ كلُّ إنسَانٍ "مَوجودٌ" بالضَّرورةِ.

الشِّقُّ الأوَّل منَ المَبدَأ يُخبِرُنَا أنَّ التَّفكيرَ وَليدُ الشكِّ، فَمَن يَجرؤُ يَشكُّ، ثمَّ يجْرؤ تارةً أخرَى لِيتَسائَل، وهيَ الخُطُوةُ الأولَى لتَأكيدِ هويَّةِ المَرءِ في عَالمٍ يُجرَّدُ فيهِ الإنسَانَ منَ أصَالَتِه وهويَّتِهِ، فإنَّ افتتَاحيَّةِ التَّفكيرِ تبدَأ غالبًا ب: (كَيف؟ لِمَاذَا؟ هَلْ؟ إلخ) فَتلكَ المُفْرَداتِ هِيَ مَفاتيحُ التَّحرُّرِ منَ القُيودِ، وبُذورُ الشَّكِّ، والَّتي تَتَّسِمُ بالمُنَاهَضَةِ والرَّفضِ، الَّتي فَرَضَتهَا الارْهَاقَ الوُجودِيُّ، وعَجزِ الاسْتيعابِ، وتعذُّر توفيرِ الإجَاباتِ وضَبابيَّةِ جودَةِ العالمِ.

أمَّا الشَّقُّ الآخَر فَيُؤكِّدَ دِيكَارَتْ أنَّهُ لمُجرَّدَ السَّعيَ للإجَاباتِ، عبْرَ تَنشيطِ القَليلِ خَلايَا الدِّماغٍ والإقْرَارَ بإنَّ ثمَّة خطبٌ مَا عَجَزَ عن اسْتِقراءِهِ، فَقدْ نَالَ المَرءُ اسْتِقلاليَّتِهِ عنِ حَظيرَةِ المَصفوفَةِ، وعن نُظُمِ الطَوبَاويَّةِ المُزيَّفةِ، وحقَّقَ وُجودَهُ بِجُرأتِهِ على الشكِّ والتَّفكُّرِ. فطَالمَا أن المَرءُ على قيدِ التَّفكيرِ فَهوَ مُنَاهِضٌ لا يَثِقُ بالمَكانِ أو الشَّيءِ حَوْلَهُ حتِّى يَسْتَوعِبَهُ.

لِمُجرَّد أنْ يَستوعِبَ المَرءُ حيِّزَهُ، ويُشْبِع شُكوكَهُ بالتحرُّرِ منَ القَيدِ والخَوفِ، فإنَّهُ يُبَاد��رَ بالتحرُّكِ بصُورةٍ عكسيَّة، ويَرتَفعُ درجةَ الحَذَرِ لدَيهِ، ويُنمِّي النَّاقِصَ، ويُعزِّزَ حَصَانَتهُ الذَّاتية. إنَّ العَاجِزَ عنِ التَّفكيرِ غَيرُ مَوجودٍ، لأنَّهُ نُسخةٌ مُكرَّرَةِ، وخَائفٌ منَ الحَقيقَةِ الفَضْفَاضَة، وَقدْ أُمْلِيَ عليهِ كَيفَ يَعيشُ ويُدْرك، مِثَل البَشرِيُّ المُصَيَّغ دَاخِلَ أُنْبُوبٍ، المُبَرمَجٌ مِنْ قِبَل رُوبُوتَاتٍ تَابِعة لخَالِقي العَالمَ الطَّوبَاويّ، كَمَا المَوصُوفِ في أعمَالِ "ألدُوسْ هُكْسِلي" الأدَبيَّةِ.

إنَّ أفضَلَ مُرادِفٍ لمبدَأ الكُوجيتو لدَى الفنِّ السَّابِعِ هو "سلسلةُ المَاتريكْسْ"، فإنَّ العمَلَ هو صِيغةٌ مَرئيَّة منَ النصِّ المَكتوبِ، وأنَّ المَصفوفَةِ الَّتي شكَّ "نيو" بِشَأنِ أصَالتِه وسَعيهِ للتحرُّرِ منها لَيسَ وهمًا منَ مِخيَالِ المُخْرِج، بَلْ تَعبيرٌ مَجازٍ للعَالمِ في يَومنَا الحَاليِّ، عَالمٌ طَوبَاويٌّ آلِهَتَهُ العَولمَةِ والرَّأسمَالِ وقَسَاوسِتَهُ رِجَالُ السَّاسَةِ والأعمَالِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١ فِبراير ٢٥

[noirbeduzz]

يَظلُّ الإنْسَان يَتفنَّن بالحَديثِ عنِ المَوتِ وفي اسْتِقرَاءُه ورُبما مجَّدَهُ وحتِّى بَحثَ عنْ جَوهَرهِ منْ خِلالِ الفنِّ والفَلسفَةِ والدِّينِ، حتَّى يَحومَ المَوْتُ حَولَهُ فَيَصْمُتْ ويَطُولُ صَمته، مِثْلَ نسمةٍ تُخطِفَ ضوءَ الشَّمعِ بغتةً ويَصيرُ الحُضورُ مريبًا، والمكَان يَزدادُ حلكةً. قدْ يَدَّعيْ الإنسَان عَدمَ الخَوفِ مِنهُ، أو حتَّى يَتوقَ إليهِ لأنَّهُ الخَلاصُ الحَتْمِيْ منَ العَبثِ، حتَّى يَشمُّ رَائحَتَهُ فَتسْتَعرُّ غَريزَةُ البَقاءِ لَديهِ على حينِ غِرَّة.

كانَ المَوتُ مَنَاصَ الكَثير، ومُلهمَ الكَثير، مِثلما الكَثير يَتحاشَاهُ، مع ذَلك فإنَّ اليَقينَ أنَّ الجميعَ يَهابَه إنْ حَضَر حتِّى على الرَّغمِ منْ أنَّنا نَسيرُ نحوهُ كلَّ ساعةٍ. ذَلكَ لأنَّهُ مَجهولٌ بِطَبيعَتهِ ولُغزٌ لَمْ يَمنح مُجرِّبيهِ أيِّة إجاباتٍ بشَأنِه، والمَجهولُ غلاَّب، مَصدَر ذُعرٍ للإنْسِ، حِينَه كَتجربةٍ رُوحانيَة، ومَا يَليهِ لاحِقًا في العَالمِ الآخر، وقِلِّةٌ من يَجرؤ على المَجهولِ.

تُردِّدُ وَالدَتي: إنَّ وَقعةُ المَوتِ ثَقيلٌ، حيثُ يَشتهي المَرءَ المَوت أو يَتطفَّلَ عليه، حتِّى يَستجيبَ، إمَّا لأجْلِه أو لأجْلِ أحدٌ من حولَهُ، فَيُضعَف ويَنكسر، وإنْ آمَنَ بِحتميَّته.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٤ يَنايرْ ٢٥

[noirbeduzz]

أبْصَرْت وشَعرتْ ثمَّ فَكَّرت فَأصْدَرتُ ردَّةَ فِعلٍ، فَنَدِمتُ لأنَّني تعجَّلتْ، ثمَّ أحيِّيتُ الش��ُعورُ تارةً أخرى، وأعَدْتُ التَّفكيرَ، فَنَدِمتُ على نَدَمِي الأوَّل. ثمَّ تنَاسَيتْ ولمْ أنسَى، وأبْصَرتْ الجَانيَ بَعدَ ردَحٍ منَ الزَّمنِ وقدْ غَرِقَ في وَحِلِ جِنَايَتِه، ورُبمَا ماتَ عليهَا شَرَّ مِيتةٍ، ولَمْ تَكنُ لي يدٌ فيها، فَنَدِمتُ بأنَّني اسْتَهلَكتْ الكَثيرَ منَ الوَقتِ أسيرًا لدَى التَّفكيرِ والشًّعورِ.

ثمَّ عَاودْتُ التَّفكيرَ، ولَمْ أُقْلِع، لأنَّ ألمَ الجانِي قدْ فَاقَ ألَمِي، وتبدَّل الشَّفقةِ محلَّ التَّشفِّي، وسَألتُ ذاتي، هَلْ كانَ الجَاني هُو أم عَقلي؟ هَلْ كَانَ التَّفكيرَ في مَوضِعِهِ أمْ أنَّ الأمرَ لا يَستَحقَّ وحسْب؟

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١١ يَناير ٢٥

[noirbeduzz]

Couple skating on Peblingesøen, Copenhagen. Photography by: P. Elfelt, 1917.