Tumgik
#ترجمة_مي_عاشور
maiiashour · 8 months
Text
ليو ليانغ تشنغ: موتي
عن الصينية مي عاشور
Tumblr media
هم أشخاص ينتظرون الموت. عندما غادرت خوانغ شا ليانغ (قرية في منطقة شينجيانغ مسقط رأس الكاتب) قبل عشرين عاما، كانوا يجلسون ليتشمسوا عند سفح السور دون أن يفعلوا أي شيء آخر. حينها، لم يكن يظهر عليهم التقدم الشديد في العمر، كان يبدو وكأنهم في الثامنة أو التاسعة والأربعين من عمرهم، أو حتى في الخمسين. قد كبر أولادهم وبناتهم، وتولوا شؤون الأسرة بدلاً منهم. وهاهم قد أصبحوا بلا عمل منذ وقت طويل. كل يوم حينما تلقي الشمس بأشعتها على شرقي الجدار، يجلسون في الناحية الشرقية للجدار يدخنون ولا يفعلون شيئاً. وعندما تنتقل الشمس إلى غربي الجدار، ينتقلون إلى الناحية الغربية فيغفوا قليلاً أو يثرثرون.
لم أعد أرى بضعة أشخاص من بينهم. أما الباقون فينتظرون أن ينتقلوا من الخمسين إلى الستين، ومن الستين إلى السبعين من العمر، ومازال الموت لم يقترب من أي منهم بعد. أحيانا يبدو وكأنهم ينتظرون بقلق، يقفون على قارعة الطريق ويسرحون بنظرهم برهة في الأفق، ثم يعاودون الجلوس عند سفح الجدار.
أعرف أن الناس في هذا المكان يهرولون في الطرقات، عندما يكونون في العشرين أو الثلاثين من عمرهم. وعندما يصبحون في الأربعين، يعملون بإخلاص في قطعة أرض. وعندما يبلغون الخمسين، يجلسون فقط عند الجدار ليستمتعوا بالشمس، وحينما يصلونإلى هذه السن، يبدأون في التفكير في أمور ما بعد الموت؛ فهم يدركون قتامة عالم الموت وبرودته، عتمته ورطوبته. لذلك، لا يتوقفون عن التعرض لأشعة الشمس ولو للحظة، يتركونها تجفف الهواء البارد الكامن في عظامهم، وتبخر الرطوبة الموجودة في رؤوسهم، ويتركون كل فتحة مسام في أجسادهم تخزن النور وتمتلىء به، إذ يصعب أن يتخلل النور إلى قلب الإنسان في مثل هذه السن، وقد صار الطريق بين روحه وجسده وعرا منذ أمد بعيد؛ فعندما تترنح الدنيا، ويمر جسد الإنسان وروحه بتجارب كثيرة، يكون جسده قد أُنهك، وصارت بعض الممرات مسدودة موصدة.
عندما يصبح هؤلاء الناس في السبعين من عمرهم، لا يبرحون منازلهم من الأساس، يقبعون طوال اليوم بداخل حجرة صغيرة مظلمة؛وتكون تلك الحجرة عادة ملتصقة بحظيرة البقر، خالية من النوافذ، بل يستخدمون القطن والصوف لإحكام غلق الأبواب، أي يشرعون في التكيف شيئا فشيئا على وحدة وظلام عالم الموت. عندما يبلغون الخمسين من العمر، يكونون قد صنعوا النعش، دون أن يكون قد طلي بعد، فما زال خشبه ناصع البياض، ويوضع في كوخ مغطى بالقش. عندما يصبحون في الستين من عمرهم، يكون غطاء القش على النعش قد طار بفعل الرياح، فيصير النعش واضحا جليا أمام أعينهم، بل ويكون قد طلي باللك الأحمر الداكن. يرى الناس النعش وهم يتقدمون نحو السبعين، وحينما يصلون إلى هذه السن، يصبح الموت حدثاً سعيداً، بل ويكون احتفالهم بالموت كاحتفالهم بالزفاف.
عندما كنت طفلاً، كنت أغدو وأروح كثيرا أمام هؤلاء الرجال الطاعنين في السن، الذين يتشمسون، وأحيانًا كنت أتعب من اللعب، فأجلس معهم، وأسند ظهري إلى الجدار أيضا مثلهم، وأغلق عينيّ، وأصغي إلى شهيقهم وزفيرهم، وحديثهم المتقطع. أراهم يأخذون قيلولتهم، فتتدلى رؤسهم رويداً رويداً إلى الأسفل. عندما يتملكهم النعاس، تصير أجفانهم العليا مثل الأفاريز التي تنهار بشكل مفاجيء، فتتكوم على جفونهم السفلى، وكأن شيئا ما قد حُبس في الداخل، وشيئا ما عُزل في الخارج ولا يكون هناك متسع من الوقت للتجنب. يوجد مسنون لم يعد لهم  أن يفتحوا أعينهم، أو لا يرغبون في فتحها، وعندما ينظرون إلى شيء ما، يستخدمون قطعة صغيرة ورفيعة من البوص، ويضعونها بين جفونهم. عندما ينظرون تجاه الطريق، أنظر أيضا معهم. وحينها، لم أكن أعرف بالضبط ماذا رأوا في مثل هذا الطريق الخالي.
في نهاية ذلك الطريق، عندما رأيت موتي، كنت قريبا من الأربعين من عمري، فشعرت فجأة بوضوح، أنه سيأتي يوم أموت فيه أيضا، فهذه الحقيقة لا سبيل لي أن أتقبلها مطلقاً. ولكنني عجزت عن تخيل كل من موعد وطريقة موتي.
في فترة من الفترات، كان ينتابني دائما الخوف من ظهور مشكلة ما بمعدتي، وأعجز ثانية عن هضم حبة من الحبات الغذائية الموجودة في هذه الدنيا، فتصير الحياة كالعشب الذي جف، يذبل يوما تلو الآخر حتى يموت. وفي بعض الأيام، كان يملؤني الشك بشأن قلبي، الذي لا أراه؛ فهو يعمل في غرفة معتمة مظلمة، لدرجة أن الدم لا يميز لونه الأحمر. إن القلب الذي يخفق بلا توقف، يعرف بالتأكيد في أي لحظة سوف يتوقف تماماً، فهذه الحياة الطويلة المظلمة ستفنى في النهاية ذات يوم لا أعرفه. إن أموري في هذه الحياة متراكمة ومتلاحقة، ولكن عندما يتوقف قلبي، لن يكترث بالشيء الذي أفعله؛ عظيما كان أم تافها، حتى الذي سأكون قد بدأت تواً في عمله.
إذا كان الأمر حقاً هكذا،فلن ينبض قلبي مرة أخرى. لو كان الموت هو بداية مستحيل تجنبها، فهل بوسعي أن أترك ذراعي التي مازالت قوية، مرنة وصلبة، تحيا هنا بمفردها؟ وأجعلها تتحرك برشاقة وحيوية، بل وتحتضن حبيباتي اللاتي لم يتسع أمامي الوقت لتضمهن إلى صدري، وأتركها تربت مرة على كل أمر من الأمور المتبقية هنا، ثم تحلق بمفردها. هل يمكن أن أجعل عينيّ اللتين لم تكونا قصيرة النظر يوما ما، تنظر إلى الدنيا بمحبة عميقة كالماضي؟ إن المشاعر الرقيقة التي تملأ عينيّ تأبى أن تهرم، لا يمكنها أن تذوب هكذا في التراب. هل يمكنني أن أدع ساقيّ اللتين لم تعرفا التعب تسيران بلا توقف في طريق الحياة الذي ما زال طويلا؟ لا تخبروا قدميّ بالموت، دعوهما تركضان فلن يدركهما الموت ثانية.
 بداية من هذه السن، يكون الموت كالماء الذي يتجمد مع دخول الشتاء، يتخلل الجسد ببطء، يتحول إلى أمر من أمور الحياة، ولا نملك السيطرة على الخيالات المتعلقة به.
ربما أموت بهدوء ذات عصر منعش. أتوقف عن التنفس، كهؤلاء العمال الذين يوقفون العمل بالمناجل والمجارف التي يمسكونها بأيديهم، وحينها يكون الغبار الذي ملأ السماء، قد بدأ في الهبوط ببطء متناثرا، فيجعلني صياح شخص ما أفتح عينيّ، فأبصر شمس ذلك الظهر تُضيء جزءاً كبيراً غربي الجدار، والقمر يتصاعد من خلف كومة القش، والخرفان الشبعانة تعود مع القطيع، تثغو ليُفتح لها الباب، ويرد أمر بسيط في الدنيا تلك الحيوية إلى جسدي مرة أخرى.
هناك احتمال أن أموت وحيدا ذات شتاء قارس البرودة، يتكدس الثلج على الباب، وكأن الله سد كل السبل. عندما لا أرغب في الذهاب إلى أي مكان تتلاشى الطرق، وتحاوط قريتي البراري الثلجية مترامية الأطراف لتحميها. ولكن يظل لهيب مدفأتي مشتعلاً، ويكون لدي أكوام من الحطب المُقطع جيداً، والمخزن بنظام داخل الحجرة، ووعاء ممتليء نصفه بالماء، وثلاثة أو خمسة دو(وحدة كيل صينية تقارب الأردب) من القمح. بل ويكون هناك الكثير من الناس الذين أعرفهم ولا أعرفهم، يخاطرون بالمشي في الثلج، صوب هذه القرية البعيدة النائية، يجد كل واحد منهم صعوبة في السير، فتغرس قدمه في الثلج، بينما ينتزع الأخرى منه، يصلون آلاف الطرق إلى نافذتي وبابي.
عندما أموت، سيكون هناك الكثير من الأهل والأعزاء بجواري، سأسبقهم أولا في الرحيل إلى الدار الآخرة. سأزرع خضراوات، وأبني بيتا هناك وأنتظرهم.
عند موتي سأكون كالطفل، سأبكي ذعرا(يخاطب الكاتب هنا قريته والتي يشبهها بأم حنون تضمه إلى صدرها) سأجعلكِ تضميني إلى صدركِ. ومثل طفل رضيع ولد تواً، سأمص ثدييكِ بنهم. أجعلك تداعبيني، وتستخدمين أكثر الكلمات والتدليل دفئا على وجه الدنيا.
أتخيل أنني سأموت ببساطة، كحشرة صغيرة تحت فرع نبتة. إذا مت، فسيُترك جسدي كقطعة خشب داخل القرية، وعندما أعود إلى الحياة بعد سنوات طوال، سأجدها مازالت جامدة، تحمل سياج أو سقف بيت شخص ما، أو حتى أجدها قد أصبحت قطعة خشب يُربَط عليها لجام البقر في الباحة. فهذا المكان الغريب المشار إليه والمكتسح بغرابة، هو بيت ملك شخص، بابه ودرجه منهار، وجدرانه مائلة متصدعة، وقد هجرت باحته لزمن طويل.
دائمًا أفكر في طريقة لأستوضح بها موتي. ربما لس�� أنا من يسير خطوة تلو أخرى دانيا من ذلك الموت. ففي تلك اللحظة سأرى الجسد الذي لا أعترف به يموت رويدا رويدا. ينتفض، ويدفع بساقيه فجأة. أو ربما يكون هادئا ومطمئنا للغاية، ساكنا لا يتحرك. ربما، لن يكون بوسعي الرحيل بسهولة، وفقا للطريقة التي أرسمها في خيالي. إن الموت ليس عدوي، لا أحتاج إلى محو سعادة وفرحة عمري كله مقابل مجابهته.
عندما أموت، سيكون حقل القمح الذي زرعته طوال حياتي قد جُني كليا. فهنا، سيكون ممتلئا بحبات القمح المَجنية. أما هناك، فستكون أكوام من قش القمح الذهبي مكدسة. عندما أرحل، ستكون أجنحتي قد نَمت، وسيكون الدخان المتصاعد يومياً من مدخنة مطبخي، قد مهد لي دربا في السماء منذ أمد بعيد. ولكن، هل ستكون هناك سيقان زهور الجرس الصينية (نوع من النباتات الزهرية الصينية، تكون أزهارها على شكل الجرس) في عالمي الآخر الذي سأتلاشى فيه؟ هل سيكون هناك تراب وقطرات ندى؟ هل ستكون هناك سماء وأسراب طيور ورياح وباب فناء يقبع وسط الرياح؟ فكل ما سيكون بوسعي رؤيته هناك، هو الجذور وأرواح الكائنات فقط. أما الأزهار المتفتحة والثمار اليانعة فهيأسرار مدفونة بعمق في الدنيا، لا أعرفها.
في خريف السنة التي بلغت فيها العشرين من عمري، كان في بيتنا حصاد وافر، بل ونادر الحدوث. ملأ القمح سبعة وخمسين جوالا، وغطت الذرة الفناء، وكان هناك فول الصويا، عباد الشمس، واللفت، وغير ذلك. كانت هذه هي المرة الأولى منذ عشرات السنين التي نشعر فيها أن المخزن صغير، وأن الجوالات لا تكفي. عندما هبط الثلج للمرة الأولى في ذلك العام، كانت أكواز الذرة التي ليس لها مكان توضع فيه، مُكدسة فوق سطح المنزل، فتشجع وتثير جميع أنواع الطيور، لتتجول طوال الشتاء على سطح منزلنا. كنت أفكر في ذلك الوقت، إذا كان هناك حصاد سنوي جيد على مدار بضعة أعوام كحصاد هذا العام فستكفينا الحبوب الغذائية عمرا بأكمله، لدرجة أنه يمكننا أن نجلس السنوات المتبقية متكئين على الجدار دون أن نفعل أي شيء.
عندما بلغت الثلاثين من عمري، غادرت القرية وذهبت للعمل كمدير لقطاع الآلات الزراعية في ضواحي المدينة، وحينها كنت أتخيل أنني سأعمل على الأكث حتى سن الأربعينر، وأنني سأجني ما يكفيني طوال حياتي من الأموال، وبعدها أقبع في المنزل في هدوء.
الآن، أنا على مشارف الأربعين. أنا على يقين بأن العديد من الأفكار في هذه الحياة، ستذهب كلها أدراج الرياح. لا سبيل لي على الإطلاق أن أتوقف عن العمل عند عمر معين، حتى لو أصبح عمري ستين عاما، فستظل هناك أمور كبيرة متكدسة لذلك العمر، وقد رأيت حاليا تلك المرحلة النهائية التي ستجعلني أتوقف أخيرا؛ وهي الموت. وفجأة يراودني الذعر الشديد من الحياة التي تسير الى الأمام قدما.
علي أن أفعل بعض الأمور المتعلقة بموتي في وقت مبكر. على الأقل يمكن أن أن أنتظر مجيئه، وأنا أتشمس باسترخاء تحت أشعة الشمس، وكأنني أنتظر صديقًا مكتوبا عليه أن يأتي. طالما كان الإنسان هادئاً، يمكنه أن ينتظر الموت في سلام، بغض النظر ما إذا كان عند سفح سور هوانغشاليانغ الطيني، أو على المصطبة الصخرية الموجودة بجانب شارع في المدينة.
عندما يأتى الموت، نذهب معه. إلى أين سأ��هب عندما يتم إلغاء سجل الأحوال المدنية الخاص بي، وتُسحب مني وظيفتي وأرضي، ويُشطب اسمي من كل القوائم والأوراق؟ يا تُرى، صوب أي مكان سوف أذهب؟
أؤمن أن تلك الأيادي التي توقفت عن القيام بالأعمال الشاقة في هوانغشاليانغ، وصارت بلا عمل في الأرض منذ وقت طويل، قد شيدت بيوتاً في السماء، بيوتاً خاصة بها، أليست هذه البيوت أيضا مثل تلك الموجودة في القرية؟
أملك دارا واحدة على وجه هذه الأرض، وهي على وشك الفناء والتلاشي. أما في السماء فلا أملك طوبة واحدة أو حتى قرميدة. مكتوب أنكِ، يا هوانغشاليانغ، المقصد الوحيد لروحي المتشردة في كل مكان ونهاية مطافي.
عندما أرحل، سأكون كليا منتمياً إليكِ. ما تستطعين دفنه، غطه بترابك الأصفر. وما لن تغطيه، دعيه يتطاير في أفقكِ البعيد المفتوح، ويهبط ويرتفع مع ترابك، دخانك، أوراق شجرك وبذور أعشابك، لأعوام كثيرة متتالية. اتركيه يشعر مرة ثانية بنعمك وحيويتك، في أحضان رياحك.
دعيه يتحول إلى بذور ربيعك القادم. اجعليه ينبت مرة أخرى، ويُفَتح أزهاره.
يا خوانغ شا ليانغ يا حبيبتي
نشر النص في مجلة الصين اليوم 17 يوليو 2017
--
ليو ليانغ تشنغ، كاتب وأديب صيني معاصر، ولد عام 1962 في شينتجيانغ.
مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر
5 notes · View notes
younes-ben-amara · 7 years
Text
A tweet
السعادة هي الاستماع إلى ما ترجمته.... شكرا على الاهتمام بترجماتي #سان_ماو لو كانت هناك حياة أخرى #ترجمة_مي_عاشور #مجلة_الآداب https://t.co/0giqorZ8cg
— Mai Ashour (@MaiiAshour) October 31, 2017
0 notes
maiiashour · 17 hours
Text
Tumblr media
معكِ،
أكون كالبيوت المطلة على البحر...
إلهان برك
عن التركية مي عاشور
1 note · View note
maiiashour · 3 years
Text
چو جوه بينغ: الهدوء الثريّ
Tumblr media
يزداد العالم صخبًا، بينما يزداد يومي هدوءًا. أحب قضاء أيام ساكنة. قطعًا، الهدوء لا يعني الركود، ولا الانغلاق، مثل بئر فيه ماء بلا حراك. في عصر ما، كان العالم الرحب بالنسبة إلينا مجرد أسطورة نَعجز عن تأكيدها، كان ينزوي كل منا برُكن صغيرة، كمسمار مدقوق لا يغير مكانه أبدًا. بعد تخرجي من الجامعة مباشرة، أُرسلت للعمل في منطقة جبلية نائية، وهناك، كانت الحياة ساكنة، بل ووتيرية. وكأن الأيام تجمدت، لم تكن مثل نهر، بل أشبه ببئر.
لكن لاحقًا، تبدّل الزمن فجأة، وصارت أيام البشر تشبه نهرًا ذاب جليده، فانساب متداخلًا تحت نور الشمس، وفوق سطح الأرض. أما أنا فكنت أشبه بنهر خزن طاقة مهولة، وتدفقت بمجراه أمواج الحياة العتيدة المتلاطمة، فحولت سنوات شبابي إلى تيار مضطرب غير مستقر.
أما الآن فقد عدت مجددًا إلى الهدوء. ولكنه هدوء جاء بعد إيقاع صاخب. فبعد أن مررت بالعديد من الصدمات والمنحنيات، شعرت وكأن نهر حياتي قد وصل أخيرًا إلى واد مترامي الأطراف، وتراكم مُشكلًا بحيرة شاسعة الاتساع. ذات مرة، جلست عند البحيرة الموجودة أسفل جبال الألب، متأملًا انعكاس صورة الجبال الثلجية، والغيوم البيضاء والغابات التي يناطح غموضها الأفق الأزرق. أعلم أنه لا زال هناك حراك في البحيرة، بل وأن عمقها هو الذي أفضى على صفحتها سكونًا كالمرآة.
"إن قلبي يمتلئ بالشكوك صوب كل القضايا كثيرة الضجة، والمشاعر المبالغ في إعلانها والتعبير عنها، فهما دائمًا يذكرانني بمقولة شكسبير الساخرة من الحياة: "زاخرة بالصخب والغضب، لا جدوى منها""
أيامي فعلًا غاية في الهدوء. أمكث يوميًا في البيت للقراءة والكتابة، وليس لي شأن بحلقات واجتماعات الصخب الموجودة بالخارج. أستمتع بالدفء الأسري للناس العاديين مع زوجتي وابنتي، لا تربطني أدنى علاقة بأماكن الترفيه واللهو. فأنا راضٍ جدًا عن هذه الأيام؛ لأن السكينة تغمر نفسي.
قد يحتاج كل منا في مرحلة ما في حياته إلى قدر من الحركة والصخب. وحينها، ستحتاج الحيوية الفياضة للتدفق إلى الخارج، بل والبحث عن مجرى لها، وتحديد واجهة تدفقها ومسارها. ولكن، مستحيل أن يظل المرء ثابتًا عند هذه المرحلة إلى الأبد. يقول تولستوي: "تصير حياتي أكثر روحانية، بتقدمي في العمر". فربما يفسر الناس ذلك على أنها إشارة للعَجَز والوهن، ولكنني أدرك جيدًا، رغم كبر سن تولستوي حينذاك، إلا أنه كان أكثر حيوية من هم في نفس عمره، بل وحتى أكثر نشاطًا من شباب كثيرين. بالأحرى، وحدها الحيوية العظيمة، يمكنها أن تتطور تدريجيًا صوب الروحانية.
"في رأيي أن الهدوء الثري هو الحالة الأعظم في الحياة. فالهدوء، يكون بسبب التحرر من الإغراءات السطحية الزائفة للعالم الخارجي. أما ثراؤه، فهو لامتلاك كنز العالم الروحاني الداخلي"
في رأيي أن الهدوء الثري هو الحالة الأعظم في الحياة. فالهدوء، يكون بسبب التحرر من الإغراءات السطحية الزائفة للعالم الخارجي. أما ثراؤه، فهو لامتلاك كنز العالم الروحاني الداخلي. قال طاغور: "حركة العالم اللانهائية تثبت أنه لا يوجد ثمة هدف يمكننا الوصول إليه، وبل وأن ذلك الهدف موجود بمكان آخر؛ فهو يكمن في العالم الداخلي للروح. أكثر ما تتوق إليه قلوبنا هناك، هو راحة البال والطمأنينة المبنية على الإنجازات. وهناك، سنلتقي بإلهنا". وقال أيضًا: "الإله، هو الحب الكامن في الروح المطمئنة على الإطلاق". والحب الذي يتحدث عنه ينبغي أن يكون شاملًا وواسع المعنى، يشير للإنجازات المحققة، وغنى الروح، والقلب المتسع بالمحبة، فكل ذلك يجتاز الصراعات الدنيوية، ويكمن في السلام الدائم. فهذه الحالة، هي أسمى مراحل الهدوء الثري.
أنا لا أُقصي الصخب تمامًا، فهو أيضًا يمكن أن يكون له مغزى. ولكن في نهاية المطاف الصخب هو من خصائص الأنشطة الخارجية، فلو خلا النشاط الخارجي من سعي روحاني، باعتباره قوة محركة له، أو من قيمة روحانية كهدف من أهدافه، فقطعًا سيكون فقيرًا وخاويًا في جوهره، حتى لو كان حيويًا وعظيمًا في مظهره. إن قلبي يمتلئ بالشكوك صوب كل القضايا كثيرة الضجة، والمشاعر المبالغ في إعلانها والتعبير عنها، فهما دائمًا يذكرانني بمقولة شكسبير الساخرة من الحياة: "زاخرة بالصخب والغضب، لا جدوى منها".
چو جوه بينغ: كاتب ومترجم صيني معاصر، باحث في معهد الفلسفة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. ولد عام 1945 في مدينة شنغهاي، وتخرج من جامعة بكين في قسم الفلسفة عام 1967. ترجم أعمال نيتشه إلى الصينية، وله العديد من المؤلفات النثرية التي يطغى عليها الطابع التأملي.
ترجمتها عن الصينية مي عاشور.
نشر 12 يناير 2022
5 notes · View notes
maiiashour · 5 years
Text
چو جوه بينغ :الوحدة نوع من القدرات
دائمًا ما يعتبر الناس التواصل نوعًا من القدرات، لكنهم يتجاهلون كون الوحدة مقدرة أيضًا، بل وأنها عند معنى بعينه تعد مقدرة أكثر أهمية من التواصل. لا شك في أن عدم البراعة في التواصل هو شيء مؤسف، وعدم تحمل الوحدة ليس ضروريًا أن يكون نوعًا من القصور الشديد.
إن تحمل الوحدة هو نوع من القدرات، صعب أن يمتلكها أي إنسان في أي وقت. كما أن امتلاك هذه المقدرة لا يعني عدم مداهمة الشعور بالوحدة للمرء مجددًا، لكن تحويل الوحدة إلى قوة إنتاجية.
هناك ثلاث حالات لوحدة المرء:
الحالة الأولى: القلق والحيرة، والتشوش، وفقدان رغبتك في فعل أي شيء، وخفقان قلبك بالوحدة.
الحالة الثانية: أن تألف الوحدة تدريجيًا؛ يهدأ فؤادك، وتضع نظامًا لحياتك، وتستخدم القراءة والكتابة وغيرهما من الأشياء لطردها.
الحالة الثالثة: تصير الوحدة تربة خصبة وفرصة عظيمة للإبداع والشعر، وكذلك تؤدي إلى تفكير عميق وخلق تجربة متعلقة بالبقاء والحياة والذات.
إن الوحدة تجربة جميلة وكذلك من اللحظات الرائعة في الحياة؛ فرغم وجود قدر من الشعور بالوحدة، إلا أن يكمن بداخله نوعا من الثراء. إن العيش داخل جدران الوحدة هو حيز لا غنى "لا توجد ثمة علاقة بين شخصية المرء وميله إلى البقاء وحيدًا، فالإنسان الذي يميل إلى الوحدة، يمكن أن تكون شخصيته مفعمة بالحيوية في الوقت ذاته، وكذلك يُحب أن يكون لديه أصدقاء"عنه لنمو الروح، فعندما نعيش وحيدين، نبتعد عن مهامنا والآخرين، ونعود إلى ذواتنا. وفي تلك اللحظة، نصبح بمفردنا أمام الله وأنفسنا، ومن ثم نبدأ حوارًا مع ذواتنا ومع قوة الكون الغامضة.
عندما أتناقش مع الآخرين عن الماضي والحاضر، وأستشهد وأقتبس من الكتب الكلاسيكية، فذلك نوع من النقاش والدردشة، لكن عندما أنغمس فقط في قراءة أعمال الفطاحل الكبار والأساتذة العظام على مر العصور، حينها فقط تتدفق إلى قلبي مشاعر روحانية حقيقية. وحينما أسافر مع الآخرين تُعدّ سفرة وحسب، لكن حينما أجول سلاسل الجبال الضخمة والبحور الشاسعة بمفردي، حينها فقط أشعر أن هناك تواصلًا حقيقيًا بيني وبين الطبيعة.
تنطلق الحياة الروحانية بكل معانيها عندما نعيش بمفردنا.
يحتاج المرء إلى العزلة، من وجهة نظر علم النفس؛ وذلك من أجل التواؤُم مع ذاته الداخلية. وما يسمى بالتواؤم، هو أن نضع التجارب الجديدة في مكان في ذاكرتنا. ومن يمرون بهذه المرحلة فقط من الوفاق والانسجام، يمتصون المؤثرات الخارجية، وبهذا الشكل يمكن أن تصير ذواتهم مستقلة ومتنامية. لذلك، فوجود قدرة تحمل الوحدة أو انعدامها، له علاقة جدية بمقدرة المرء على بناء عالم داخلي يشبعه ويرضيه، كما أن هذا بوسعه أن يطور ويؤثر أيضًا على علاقته بالعالم الخارجي.
كيف يمكننا أن نَحكم إذا كان هذا المرء أو ذاك يملك "ذاتًا" أم لا؟ هناك طريقة موثوق بها لاختبار ذلك؛ هي أن ترى إذا كان يطيق، أو في استطاعته، البقاء وحيدًا أم لا. عندما تكون وحدك، هل تشعر بملل قاتل، وأنكَ لا تطيق تحمل ذلك، أم تشعر بالسكينة والغنى والرضا؟
لا توجد ثمة علاقة بين شخصية المرء وميله إلى البقاء وحيدًا، فالإنسان الذي يميل إلى الوحدة، يمكن أن تكون شخصيته مفعمة بالحيوية في الوقت ذاته، وكذلك يُحب أن يكون لديه أصدقاء. وبغض النظر كم يكون مبتهجًا لتواصله مع الآخرين، ففي نهاية المطاف تكون العزلة أو الوحدة حاجة ماسة في حياته. فمن وجهه نظره أن الحياة التي تفتقر إلى التواصل، هي حياة ناقصة، وتلك التي تخلو من الوحدة بإختصار تكون كارثية.
لا يوجد شخص على وجه البسيطة بوسعه تحمل الوحدة المطلقة. لكن من لا يطيق تحمل الوحدة إطلاقًا، هو شخص روحه خاوية. وهناك مثل هؤلاء الناس في الدنيا، أكثر ما يخشونه هو الوحدة، فإن جعلتهم يختلون بأنفسهم لبعض الوقت، يكون هذا بالنسبة إليهم نوعًا من التعذيب الوحشي. فعندما يصبحون غير منشغلين، سرعان ما يبحثون عن مكان يذهبون إليه للتسلية. فتبدو الأيام التي يقضونها في ظاهرها أيامًا ممتعة مفعمة بالحيوية، لكن في واقع الأمر، تكون قلوبهم خاوية مقفرة. فكل ما يفعلونه هو تجنب مواجهة أنفسهم بقدر المستطاع.
لدي تفسير واحد تجاه هذا الأمر، فهؤلاء يشعرون بنقص ذواتهم؛ لأن مصاحبتهم لمثل هذه الذات الفقيرة، أمر ممل وخالٍ من أي مذاق ممتع، فيجدون أن الترفيه الممل يكون أمتع بكثير بالنسبة إليهم. ونتيجة لهذا يصيرون كل مدى فقراء النفس، ومع مرور الوقت يفقدون أنفسهم، وتحوطهم حلقة مفرغة.
*****
چو جوه بينغ: كاتب وشاعر ومترجم وفيلسوف صيني معاصر، باحث بمعهد الفلسفة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. ولد عام 1945 بمدينة شنغهاي، تخرج في جامعة بكين- قسم الفلسفة عام 1967، ترجم أعمال نيتشه إلى الصينية.
برأيي أن أقرب طريقة لكتابة اسم Zhou guo ping بالعربية هي چو جوه بينغ، في "چو" ينطق حرف الجيم معطشًا، لكن نطقه يكون أثقل، كأن يضاف حرف دال خفيف قبله. أما "جوه" فينطق حرف الجيم كما ينطق في اللهجة المصرية.
المترجم: مي عاشور
نشر في موقع ضفة ثالثة ٢٠١٩ مارس ٢٣
Tumblr media
6 notes · View notes
maiiashour · 5 years
Text
داي وانغ شو:زقاق مطير وقصائد أخرى
Tumblr media
زقاق مطير
أمسك مظلة من المشمع، وحدي
أهيم في زقاق مطير،
موحش، ممتد، وطويل:
أملاً أن التقي،
بصبية كالقرنفل،
يكمن بصدرها الحزن والأنين.
يجتمع فيها لون،
وعطر،
وشجن كما القرنفل.
تئن بالشكوى في رحاب المطر،
تئن وتتهادى،
وبلا واجهة تسير، في هذا الزقاق الموحش المطير.
تمسك بمظلة من المشمع،
تمامًا مثلي،
وأيضًا مثلي،
تخطو في صمت،
وحيدة، غير مبالية، وبفؤاد كسير.
تدنو الخطى،
وتقترب بسكون،
ترنو بنظرة أشبه بتنهيدة،
تمر بسرعة خاطفة كمنام،
كمنام عذب، مبهم وحزين.
تتطاير مثل قرنفلة،
في الحلم.
تلك الصبية التي مرت من جواري،
ابتعدت، ابتعدت في هدوء:
حتى وصلت إلى ذلك الجدار المتهدم،
ومشت حتى نهاية الزقاق المطير.
وسط لحن المطر الحزين،
تلاشى لونها،
وتناثر أريجها،
وحتى تبخرت،
نظرتها التي تشبه التنهيدة،
وحزنها الذي يشبه القرفل.
أحمل مظلة من المشمع،
وحدي أتأرجح،
في زقاق مطير، مقفر، منبسط، وطويل،
على أمل أن أصادف،
فتاة كالقرنفل،
يمتليء صدرها بالحزن والأنين.
بدون عنوان
يفصلني عن العالم جدار،
ويفصلني عن الجدار نور،
ويفصلني عن النور كتاب،
ويفصلني عن الكتاب قلة فهم.
شَجن
أقول إنه اكتئاب وحدة الخريف،
أقول إنه الشوق إلى البحر البعيد،
ولو سألني أحد عن سبب شجني،
لا أجرؤ على التفوه باسمكِ.
لا أجرؤ على النطق با��مكِ،
لو سألني أحد عن منبع همومي:
أقول إنه توق إلى البحر البعيد،
وكآبة وحدة الخريف.
داي وانغ شو (1905-1950): من أشهر الشعراء الصينيين، ولد في مدينة خانغ جو، ينتمي إلى التيار الرمزي الصيني الحديث. التحق بقسم الأدب في جامعة شنغهاي عام 1923. كتب ثلاث روايات، وترجم أشعار الشاعر الفرنسي بول فرلان. عام 1925 دخل إلى جامعة أورورا في شنغهاي (جامعة كاثوليكية تأسست عام 1903) ليتعلم اللغة الفرنسية، وهناك تأثر كثيراً بالتيار الرمزي الفرنسي، وبعد ذلك ذهب إلى الدراسة في فرنسا وإسبانيا. سُجن على يد القوات اليابانية بتهمة مناهضة اليابان، عند غزوها لهونغ كونغ عام 1941.
ترجمة عن الصينية مي عاشور
نشر في ضفة ثالثة أبريل ٢٠١٩
5 notes · View notes
maiiashour · 6 years
Text
لي يوه ليانغ: تلك الأمور الهائلة التي لا تعرفها
Tumblr media
ترجمتها عن الصينية‮: ‬مى عاشور
قد اجتزت‮ ‬أمورا هائلة‮ ‬في حياتك،‮ ‬ولكنك لا تدري‮. ‬
عندما كنت تبلغ‮ ‬خمس سنوات من عمرك،‮ ‬جريت علي والدك لتستقبله وهو عائد من عمله،‮ ‬ودون أن تنتبه وأنت تجري تعثرت وسقطت علي وجهك،‮ ‬ولكنك لم تُجرح‮. ‬لم تدر حينها،‮ ‬أن‮ ‬في نفس المكان الذي وقعت فيه،‮ ‬علي بعد‮ ‬اثنين سنتي متر بالتحديد،‮ ‬كان‮ ‬هناك مسمارا صغير إلي يسارك،‮ ‬وكان من الممكن أن تفقد عينك اليسري‮. ‬
وأنت في العاشرة من عمرك،‮ ‬كنت تمكث وحدك في المنزل تستعد لإعداد مكرونة سريعة التحضير،‮ ‬عندما وضعت البراد علي البوتاجاز،‮ ‬اتصلت بك أمك وطلبت منك أن تذهب إلي بيت جدتك،‮ ‬فأغلقت الباب وخرجت علي الفور،‮ ‬ونسيت تمامًا أنك قد تركت البوتاجاز مفتوحًا‮. ‬من حسن حظك أن‮ ‬الغاز كان قد نفد،‮ ‬بمجرد‮ ‬أن تبخرت الماء من البراد؛ مما منع‮ ‬نشوب حريق‮.‬
كنت في الخامسة عشرة من عمرك،‮ ‬عندما انتهيت من الدراسة ذات ليلة،‮ ‬وسلكت طريقك المعتاد للعودة إلي منزلك،‮ ‬لم تكن متوقعًا أن يدبر لك مجموعة من البلطجية الصغار مكيدة ويعترضون طريقك،‮ ‬ولكن من حسن حظك أنهم خافوا وتركوك عندما مر زوجان بالشارع‮.‬
أُصُبتِ‮ ‬بالانفلونزا عندما كُنتِ‮ ‬حامل،‮ ‬وأنتِ‮ ‬في الخامسة والعشرين من عمرك،‮ ‬وعندما ذهبتي إلي المستشفي لتأخذي حقنة،‮ ‬كتب لكِ‮ ‬الدكتور سهوًا علاج خاطيء‮. ‬عندما‮ ‬كانت الممرضة علي وشك أن تعطيكي حقنة مضاد حيوي،‮ ‬قد تتسبب في‮ ‬تشوه جنينك،‮ ‬لمحتها ممرضة أخري بالصدفة وهي مارة،‮ ‬ونبهتها أن هذه الحقنة لا تعطي إلي حوامل‮. ‬من يعرف النتيجة التي كانت ستترتب علي أخذك لهذه الحقنة،‮ ‬فمن حسن طالعك أنكي‮ ‬نجوتي من مصيبة ما كانت ستلحق‮ ‬بكِ‮. ‬
كم من مرة،‮ ‬كنت علي وشك السقوط في هاوية الأحزان،‮ ‬ولكن من حسن حظك فررت منها‮. ‬كم من مرة أنقذتك رحمة الله من الغرق في بحور الهلاك‮.‬
إذا عرفت مدي هول هذه المصائب،‮ ‬هل ستظل تشكو من الآلام والفشل،‮ ‬أو حتي الصعوبات الصغيرة التي تواجهك؟،‮ ‬هل‮ ‬ستشكو من درجة الامتحان السيئة التي حصلت عليها،‮ ‬أو من خداع‮ ‬حبيبك لك،‮ ‬أو من مرضك‮…. ‬ماذا تكون هذه الأشياء مقارنة بالأخري التي نجوت منها؟؛‮ ‬لذلك عزيزي،‮ ‬عندما تواجه صعوبات يجب عليك أن تكون واثقًا،‮ ‬أن الحياة رءوفة بكَ‮ ‬حقًا‮.‬
حتمًا إن حياتك مازال بها أمور أخري،‮ ‬لا تعرفها‮. ‬
‮ ‬عندما كنت تَبلغ‮ ‬من العمر ست سنوات،‮ ‬كان والدك يريد أن يرسلك‮ ‬إلي مدرسة لتتعلم الرسم؛ ولكن بسبب مرض جدتك المفاجيء،‮ ‬لم يصبح لديه متسع من الوقت؛ وبالتالي صرف نظر عن الأمر‮. ‬لا أحد يعلم،‮ ‬فربما كان الرسم اتسق مع ميولك،‮ ‬وكنت تفوقت وتميزت فيه؛ إذا كنت ذهبت إلي تلك المدرسة وتلقيت تعليمًا متخصصًا في هذا المجال‮. ‬
عندما‮ ‬كُنتِ‮ ‬في الثامنة عشرة من عمرك،‮ ‬أحببكِ‮ ‬شاب لوقت طويل دون أن يصارحك،‮ ‬ثم قرر أن يعترف لكي بحبه عبر جواب كتبه إليكِ‮. ‬ركض إلي صندوق البريد الموجود تحت بيتكِ‮ ‬ووضعه بحذر،‮ ‬ولكنه اختلط عليه رقم منزلك؛‮ ‬فكانت النتيجة أن الجواب‮ ‬أُرسل‮ ‬إلي‮ ‬جيرانك بدلاً‮ ‬منكِ،‮ ‬ومن المؤسف أنه ضاع‮ ‬بعد وقت طويل‮. ‬هذا الشاب،‮ ‬كان أجمل حب في شبابكِ،‮ ‬ولكنه هكذا مر‮ ‬مرور الكرام في حياتكِ‮. ‬
عندما كنت في‮ ‬الرابعة والعشرين من عمرك،‮ ‬ذهبت للتقدم‮ ‬لوظيفة في شركة كبيرة،‮ ‬وبعد جهد شديد وصلت إلي التصفيات الأخيرة،‮ ‬ولكنك لم تحصل عليها في النهاية‮. ‬فأنت لم تعرف يومًا،‮ ‬أن اسمك كان بين قائمة المرشحين للوظيفة،‮ ‬ولكن في اجتماع تحديد المقبولين بالوظيفة،‮ ‬خَلط أحد الموظفين المهمين‮ ‬بينك وبين شخص آخر كان أداؤه سيئا في مقابلة العمل؛ لذلك استبعدك بشكل قاطع‮. ‬هكذا كان الأمر،‮ ‬خسرت الوظيفة،‮ ‬بسبب خطأ متعلق بشخص آخر‮. ‬
مازال هناك العديد مثل هذه الأمور‮. ‬كم مرة‮ ‬كانت حياتك علي وشك التغير،‮ ‬ولكن انحرف‮ ‬مسارها كليًا‮ ‬في آخر لحظة؛ بسبب خطأ مفاجيء‮ ‬غير مفسر،‮ ‬أو ربما بسبب أنه‮ ‬لم يحالفك‮ ‬الحظ حينها‮. ‬
لذلك عزيزي،‮ ‬عندما تربح ورقة يانصيب،‮ ‬أو يرتفع شأنك،‮ ‬أو عندما تنجح‮ ‬في‮ ‬امتحان القبول بالجامعات أو الدراسات العليا،‮ ‬أو عندما تصبح أصغر مدير في عملك‮….. ‬لا داعي أن‮ ‬تفرد جناحيك محلقًا في السماء،‮ ‬ولا تعتقد بسهولة أن حظك وقوتك رائعتان؛ عليك أن تدرك جيدًا،‮ ‬أن هذه الأشياء هي جزء من الأمور الجميلة التي حدثت لك في حياتك،‮ ‬ولكن مازال هناك جزء آخر لم تصل إليه‮. ‬
في الحقيقة أن الحياة ليست تمامًا كما تراها،‮ ‬فقد مررت بهول من الأمور،‮ ‬دون أن تدري‮. ‬وإن علمت بها سيشيب لها رأسك،‮ ‬ولن تهتم بما جنيته أو خسرته اليوم‮.‬
إن الحياة لا تدلل أحدا،‮ ‬فكل شخص يمكنه أن يتعرض لنكسات ويمر بصعوبات‮. ‬
عندما تنظر إلي هذه الأمور،‮ ‬وتجد نفسك قد مررت بمنعطفات الحياة بهدوء‮ ‬ورسوخ،‮ ‬فثق أنك حتمًا ستحيا حياة أفضل‮.
نشر في أخبار الأدب: ‬ 21/03/2015
7 notes · View notes
maiiashour · 6 years
Text
جمال ثريا:سفينة ال 8:10
Tumblr media
عدسة مي عاشور
سفينة الـ8:10
أتعلمين ماذا يَكمن في صوتكِ؟،
 زهرة شتوية حريرية زرقاء،
وسط بستان.
وصعودك للطابق العلوي،
لتدخين سيجارة.
أتعرفين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
به لغة تركية ساهدة،
وعدم امتنانك لعملك،
وكرهكِ لهذه المدينة،
وكذلك رجل يثني جريدته.
  أتعلمين ماذا يَكمن في صوتكِ؟
تكمن به القبلات القديمة،
وزجاج البانيو المغبش،
وغيابكِ لبضعة أيام،
وأغاني المدرسة.
  أتعرفين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
فيه فوضى البيت،
وملامسة يديك لرأسك مرارًا،
وتنظيمكِ لوحدتكِ المشتتة وسط الرياح.
   أتعلمين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
تكمن به تلك الكلمات التي عجزتِ عن قولها،
وأشياء صغيرة ربما،
ولكنها تقف في ساعات هذا النهار،
كنصب تذكاري.
أتعرفين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
به كلمات لم تقل. 
ترجمة مي عاشور
3 notes · View notes
maiiashour · 6 years
Text
ون آي يي: ليل رياح سحب ونجوم
Tumblr media
الليل
جسرعائم يُفضي إلى الغد.
الرياح
تُغير ذاتها بمرور الزمن،
وتتجاهل تتويجها للسماء.
ولكن حريتكِ تَكمن في ضَياعكِ.                    
السحب 
ناعمة
ولكنّ بين ثنياها أمطاراً رعدية.
النجوم 
كأنها شموع،
تُضيء جدولاً غائر الأعماق
تبدو ضئيلة، ولكنها جبارة.  
الشلالات 
تتفتت   
ورغم ذلك،
ما زالت ملتحمة كالتحام اللحم بالعظام.
السُحب المُنسابة 
أجنحة بلا جذور.
الوقت 
كلٌّ من الحاضر، والماضي، والمستقبل؛
حبيس شبكتكَ.
نور  الشمس
لغة مشتركة بين البشر. 
البحر
ثمرة الصراع بين،
السماء والأرض. 
رذاذ  الأمواج 
على الرغم من أنكَ سريع التفتت،  
إلا أنكَ ما زلت زهرة.
الهواء
رغم أنكَ لم تظهر أبداً على مرمى بصر البشر، 
إنما وجودك كظلهم التابع لهم.  
النظرات
تَبدو وكأن ثمة شيئاً لم يحدث على الإطلاق،
ولكنها أمواج هائجة في قلب الهدوء.
بلا عنوان
سحابة رقيقة عذبة
ولكن  يَكمن في أغوارها دَوِي عاصفة رعدية.
ترجمة عن الصينية مي عاشور
نشر في موقع ضفة ثالثة
1 note · View note
maiiashour · 6 years
Text
ون آي يي: ليل رياح سحب ونجوم
Tumblr media
الليل
جسرعائم يُفضي إلى الغد.
الرياح
تُغير ذاتها بمرور الزمن،
وتتجاهل تتويجها للسماء.
ولكن حريتكِ تَكمن في ضَياعكِ.                    
السحب 
ناعمة
ولكنّ بين ثنياها أمطاراً رعدية.
النجوم 
كأنها شموع،
تُضيء جدولاً غائر الأعماق
تبدو ضئيلة، ولكنها جبارة.  
الشلالات 
تتفتت   
ورغم ذلك،
ما زالت ملتحمة كالتحام اللحم بالعظام.
السُحب المُنسابة 
أجنحة بلا جذور.
الوقت 
كلٌّ من الحاضر، والماضي، والمستقبل؛
حبيس شبكتكَ.
نور  الشمس
لغة مشتركة بين البشر. 
البحر
ثمرة الصراع بين،
السماء والأرض. 
رذاذ  الأمواج 
على الرغم من أنكَ سريع التفتت،  
إلا أنكَ ما زلت زهرة.
الهواء
رغم أنكَ لم تظهر أبداً على مرمى بصر البشر، 
إنما وجودك كظلهم التابع لهم.  
النظرات
تَبدو وكأن ثمة شيئاً لم يحدث على الإطلاق،
ولكنها أمواج هائجة في قلب الهدوء.
بلا عنوان
سحابة رقيقة عذبة
ولكن  يَكمن في أغوارها دَوِي عاصفة رعدية.
ترجمة عن الصينية مي عاشور
نشر في موقع ضفة ثالثة
1 note · View note
maiiashour · 6 years
Text
يو تشيو يو:زهرة اللاماي
Tumblr media
(1)
الإنسان غريب الأطوار حقا، عندما يكون في غرفة أو مكان صغير، يسرح عقله في عالم الخيال ويهيم فيه طولا وعرضا، لكن حينما أكتب مذكرات أسفاري المتنوعة إلى الجبال الشاهقة المشهورة والأنهار الممتدة في كل بقاع الأرض، كانت هناكدوما بعض النقاط المبهمة وغير الجلية، ثابتة أمام عيني، ربما كان رجلاً مسنًا قابلته في الطريق صدفة، أو عصفورا صغيرا وقف إلى جانبي ولم يبرح، وربما كومة من القش جعلتني أختلس قيلولة صغيرة. ربما لم ألتقِ بكل ذلك في جولاتي، ولكن دائما تكون هناك نقاط مضيئة بارقة من الذكريات تنبثق إلى عقلي أينما وطأت قدماي، مما يشكل بعض العقد في خيط الحياة المنساب. نعم، إذا افترضنا أن الحياة كالخيط المنساب، فيمكننا أن نعتبر الأشياء ذات القيمة تشكل عقدا أو نقاطا.
 لأتخلص من أطراف الخيوط الطويلة الزائدة، وأتذكر فقط تلك العقد المعدودة، فهي في الحقيقة غنية أيضا بما يكفي. لذلك أريد أن أكتب عن زهرة استثنائية في سلسلة مذكرات السفر الخاصة بي؛ وهي زهرة البرقوق (لاماي). مكانها ليس قصيا، فهي موجودة في مشفى بغربي شانغهاي. كانت هذه الزهرة بمثابة ضوء خافت يومض بقلبي طوال رحلتي البعيدة الطويلة.
 (2)
الشخص ذو الخطوات المتينة الثابتة، قد تأتي عليه أوقات ويصاب بعلة. وأن يقطن مسافر في مشفى، ربما يكون هذا أكبر تناقض نفسي يتعرض له. يريد طاقة جسدية، ولكنه لا يجد، يتطلع إلى مساحة، ولكن لا تكون هناك مساحة، فينتظر وسط بحور القلق وقلة الحيلة، دون أن يعرف متى يمكنه أن ينتقل إلى المحطة التالية من الحياة.
يبدو أن لكل مجتهد نصيبا، ولكن أحيانا يكون له عقاب أيضا. تكون خطاك نشيطة كالمعتاد، فتحملك إلى المجيء إلى هذا المشفى الصغير، لتبقى فيه مدة، يختلج في نفسك شعور بالوجل والاسترخاء. بغض النظر عن رغبتك في ذلك أم لا، وتعودك عليه أم لا.
المشفى الذي بقيت فيه هذه المرة كان في الأصل دارا خاصة لرجل أعمال أجنبي ثري. في حديقة المشفى أشجار كثيرة، ولكن للأسف، جردها الشتاء من أوراقها. اعتادت عيناي على رؤية المناظر الخلابة؛ لذلك باتت متعطشة باحثة طوال الوقت عن اللون الأخضر بين صفوف الأشجار الناضبة. لم أر سوى تشابك وتداخل اللون البني الترابي، وتجول المرضى الذين يرتدون ملابس من نفس الطراز بشكل متكرر، فكنت أشعر بالضيق يجسم على قلبي كلما تطلعت إليهم. يتوقف المرضى لتجاذب أطراف الحديث من حين إلى أخر. لم يكن كلامهم يخلو من الحديث عن المرض. وبدافع من الأدب، لم يكونوا يجرؤون على تبادل أسئلة كثيرة. ولكن، كان هناك مريضان يتجاذبان أطراف الحديث بسرور وبصوت عال بمجرد أن تتاح لهم فرصة لذلك. تقول الممرضة: إنهما مصابان بمرض عضال، وأن تفاؤلهما يحظى باحترام الناس وتقديرهم. وكذلك، كان الجميع يعرف أن هذا أيضانوع من الدعم النفسي والمعنوي القوي لهما. لكن، كان القليل من الناس يصغون إلى كلامهما الممزوج بالضحكات؛ لأنه ليس بوسع الجميع أن يظهروا ردود أفعال مطمئنة، أو يرسمون ابتسامات متكلفة. كانت الممرضة تصحبهما دائما للتمشي، وكان الجميع ينظر إلى هيئتهما من الخلف.
كان كل المرضى يحبون النوم والاستيقاظ مبكرا، وعند بزوغ الفجر، تكتظ الحديقة بهم. كان الجميع يهرعون إلى استنشاق الهواء بعمق، وتحريك الأيادي والأرجل، خشية من أن يأتي ضوء النهار، فيروا بوضوح جلي تلك الأشجار القاحلة العارية والملامح الشاحبة المريضة. في هذا الوقت فقط، يكون كل شيء بين النوم واليقظة، والطقس بارد و منعش، فينشرح صدرك، وتختلس فرصة لرؤية صباح باكر وغائم.
كانت الأيام تمر يوما بعد يوم على هذا النحو.ولكن، ذات صباح باكر، شعر الجميع فجأة أن الهواء مختلف، كأن هناك أمرا غير طبيعي، ذُعِرت ثم نظرت حولي، فأدركت أن الناس تجمهروا حول شيء، في زاوية ما في الحديقة. مشيت بخطى مسرعة، ومددت عنقي لأرى الأمر، فإذا بواحدة من زهور البرقوق التي تتفتح في الشتاء (لاماي) تطل من وسط الجموع الغفيرة. كان نور الشفق الخافت منعكسا على بتلة زهرة صفراء مشعة تفتحت توا. كان الذين يدنون منها يرددون اسمها على ألسنتهم، ولكن بمجرد أن يصلوا إلى جوارها لا يحركون ساكنا. جمال ونقاء الأريج الخفيف المنبعث منها، جعل الجميع ينجذب إليها. لا تشم شيئا إذا تعمدت أن تستنشق عطرها، لكن أنفك كله يعبق بهذا العطر عندما لا تستنشقه، وكأنه يسري وينتشر فجأة في روحك وجسدك.
كانت الزهرة، مجرد زهرة تفتحت لتوها. ولكن وجودها هنا كان أشبه بقطيع من الجمال في صحراء، مثل كوخ في جبال مقفرة، كرؤية مطر بعد قحل طال، كصفاء السماء بعد انهمار المطر طويلا. كان الأصدقاء المرضى، يتأملونها قليلا، ويحنون أجسادهم ببطء، ثم يتركون أماكنهم للناس المتكدسين من خلفهم. أما أنا، فتجولت مرتين في الحديقة، ثم توقفت مرة أخرى هناك، وانتظرت بصبر خلف جموع الناس. تحول المشي في المشفى كله، إلى حلقات حول زهرة لاماي، وكأنها باتت هي المركز.
(3)
عدد من مرضى المشفى مصابون بأمراضعصبية. عالمهم صغير، ضعفاء بدنيا وعقليا، إذا أرادوا التفكير في أي شىء، لا ينتهون من التفكير فيه. سمعت شخصا يقول إن العديد من ال��رضى تولدت بداخلهم مشاعر عاطفية تجاه ممرضة لطيفة جميلة. هذا شيء لا يمكن لومهم عليه على أي حال، أو أخذه على محمل الجد، بل هو شكل طبيعي من أشكال الضعف النفسي. وعندما يحين وقت خروجهم من المشفى، تكون نفسيتهم قد تعافت، وصار كل شىء كغيمة عابرة.
الآن كل مشاعر المرضى موجهة إلى زهرة لاماي، مصحوبة بافتتان جنوني. صديقان لي من المرضى الموجودين معي في نفس العنبر، كانا يقولان إنهما يشمان عطر الزهرة بمجرد أن يسيقظا مبكرا، لدرجة أن واحدا منهما قال إن عطر الزهرة يتسلل إلى أنفه فيجعله يستفيق، ولكن في الواقع كان عنبرنا بعيدا عن الزهرة بأربعين أو خمسين مترا على أقل تقدير.
أعتقد أن زهرة لاماي هذه أصبحت هوس المرضى. أفسحت جميع الأشجار المتنوعة والأغصان المتداخلة العشوائية المكان لها، فإذا هي تقف بزهو وشموخ وسط المكان، مما يجعل الناس يرون بوضوح أوضاعها كلها. أغصانها اليافعة الملتوية داكنة الخضرة، ملتفة بسواد أشبه بتجاعيد الزمن. إذا نظرت إلى أغصانها الجافة، بدت وكأنها ذبلت منذ أمد بعيد، وكأن نموذجا من تاريخ حزين يمتد هنا فحسب.
في الحقيقة، يصعب تصور أن تنبثق فجأة حيوات كثيرة نابضة بالحيوية، من وسط قمة هذه الأغصان. بتلات الزهرة لونها أصفر نقي، رقيقة جدا وكأنها ليس لها بنية أو تكوين. ظلال ألوانها المنعكسة، جميلة نضرة وشفافة كالبلور. كانت الحديقة بأسرها خالية من أي ألوان أخرى، وكأن سقوط الأوراق واصفرار الأغصان أحدث خريفا، وبرودة الطقس وتجمد الأرض جلب شتاء، فبات كلاهما تمهيدا لظهور زهرة لاماي.
 تهتز بتلات زهرة لاماي برقة وسط الرياح الباردة. هذا الاهتزاز بوسعه زلزلة كل السماوات الزرقاء الصافية. لم يعد يبغض المرضى الشتاء، وأمام زهرة لاماي، أدرك الجميع أن روعة الألوان وجمال عطرها، يصحبه ذلك البرد الصحو وحسب، وهذا ما خلّف المفهوم الجمالي للعبارة التالية: زهرة جميلة تصمد أمام البرد القارس.
كل يوم تتفتح بضع زهور من لاماي. بات حساب عدد براعمها وأزهارها، حدثا جللا لكل العنابر. ولذلك، كان يحدث دائما جدل حول ذلك. وعندما كان كل فرد يتشبث برأيه، كانوا يذهبون معا إلى فروع الزهرة ويعدونها بدقة. أحيانا، كان يحدث هذا الأمر في جنح الليل، حتى أن المرضى كانوا يرتدون ملابسهم وينهضون من فراشهم، ليدفنوا رؤسهم وسط فروع الزهرة تحت ضوء القمر في ليل قارس البرودة. كانت زهور لاماي الموجودة تحت ضوء القمر مقدسة للغاية، يطوقها الهدوء. يلتقى لمعان بتلاتها مع نور القمر الساطع، ويمتزج أريج الزهرة الصافي مع رائحة الليل، فينفذ إلى صدر المرء.
ذات يوم، استيقظت باكرا، كان الطقس باردا بشكل عجيب. دفعت النافذة لأنظر، فوجدت ندفات الثلج الكثيرة تتطاير، والحديقة كلها مكسوة باللون الأبيض الفضي. أصبحت زهور لاماي أكثر بروزا وإثارة للانتباه. مازالت منتصبة ممشوقة خلابة الهيئة، أضفى عليها العالم الأبيض بلمعانه الفضيطلة فريدة وأنيقة. بعض من المرضى الشباب أرادوا المخاطرة بالسير على الثلج مسرعي الخطى لرؤيتها، ولكن الممرضة منعتهم. قالت الممرضة بصوت خفيض، إن كلهم مرضى، كيف يمكنهم تحمل مثل هذه الرياح الباردة؟ كما أنهم لن يعودوا بسرعة!
كان المرضى الذين يقفون أسفل ممر الإفريز بالطابق الأرضي، وفي شرفة الطابق الثاني، ينظرون إلى زهرة لاماي بمشاعر دافئة حنونة. قال البعض إن هذا الثلج الكبير قطعا سيقطع العديد من أوراق زهورها، ولكن هناك من اعترض على هذا الرأي، في حين أكد آخرون أن الثلج الكثيف يساعد على تفتح براعمها أكثر وبشكل أسرع. في النهاية أثر هذا الجدال في نفس الممرضة، فبادرت بالتطوع للمخاطرة وسط الثلج لتحصي عدد زهور لاماي.
كانت هذه الممرضة شابة ممشوقة القوام، وبمجرد أن مضت قدما، ذابت ملابسها البيضاء وسط بياض الثلج الكثيف. تقدمت بخطى رشيقة حتى وصلت إلى زهرة لاماي. مسدت شعرها، وأخذت تحصي بدقة وهي تخفض وترفع رأسها. بالتأكيد هي تعلمت قدرا من الرقص، فشكل جسدها وهي تحصي عدد الأزهار كان يستعيد إلى ذاكرة الإنسان أسطورة "حورية سماوية تنثر الأزهار". في النهاية، عدلت جسدها، ونظرت صوب البناية الكبيرة وعلى شفتها ابتسامة خفيفة. اندفعت وسط الثلوج مُعلنة عن رقم، فهلل جميع المرضى الموجودين أعلى البناية وأسفلها. الرقم يدل على أن أزهار لاماي صمدت أمام ليلة ثلجية، بل على العكس ازداد عدد زهورها، ولم تذبل.
في نهاية ذاك الشهر، طلب المشفى من المرضى اختيار الممرضة المثالية، فحصلت الممرضة التي خاطرت في الثلج وذهبت لتعد الزهور على الأصوات كلها.
بعد بضعة أيام، انهمرت الأمطار فجأة. لا يكون المطر عادة بهذه الغزارة في شتاء شانغهاي. اجتمع المرضى كلهم تحت ممر الأفريز وأمام الشرفات. استوعب الجميع أن زهرتنا في خطر حقا هذه المرة. بضعة عيون ثاقبة النظر، ميزت تساقط بتلات الزهور من الأغضان. كانت زخات المطر تشتد كل فترة، وقد تطايرت بعض أوراق الأزهار في الممر. رفع المرضى رؤوسهم إلى السماء وأطلقوا تنهيدات بوجوه منزعجة. في ذلك الوقت، رن صوت عذب في الآذان قائلاً: "سأذهب لأنصب مظلة!"
كان هذا صوت ممرضة أخرى، فالممرضة التي تحدت الثلج وخاطرت لتعد الأزهار لم تأت إلى العمل اليوم. على الرغم من أن هذه الممرضة كانت هيفاء، كانت تتمتع بقدر من الروح الطفولية. حملت في يديها مظلة حمراء حريرية، وأخذت تتجول بعينيها من حولها. نسى المرضى أن يعبروا عن شكرهم لها، فقد أخذوا يراقبونها في صمت، وكأنهم رأوا شهابًا. فجأة منعها واحد من المرضى، قائلا إن المظلة الحمراء مبهرة للنظر غير متناسقة أبدا مع لون زهرة لاماي. زمت الممرضة شفتيها ضاحكة، أدارت جسدها وعادت إلى المكتب، وأحضرت مظلة حريرية صفراء اللون. اعترض مريض في آخر لحظة، قائلا إن اللون الأصفر يمكنه أن يطغي على اللون الأصفر لأزهار لاماي. من حسن الطالع أن الممرضات يستخدمن مظلات متعددة الألوان، في النهاية وقع الاختيار على مظلة بنفسجية اللون.
كانت الممرضة تنتعل حذاء أبيض واقيا من المطر، فتحت المظلة البنفسجية، ووصلت إلى زهرة لاماي، وأخذت حبلا وربطت المظلة فوق أغصانها. بعد أن انتهت من ربطها، ذهبت ممرضة أخرى تحمل مظلة لمعاونتها. عادت الفتاتان وكل منهما تمسك بذراع الأخرى.
(4)
جاء الربيع، وفي النهاية ذبلت أزهار لاماي. خرج المرضى من المشفى تباعا. كان كل منهم قبل أن يغادر، يذهب إلى زهرة لاماي يتأملها بعض الوقت.
نبتت البراعم الخضراء للأشجار المختلفة، وبدأت الحشائش الخضراء النابتة في الأرض تتمايل، أخذت تُشرق وجوه ونظرات المرضى تدريجيا. لم يمر وقت طويل حتى تفتحت أزهار ندية كثيرة، وكذلك تخللتها الفراشات والنحل. إن أصعب فصل يمكن تحمله في عنابر المشفى هو الشتاء، ولكن في هذا الشتاء كان لدينا أزهار لاماي.
في هذا الوقت ذبلت زهور لاماي واختبأت. شاخت وأصبحت مجعدة، وكأنها فرع يابس ناضب. تراهن بعض المرضى قائلين: "مهما حدث، سنأتي مرة أخرى، وندخل بلا استئذان لرؤية لاماي في شتاء هذا العام." قالت الممرضة: "لن تعودوا مرة ثانية، فنحن لا نتطلع إلى أن يزورنا الأصحاء بلا داع. فقد شفيتم، والأهم الآن أن تلحق خطاكم بالطريق. زهرة لاماي هذه تتفتح من أجل المرضى فقط."
عندما انتهت الممرضة من كلامها، توردت وجنتاها.
--
يو تشيو يو، كاتب صيني من مواليد مقاطعة تشجيانغ عام 1946، يشغل حاليا منصب رئيس أكاديمية "تشيو يو" للفنون.
ترجمة عن الصينية :مي عاشور
نشر في الصين اليوم عدد مايو 2018
1 note · View note
maiiashour · 7 years
Photo
Tumblr media
عشتُ لوقت طويل دون حب، لم يكن بسبب وجود طقس مطير ولا لكونه فصل الخريف، لكن فقط لأنني كُنت قد تحررت من حب قديم، وعجزت عن بدء حب آخر جديد. كان الحب بالنسبة لي عادة قديمة. في وقت من الأوقات كان يتملكني فضول لمعرفة كيف يعيش إنسان بلا حب، وكيف يأكل، وكيف يتجول، وفيم يفكر. أوكتاي أكبال أناس بلاحب
2 notes · View notes
maiiashour · 7 years
Text
الإدراك في رحاب المطر
لو لا يزال بعد المطر مطر،
لو بقي بعد الشجن شجن،
فأرجوك اجعلني أواجه بهدوء،
الفراق الذي يلي هذا الفراق.
وأستمر في البحث عنكَ مبتسمة،
يا مَن يستحيل أن تَظهر مجددًا.
Tumblr media
شي مو رونغ 
ترجمتها عن الصينية مي عاشور 
2 notes · View notes
maiiashour · 7 years
Photo
Tumblr media
الآن، أعيش في أكثر المدن صخباً وازدحاماً وتقدماً في العالم، ولكنني أشعر وكأن قلبي حُبس بداخل علبة صغيرة موصدة بإحكام، لا يتواصل مع الآخرين، ولا يرى نور الشمس الدافئ ولا يتنفس هواء نقيا صافيا. جدار القلب ليو يونغ ترجمة_مي_عاشور
1 note · View note
maiiashour · 6 years
Text
جمال ثريا: سفينة ال 8:10
Tumblr media
عدسة مي عاشور
سفينة الـ8:10
أتعلمين ماذا يَكمن في صوتكِ؟،
 زهرة شتوية حريرية زرقاء،
وسط بستان.
وصعودك للطابق العلوي،
لتدخين سيجارة.
أتعرفين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
به لغة تركية ساهدة،
وعدم امتنانك لعملك،
وكرهكِ لهذه المدينة،
وكذلك رجل يثني جريدته.
  أتعلمين ماذا يَكمن في صوتكِ؟
تكمن به القبلات القديمة،
وزجاج البانيو المغبش،
وغيابكِ لبضعة أيام،
وأغاني المدرسة.
  أتعرفين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
فيه فوضى البيت،
وملامسة يديك لرأسك مرارًا،
وتنظيمكِ لوحدتكِ المشتتة وسط الرياح.
   أتعلمين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
تكمن به تلك الكلمات التي عجزتِ عن قولها،
وأشياء صغيرة ربما،
ولكنها تقف في ساعات هذا النهار،
كنصب تذكاري.
أتعرفين ماذا يكمن في صوتكِ؟،
به كلمات لم تقل. 
ترجمة مي عاشور
0 notes
maiiashour · 6 years
Text
جمال ثريا:قلبان
Tumblr media
قلبان
أقصر طريق بين قلبين:
هو أن يستند ذراع كل منهما على الآخر،
ويستطيعان التلامس برؤوس أصابعهم،
من حين إلى آخر.
  أركض على السلالم هناك،
فالانتظار يكسب الوقت جسدًا.
جئت مبكرًا جدًا، ولكنني عجزت عن العثور عليكِ؛
وكأنها بروفة لشيء ما.
  تجتمع الطيور وتهاجر،
فيا ليتني أحببتكِ لهذا السبب وحسب.
ترجمتها عن التركية: مي عاشور
2 notes · View notes