اليوم .. شعرتُ وكأنّ الكون بأكمله يخضع لي وحدي، قررتُ الخروج بمفردي -على غير العادة- للتجول في ضواحي المدينة،
تلك السماء، السحب، الأرض، ذلك الهواء البارد .. يبتسموا لي جميعاً، وكأنني أنا الملكة، أشعر اليوم بأنني جميلة ومختلفة، أحب نفسي اليوم رغم التشتت الذهني والأرق الذي أعاني منه منذ ليالٍ عدة،
نظرت للنيل الذي يطل عليه منزلي، أنظر للسماء، ممتنة لذلك الإحساس بالحرية، لا أحد يمتلكني، سعيدة لهذا الشعور المفاجئ الذي مُنح إليّ من السماء، يا لحظّي اليوم.
أدندن بصوتٍ مسموع "البحر بيضحك ليه، وأنا نازلة أتدلع أملى القلل"، ليمر بجانبي رجل عجوز يرمقني بنظرةٍ لم أفهم معناها، لكن أظن كان يعني بها "هي الدنيا جرالها إيه"، لا يهم .. فأنا اليوم مِلكٌ لنفسي ولا أحد يستطيع أن يوقفني عن الغناء،
رغم أن المدينة التي أنتمي إليها تميل لعدم التحضّر، بل هي غير متحضّرة بتاتاً، ولكني لم أكترث لهذا الأمر، وقلت لنفسي تباً للمدينة وسكانها،
أضع السماعة في أذنيّ وأستمع للموسيقى وأبتسم، الآلات .. أجل الآ��ات الموسيقة تتعارك لتمنح روحي ذلك الإنتشاء المنعش، تقول المغنية " love came here, and never left." ربما معها حق، أشعر بالحب اليوم،
أُكمل سير حتى أصل ل"كُشك أم عيد"
-مساء الخييير، إزيك يا أم عيد؟
=إزيك ياقمر يا أم ضحكة حلوة حمدلله على السلامة،
هل قالت للتو حمدلله على السلامة؟ أينَ كنت؟ هل لهذه الدرجة طالَ غيابي عن الشارع؟ لا يهم ..
إبتسامة كبيرة .. صادفتُ بعدها العم جدو المبتسم الذي لا أعرف إسمه، لكن دائماً ولثلاث سنوات على التوالي أراه على درّاجته التي أعتبرها صديقته المقربة، ويوّزع إبتسامات للجميع بلا مقابل، يحتضنني بها، لا شك أنه ذاهب ليعيّد على العائلة والأصدقاء ثم يتوجه للكنيسة معهم،
بعمره لم يعرف إسمي ولم يعرف حتى بابا وماما أو حتى أي منزل من تلك المنازل هو منزلي، إبتسمت ..
وأكملتُ طريقي، أرى كل مكان وكأني أراهُ للمرة الأولى، رغم أني أحفظ كل الأرجاء كإسمي، لكن الوجوه، أحب النظر للوجوه، كل الوجوه مألوفة اليوم، وكل الأماكن غريبة، أتعرف على كل شئ للمرة الأولى، أظن أن نسخةً أخرى مني قد ولدت في عالم موازي آخر، وذلك سبب التأثير الغريب على روحي اليوم، فحينما نولد لا نشعر بالحزن، ربما نشعر بالخوف، ربما لا نشعر من الأساس، جاءت ببالي أغنية "بنتولد" لمحمد منير ورحتُ أدندنها في حين أني أستمع لأغنية أجنبية، عجيبٌ أمرك يا دماغي،
أمرّ بجانب منزل لطالما أحببت تصميمه الذي يُشعرني بالدفئ دائماً، أنظُر إليه بإبتسامة، أصوات الترانيم تعلو، يقف في الشُرفة طِفل يبدو في الثامنة من عمره تعلو وجهه تكشيرة ملحوظة، أبتسِم له، "كل سنة وانت طيب يا أبو عيون حلوة"، يبتسم ويخجل وتحمر وجنتيه وتختفي التكشيرة في المقابل، لأضحك وأُكمِل سَير، وأتمعن أكثر في الوجوه والملامح، وأسأل نفسي، لماذا يبدو الأغلب تعيساً؟ ، تباً للرأسمالية ..
زينة الشوارع، سيارات الشرطة تملئ المكان، بالأخص قُربَ الكنائس، أبتسم لأمين شرطة تآكلت ملامحه بحكم السن، هل يعمل كأمين شرطة منذُ الأبد؟ أم يقتل الملل قبل أن يقتلهُ؟ يبادلني الإبتسامة، الممزوجة بتكشيرة ترسم على وجهه طابع الجدية، منذُ الصّغر وأنا لديّ قناعةً تامة بأن الإبتسامة الصادقة تُذيب جليد القلوب الحزينة، وبعمري لم أفشل في ذلك -غض النظر عن غليظي القلب وجامدي المشاعر، فتلكَ الفئة لا أدخلها في حساباتي ولا أحب التحدّث عنها-،
البحر غضبان مابيضحكش
أصل الحكاية ماتضحكش
البحر جرحه مابيدبلش
وجرحنا ولا عمره دِبِل
بس أنا جرحي دِبل النهاردة يا شيخ إمام لمدة ساعة كاملة،
الكون طبطب عليا، لمسني لمساته السحرية،
أياً كان، صادفتُ عمي الذي لا أستلطفه، ولا أستلطف نظراته لي البتّة، ينظر لي كأنني فريسة، نظرة مكبّلة بالحقد، وسلّمتُ على عمتي الشمطاء في هاتفه، حيثُ كانت تحدّثه وأضطررت لأن أحدثها أيضاً، كله لأجل الأصول بس يا أبويا .. تركتهُ وذهبت لأحتسي القهوة، وما إن وصلت، نسيت ماذا كنتُ سأفعل، ضحكت على نفسي .. وطلبتُ كوباً من الأفاكودو الذي لم يفشل أبداً في منحي السعادة المرجوة .
وعدتُ إلى المنزل الّذي تغزوهُ الكآبة منذُ عدة أيام، والتي بدوري أتأثر بها، ولكنّي .. كنتُ ممتنّة لشعوري وقتها وممتنّة للكون الذي هيأ نفسه لخدمتي اليوم .