Tumgik
#بطل خارف
Text
لك نصيب من أسمك
يكاد الزحام أن يخنق ما به من صبر، لكن هدفه أسمى من يستسلم لرائحة العرق المختلطة وإلحاح الباعة على شراء ما لا يحتاجه. تلك المهمة أن يجد بذلة تليق بجسده النحيل لتتشرف به أخته في خطبتها. لو أردنا الدقة هي تلك الصديقة التي سُمح له أن يراها مرتين كل عام، مرة في عيد ميلادها والأخرى عيد ميلاده. بالنسبة له هي صلة العائلة الوحيدة التي أختارها عن محبة، على كل حال ليس الوقت المناسب للخوض في مسائل عائلية.
يوجد طريقة واحدة لوقف الحشد المتدافع وهي مصيبة تشبع فضولهم. تجمع كل من في الشارع حول تلك المرأة المكدورة وهي تصرخ بحثًا عن أبنها. هناك الكثير من ال "يا لهوي" و الخبط على الصدر والولولة بالطبع. وفي محاولة لتهدئتها أعطت مواصفات لفقيدها، وبحث أولاد الحلال، لكن اللاجدوى متصدرة. يعلم يوسف أن احتمال أن تكون عملية اختطاف. الجاني على اﻷرجح قد ذاب، وهو ليس وحده، ربما يكون هو ضمن "أولاد الحلال". لذا فقد ابتلع مرارته و سحب نفسه من الحشد عالمًا أن لا شيء ليفعله هنا، لا توجد معركة له هنا. 
دفع نفسه في الحافلة العامة، من زحام إلى زحام. وجد حيز لجسده في علبة السردين تلك ووقف، وحدثت معجزة وقام شخص من المقعد المقابل له وجلس وأعين الحاسدين تحيط به، كرسيه في ذلك الوقت أقيم من كرسي وزير. حتى ظهرت تلك السيدة تحمل طفل نائم عمره بين ست لثمان سنوات، عملت الشهامة عملها فأفسح لها المكان. جلست دون أن تشكره وكأنه حق مكتسب لا تحتاج حتى المطالبة به. أزعجه هذا بعض الشيء فأعطاها بعض التركيز والتحليل النفسي.
هزيلة هي، طوى العمر من خلجات وجهها الكثير قبل الآوان، صارعت يدها الشقاء والفقر كما ظاهر عليها. ملابسها قد تكون نظيفة لكنها لا تطابق نظافتها الشخصية أو حتى مستواها اﻷجتماعي.
 في نظرة للصبي فهو نظيف بملابس مهندمة، يا لها من أم مراعية تهتم بنظافة أبنها أكثر ما تهتم بنفسها.
 يبدو عليه التغذية من خذيه الموردين، يا لها أم حنونة تطعم طفلها وتهمل نفسها.
يبدو عليه الوسامة، يا لها من أم كريمة لم تعطه من جيناتها شيء لحسن حظه.
أما أنها اﻷم المثالية وقاد فات على الدولة أن تكرمها أو أن هذا الطفل ليس لها. وها قد لعب القدر معه ومعها ووضعها في طريقه. لكن مثل هذا الاستنتاج لا يكفي، أن حاول أن يهددها أو يصيح ويطلب النجدة لسوف تستخدم سلاح المرأة السري وتتهمه بمئات التهم. لذا فضل أن يبدأ معركته على مهل، يبدأها بحوار بسيط ينتهي بدعوة. بادر بالكلام:
- ربنا يخليهولك. ما تصحيه كده بدل ما أنتِ شايلة على كتفك، \جشكله مش صغير يعني.
= معلش يا بيه، أصله تعبان، فى اﻷبتدائية بقى وبيذاكر ودروس. 
- ياااه، دروس في إبتدائية؟
= أمال، هو بقى في رحمة في الزمن ده.
- المدرسين دول، أعوذ بالله منهم. عيل في اﻷبتدائية ودروس للسنة الجاية.
= آه، ولاد كلب كلهم.
- يا ستي هاتيه انا هبقى أذاكر له، مش مستاهلة يعني دروس.
لعب الفأر في عبها، نظرت له في عينيه للتبيين مقصده، فهي كأنثى بعيدة كمطمع لشاب مثله. لذا ضمرت له الحيطة وأضافت نظرة عدائية له.
- بس هو فى مدرسة ايه كده؟
هي لا تستطيع القراءة لكنها تعلم أن ملابس الطفل عليها شعار المدرسة وأسمها. لذا أي جواب يكشفها. لتفاجئه:
 - أنت عايز إيه يا جدع أنت؟ أوعى تكون فاكرني ست من أيهم. أيييه، عمال تتودود وترغي، ومنزلتش عينك من ع الواد. لاء أن كنت من اﻷوساخ دول فانا فى حما الناس دي كلها. لو أنت من خاطفين اﻷطفال دول تتربى، ولو حاجة تانية لامؤخذة تتفشخ.
هذا الموشح كافي لزلزلة شهامة رجال الحافلة، ليقول البعض "جرى أيه يا أستاذ عيب"، "هو الناس جرالها أيه بس"، "هما الرجالة خلاص ماتوا في الحرب". ويحاول آخرين تجنب المشاكل ويضيفوا "حصل خير"، "خلاص محصلش حاجة"، "شكله ابن ناس، مفيش حاجة يا ست خلاص"
لم يتوقعها يوسف بهذه السرعة، لم يبغي أن تُحصر في الزاوية. لذا وقف صامت، بنظرة ازبهلال بلهاء على وجهه تقول "مقصدش حاجة والله" . 
وقف صامتًا تحيطه عيون متفحصة. صراع ما بين إحراجه المتولد من شكوك من حوله ورغبته المستعرة في إرجاع الطفل. لم يدم الصراع طويلا ووقف يراقب المرأة دون أن يلفت أنظار تحلق حوله من الأساس. أستمر الوضع حتى هبطت تلك اليد على كتفه كما يفعل أمناء الشرطة. 
-ياااه، يوسف! ماشوفتكش من زمن يا جدع
انتفض بطبيعة الحال، والتفت ليجد هذا الوجه المألوف، وجه لا يتذكر أنه يحمل له أي نوع من المودة والصداقة. وحقيقة أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن أكدت نفسها. هذه اليد تنتمي لمحمود، أو محمود نخلة كما أطلقوا عليه في فترة الأعدادية. لم يتذكره يوسف في البداية لكن الوجه لم يحمل له أي طمأنينة قديمة. بادر محمود بالكلام:
- يااااااه، يوسف! فينك يا جدع.
= أزيك يا معلم، عامل أيه؟!
- انت مش فاكرني ياض؟ طب افكرك! يوسف هشاشة. 
وقهقه محمود في سماجة أرجعت الذاكرة ليوسف لأعوام من المرارة. لم يتذكر تاريخ بالتحديد حيث وُلد "يوسف هشاشة" في أذهان أقرانه في اﻷعدادية، لكنه يتذكر كيف شعر وقتها. أطلق محمود هذا اللقب بعد ملاحظة أن يوسف كان نادراً ما يظهر دون جبيرة لتضميد كسر، مرةً ساعد، مرةً قدم، مرةً ضلع، وإلى آخره. لن نتطرق الآن لتلك الكسور بل سنرجع لمحمود الذي اختاره القدر ليأتي في وقت حرج.
- فينك كده يا جدع؟ وأيه لسه بتتكسر لما حد يعطس جنبك ولا خفيت؟ مش شايف جبيرة يعني!
= أنا كويس يا محمود. وأنت مبطلتش تنمر على خلق الله ولا خفيت. 
وضحك اﻷثنان في تحدي متخفي في الكلام. 
- دخلت أيه على كده؟
= كلية الهم، هندسة. وأنت يا محمود شغال مع والدك لسه؟
- آه، ماسك الشغل مكانه بعد ما تعب. بس والله الدنيا صعبة  وضغط الشغل مبيبطلش ومبقتش جايبة همها. اتجوزت ولا لسه صحيح؟
- حد يعرف يتجوز في الزمن اﻷخبر ده! وأنت؟
= والله خطبت بس طلعت بنت كلب طماعة. وشبه مصطفى صاحبنا لو فاكره.
وضحك، وجامله يوسف في الضحك. في الحقيقة تفاجأ أنه بدأ ثرثرة في تلك الأمور الشخصية بعد هذا الزمن، مع أنهم لم يكونوا أصدقاء من اﻷساس، هي تلك العلاقة بين صياد وفريسة. ربما أدرك لمن يعود لقب "هشاشة". ثرثرة محمود لعبت دور في تشتيت اﻷنتباه عن يوسف، في النهاية هو "يوسف هشاشة"، ما أقصى ما قد يفعله هذا الضعيف.
استمرت الثرثرة وظل محمود يحكي تفاصيل مخجلة عن نفسه متخفية في سخرية من يوسف. حتى قررت المرأة أن تتحرك الى مقدمة الحافلة مغادرة أيها، يتحرك هو للمؤخرة لينزل معها في حيطة وحذر. ينزل كلاهما، خطوتها سريعة واثقة رغم حمل على كتفها. لا يتذكر كيف وصل لهذا المكان المقفر، هي تعرف إلى أين تذهب. 
توقفت فجأة، فدارى نفسه في شارع جانبي. حتى زعقت:
- كان عندك مية فرصة ترجع ومرجعتش. مش فاهمة ماشي ورايا ليه أصلا. اطلع كلمني زي الرجالة.
لا مفر إذن، هو أحمق ظن نفسه ذكيًا. خرج يواجهها، بالتأكيد عندما يخبر أنه يعرف جريمتها سترتكب. حتى قالت هي:
- أنا واخدة الواد؟ صح. بس عرفت منين؟ من اللبس؟ الشكل؟ زعلت والله، عشان كنت متشيكة عشان أبعد عن الشبهات.
= يا بجاحتك يا ولية، انتِ عارفة أن دي جريمة والحكومة هتعرف شغلها معاكي.
- هيهيهي، شالله يا حكومة. هي أول مرة يعني. عيل بشخة يجي يقولي جكومة!
يتقدم ناحيتها ليأخذ الطفل منها. حتى يشعر ينفس ثقيل من خلفه. ويد تقبض على كتفيه كأنه لعبة لا حول لها. ينظر خلفه ليجد هذا الباب اﻷدمي. يسدد هذا الشرس ضربة لوجهه ويتظاهر يوسف أنه أغشي عليه. هي حكمة لا يعلم مصدرها لكنه أدرك أنه أن قاوم سيخسر معلومات أكثر.
وضعه الرجل إلى جانب الحائط والمهملات بعدما عقد يديه في عقدة ظنها قوية مثله. وميز يوسف ذلك المخزن المهجور، هل أخذته السينما من الحقيقة أم ما حدث العكس؟ وتصدى له أربعة أصوات مختلفة. المرأة التي خطفت الطفل، ذلك العملاق الذي لا يتناسب صوته مع هيئته، ورجل آمر كما يبدو زعيمهم، وشخص أخر لم يكن يميزه شيء سوى تلك العلامات الصريحة على وجهه بأنه مقاتل شارع، دقه الشارع حتى فقد ما به من رحمة.
نطق الزعيم بعد ما سافرت عينيه بين المرأة ويوسف المسجي:
- بوليس؟
=  لاء، لاء. واد خايب مشي ورايا من اﻷتوبيس. مش فاهمة خد باله إزاي. هو الطقم مش يجنن يا معلم؟!
- ألاجه يا زينة. شكله مدسوس من حد، بس شكله مش مننا.
تكلم الدرفة البشرية الذي كان أسمه بالمناسبة الدوكش:
* أنا فتشته يا معلم، طلع حتة مهندس كحيان. محفظته متعديش السبعين جنيه. 
= هو الطقم مش حلو يا دوكش!
* حلو يا زينة والله.
= أمال شك فيا ليه.
حتى نطق يوسف أخيراً وهو في وضع الرهينة ذلك:
-- يا زينة انتِ مفضوحة أوي. غير أن حظك وحش واني كنت موجود لما أمه كانت بتصوت وبتسأل عليه. ومعرفتيش أسم المدرسة والفرق ما بينهم شاسع.
في نص جملته ضحكوا كلهم لركابهم كما يقول التشبيه. وقال الزعيم:
- حظها هي اللي وحش! ده أنت أمك كانت بتدعي عليك بأيديها وسنانها يا جدع. 
* هو العبيط ده فاكر هيخلص ويروح لصحابه على القهوة ولا أيه. 
وضحكوا مرة أخرى. وهنا يظهر "يوسف هشاشة" تلك الشخصية التي تكسرت عظامها بعدد لم يكترث له على عكس طبيب عظامه.تلك الخدعة البسيطة حيث يلوي إبهامه المكسور ليجد فراغ في العقدة ويحرر نفسه. وقف في وضع قتال لن يكون متكافئ بالمرة. تجمع حوله الثلاثة رجال أن كنا نحسب زينة أمرأة حقاً، لكنها وقفت متفرجة. أنهالت اللكمات من الثلاثة في محاولات بائسة ليتصدى لها. وقع أرضاً سريعاً حتى أن أحدهم أشفق عليه، لكن البقية تجمعوا على ركل ما يظهر منه.
من أين يأتي العون؟ وكيف تتحقق عدالة السماء؟ ربما من القمامة. وجد يوسف الذي يشعر بآلام مبرحة لكنه لم يتخل عن حماية بطنه ووجهه. وف تلك اﻷثناء مد يد للقمامة فوجد قطعة زجاج لها طرف مدبب لكن هل تكون كافية، لا يهم هو أمسك بها فقط هي أمله الآن. توقفوا بينما يستعد الزعيم لأن يهوى على رأسه بشيء ثقيل أو يغزه بسكين في قلبه. وفي تلك اللحظة كان يوسف واقفًا وكأنه من ضُرب شبيه له. لوح بسكينة الزجاجي ليقطع شرايين في قدم أثنان منهم، لقد تعلم تلك نقاط الضعف في شبابه، يعلم كيف يُسقط خصم في ثوان. لما لم يهاجم الدوكش في البداية، غبي! وأمسك الدوكش بيده ورمى منه لعبته. نظر الدوكش لعائلته و التمعت عيناه بلهيب. رفع يوسف من كتفيه فلم يستطع مقاومته، وتقدم ناحية الحائط، لوح به ليصدمه به بخبطة قد يأنّ الحائط لها أن كان يستطيع. ودار ليتفقد زعيمه. لم يكن في حسبانه أن المعركة على وشك البدأ لكنه رأى ما يدلل فاه. لقد قام يوسف بل وجرى ناحيته. يعلم الدوكش أن حائط مخزنهم ليس هلمي أو هش، تدارك الموقف وأسمك بيوسف مرة أخرى، وكرر الرمية بقوة أكبر. قام يوسف وجرى كسهم ناحيته. لكن الأمساك به كان يسير فكرر الفعل وكرر يوسف رده. حتى صرخ به الدوكش.
- أنت إيه يا جدع؟
لم يرد يوسف عليه لكنه ردّ تلك الجملة من تدريبه "دايما احمي قلبك وراسك، بكل اﻷشكال يا يوسف". وتقدم يوسف في مرة بعدها أدرك أن الدوكش أعسر ومهاجمته من اﻷمام أو اليسار ليست ذات فائدة. فناوره من يمنه وسدد له تلك ضربة إلى ذقنه ليترنح الدوكش من تلك الضربة الحاسمة، لكن لا، لا تكفي لتسقطه، ليس بعد. تسلق يوسف الرجل وأمام وحهه قال "جدي كان دايما يقولي أني دماغي ناشفة أوي. بس عمري ما عرفت هي ناشفة بجد ولا لأ" وسدد له ضربة رأس، سال دم الدوكش أخيراً، سقط أخيراً. أغشى على الثلاثة رجال. وكانت زينة لم تعي ما يحدث، هي أضعف من أن توجهه. معها سلاحها اﻷبيض ولكن رهبة أحاطت بها منعتها من التحرك. تقدم يوسف في خطوات بطيئة ناحيتها وقال:
- الطقم حلو بس مش لايق عليكي. وسدد لكمة أسقطتها هي اﻷخرى. كان الطفل قد فاق لحسن خظ يوسف ورأى ما حدث. هل كانت ترقص أطرافه من الرعب؟ هل هرب الدم من وجهه اﻷبيض ليُصبغ باﻷزرق؟ لا جدال في هذا. همس يوسف في رفق:
- ما تخافش كده. في رجل بيخاف؟ ووضغ يده على خذه في رفق حتى أطمئن الصبي.
- أسمك أيه بقى؟
= أسمي مهند يا عمو. وعندي سفن. ورفع سبع أصابع.
= وأنت أسمك أيه يا عم؟ أنت بات مان؟
قهقه يوسف وقال:
- لا ده جامد ده، أنا مش حاسس بجسمي. عشان كده هتسندني نطلع للقسم ونروح لماما. أيه رأيك في الخطة دي. 
تم ربط اﻷربعة. أنطلق يوسف مستند للصبي، حتى تذكر الصغير. سأل: 
= أنت مقولتش أسمك أيه لسه.
- أسمي سيزيف، سيزيف المصري.
= أيه؟ أسمك غريب أوي يا عمو، أنا مش هعرف أنطقه. 
ضحك يوسف أو سيزيف وأدرك أنه على وشك أن يتقبل مصيره. لكنه لم يشترى البذلة بعد. وهذه معركة أخرى.
4 notes · View notes