من كتاب " الله"
للدكتور / مصطفى محمود
" الله " هو الاسم المفرد .
وهو الاسم الطلسم الذى يشتمل فى داخله على جميع الأسماء والصفات والأفعال ..
جامع الكمالات ..
وكامل الأوصاف .
وهو الاسم العلم على الذات الإلهية المسربلة بالغيب ..
جميع الأسماء تنسب إليه فيقال إنها أسما الله ..
ولا يصح أن نقول إنها أسماء الصمد مثلاً .
ولا يصح الشهادة إلا به فنقول " لا إله إلا الله "
ولا يجوز أن نقول " لا إله إلا الصبور " أو " لا إله إلا الغفار " .. فهو وحده الاسم الأعظم الجامع .
ويجوز أن تكون لنا مشاركة فى باقى الأسماء .. فيقال عن الواحد منا إنه حليم أو كريم أو رحيم أو عظيم .
ولكن لا يجوز لأحد أن يقول إنه الله .
ولا حظ لمخلوق فى هذا الاسم .. فهو اسم علَم على الخالق وحده وهو اسم قائم بذاته غير مشتق من شىء وغير قابل للتصريف .
يقول القرآن " هل تعلم له سميا " .
أى هل تعلم من تسمى بالله غير الله .
كل اسم له معنى واحد .
وهذا الاسم الأعظم لا تتناهى معانيه .
وهو اسم تنزه عن الاضداد .. فليس له ضد ولا ند
فإذا نظرنا فى حروفه وجدنا أنه يبدأ بالألف .
والألف هو استفتاح حروف المعجم ..
وهو آدم الحروف .
والثمانية والعشرون حرفاً متولدة من الألف كجميع بنى آدم من آدم .. كلها متولدة من تشكيل الألف المستقيمة بثنيها لتكون ب أو ح أو ن أو ق إلخ ..
والألف فى العدد " واحد " .. والواحد هو استفتاح لجميع أعداد وفيه إشارة لعمود التوحيد .. ومن الواحد بالتجزئة نحصل على كل الأرقام .
ويقول لنا الصوفى ابن عطاء الله فى شطحاته : إن الخلق بدأ بآدم وأنه بالمثل جاء ألف القوام معتدلاً منتصباً حسن القد والقامة على الاستقامة مخصوصاً بالتشريف والتكريم .
فإذا جئنا للحرف الثانى وجدنا اللام .
وهى إشارة إلى لام الملك " لله" .
{ لله ما فى السموات والأرض }.
{ قل لمن ما فى السموات والأرض قل لله } .
وهكذا يظل الاسم حافظاً لمعناه بعد حذف الحرف الأول فإذا حذفنا الحرف الثانى تبقى " له " .
{ تبارك الذى له ملك السموات والأرض } .
وهى أيضاً لام ملك ثانية تدلنا على نفس المعنى فإذا حذفناها تقبى الهاء ننطقها " هو " .. حينما ننطق الاسم الكامل " الله " .
" وهو " إشارة إلى محض الغيب وهو " ذات الله " .
" وهو " .. اسم من أسماء الله يهتف به الذاكرون فيقولون : يا هو يا هو .. يا من لا يعلم ما هو إلا هو ..
وهكذا يكشف لنا اسم " الله " عن كمال تكوينه .
فهو اسم كامل يدل على المعنى فى جملته وفى أجزائه وفى حروفه ومهما سقط منه حرف بعد حرف يظل حافظً لمعناه فى النهاية .
* * *
والذاكر يبدأ بذكر الله بلسانه نطقاً ومقالاً .
ثم بقلبه إخلاصاً واعتقاداً . ثم بعمله طاعة وامتثالا .
فإذا اكتملت معرفته لا يعود يرى إلا الله فيصبح ذكره عياناً ويقيناً ومشاهدة .. فليس فى الدنيا سوى الله .
الوجود هو الله وأفعاله ولا غير .
وهو ينظر إلى نفسه على أنه فعل من أفعال الله وكذلك إلى الآخرين .. وبذلك يغيب عنه نفسه باعتبارها ذاتاً منفصلة ولا يرى فيها إلا فعلا من أفعال الله .. وكذلك كل ما حوله .. فكل ما يأتيه فإنما يأتيه من الله وبالله وكل ما يجرى عليه فبأمر الله .
وهذه هى المعرفة عن العارف .
يقول لنا الصوفى العارف ابن عطاء الله السكندرى :
المعرفة رؤية لا علم ..
وعين لا خبر .
ومشاهدة لا وصف .
وكشف لا حجاب .
وإحساس لا مجادلة .
ويقصد بذلك هذا النور من الرؤية وهو ألا ترى فيها ترى إلا الله وأفعاله وما يجرى به قضاؤه فإذا شربت فأنت تشرب من يد الله وليس من الكوب وإذا احترقت يدك فالله هو الذى أحرقها وليس النار .. فالذى أودع فى النار خاصية الإحراق هو الله والذى أودع فى الماء خاصية الإرواء هو الله فهو الذى يسقى وهو الذى يحرق .
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( 79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)}ــ الشعراء
وهو الذى إذا شاء سلب النار خاصية الإحراق فتكون برداً وسلاماً كما جاء فى قصة إبراهيم .
وهذا هو التوحيد حينما يصبح ناموس الحياة .
وهذه هى " لا إله إلا الله " حينما تصبح قلب المؤمن وروحه لا مجرد كلمة على لسانه .
فهو لا يرى بعينه ولكنه يرى بنور الله .
ولا يسمع بأذنه ولكنه يسمع بالله ويفهم بالله ويحيا بالله .
وإذا أعطى أحداً فليس هو العاطى وإنما الله هو الذى جعله وسيلة خير .. وما هو إلا كالخازن الذى يتصرف فيما لا يملك ..
وهو يعمل بهمة وإخلاص وتفان ولا يشغل نفسه بالثمرة فإذا باء بالفشل لا يحزن , وإذا نجح غاية النجاح لا يغتر .. فكلها مقادير تجرى وفق إرادة الله .
وهو لا يكسل تواكلا , ولا ينام انتظاراً للرزق , لأنه يعلم أن ناموس الله وأرادته أن نعمل , وأن الله أقام الأسباب لنلتمسها , وجعل النجاح مرهوناً بالهمة والاجتهاد .
وهو لهذا يرى فى العمل طاعة وعبادة وامتثالاً للأمر والناموس الإلهى .
وهو لا يسكت على ظلم , ولا ينام على باطل .. لأنه يعلم أن الله جعل مصارع الظالمين على يد المظلومين .. وأنه كتب على نفسه أن يكون ناصراً لمن ينصره وينصر قانونه .
فهو فى كفاح دائم .. ولكنه كفاح مختلف فى روحه ودوافعه عن كفاح الرجل الآخر الذى لا يؤمن بشىء غير نفسه ولا يرى لله وجوداً .. فهو ساكن النفس رابط الجأش مطمئن القلب , وقد اكتفى من حصته بأن يعمل وفوض النتيجة لله وأسقط حظوظه وأغراضه من الحساب , ووطد نفسه على القبول بالغنم أو الغرم مؤمناً بأن لله حكمته التى تغيب عن الأفهام , وبذلك أسقط عن نفسه القلق والهم والطمع والغرض , وأصبح عزماً خالصاً وحماساً ملتهباً لنصرة الحق بلا خوف ولا تردد ولا مطمع .
بينما الرجل الآخر الذى لا يؤمن إلا بنفسه قد حمل معه هموم تلك النفوس وقلقها وأطماعها ومخاوفها إلى المعركة .. وهو فى حالة هزيمته لا يبقى له أمل يعيش من أجله .. فهو لا يرى فى العالم حكمة ولا معنى ولا غاية غير ما يكسب لنفسه فيه , فإذا مات أمله مات معه كل شىء .
وهو أبداً فى معاناة لأنه لا يؤمن بسند إلى ذراعه وهو الذراع التى خلقت لتتعب وتمرض وتشيخ وتهرم وتنتهى إلى العجز والعطب .
وهو لهذا ينتقل من خوف إلى خوف إلى قلق إلى هم إلى يأس .. يسب الدهر .. ويلعن النجوم . ولا يرى فى الحياة إلى عبثاً وسخفاً لا جدوى منه , ويعيشها لحظة بلحظة ولذة بلذة لا يؤمن فيها بحكمة أو غاية أو قيمة تستحق أن يضحى من أجلها .
وهو يسخر من المؤمن المتدين ويتصور أنه حرم من اللذات التى يستمتع بها .. والحقيقة أن المحروم بحق هو نفسه .
هو الذى حرم نفسه من أثمن ما فى الحياة .
من الغاية والمعنى والحكمة .
ومن السند والمعين .
ومن الرحمة .
ومن المدد .
ومن ذات الحق سبحانه الذى به يعيش وبه يموت , وبه يبعث .
ولهذا يصف القرآن الإيمان بأنه إحياء للنفس :. { أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ } ( 132 ــ الأنعام )
ويصف ابن عطاء الله التوحيد بأنه " استنقاذ للنفس من العذاب الأدنى فى الحال ومن العذاب الأكبر فى عاقبة المآل " .
ويقول الله فى حديث قدسى :
" لا إله إلا الله حصنى فمن قالها دخل حصنى ومن دخل حصنى أمن عذابى " .
والموحدون هم المقصودون بالآية :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } ( 82 ــ الأنعام )
فهم الموعدون بالأمن دنيا وآخرة .
الذين أسلموا الوجه والاختيار لله .
* * *
والعارف الذاكر محب لله عاشق لكماله .
وشأنه شأن كل محب متعلق الفؤاد بمحبوبه فهو يحاول أن يتخلق بأخلاقه , كذلك يحاول العارف أن يتخلق بأخلاق الله ..
فيكون الرحيم الكريم الحليم العفو الصبور والشكور الحليم العليم ما استطاع .
وهذا هو السلوك والطريق والسير على الصراط .
فأسماء الله هى الصراط المستقيم .. إلى القرب منه .. وهى دليل السير إليه .. والقرب من الله قرب صفات لا قرب مكان وذلك بأن نقترب بصفاتنا من صفاته .
وهو طريق لا يقدر عليه إلا مجاهد يستطيع أن يجاهد نفسه ويجالدها ليغالب صفاته المذمومة .
وهو الجهاد الذى قال عنه نبينا عليه الصلاة والسلام إنه الجهاد الأكبر .. أكبر من جهاد الحرب وجلادها .. لأن جهاد الحرب معركة عابرة ... أما هذا الجهاد فمعركة متصلة طوال العمر مع كل نبضة وخلجة نفس .
ومكافأة الفائز فى هذا الجهاد أن يرتفع بنفسه إلى مستوى الملأ الأعلى وإلى مقعد الصدق عند مليك مقتدر .. فصفات الله ترفع من يتشبه بها إلى ملكوت الله .
* * *
وقد جاء المجتهدون بأسماء لله غير التسعة والتسعين المعروفة منها : المريد .. المتكلم ... الفعال .. الموجود .. الشىء .. الذات .. الأزلى ... الأبدى .. الكاشف .. الفاصل .. القاضى .. الديان ..
ومنهم من جاء من القرآن بأسماء أخرى مثل :
الكافى .. المبين .. المدبر .. المولى .. الغالب .. الناصر .. النصير .. الأكرم .. الرب .. المليك .
القريب .. العلاَّم .
ومنهم من جاء بأسماء ثنائية مثل : قابل التوب .. غافر الذنب .. شديد العقاب .. ذى الطول .. ذى المعارج .. ومنهم من قال إن " رمضان " أحد أسماء الله .
ومنهم من تحدث عن أسماء استأثر بها الله فى علم الغيب عنده .. وقالوا إن منها " الاسم الأعظم " الذى إذا نودى به الله أجاب .
وقالوا إن هذا هو الاسم الذى نقل به آصف ابن برخيا عرش بلقيس إلى سليمان فى أقل من طرفة عين .
ومنهم من ذكر أن لله ألف اسم ..
والكلام كثير .
* * *
ومعنى الأسماء فى مجملها أنه " لا موجود بحق إلا الله " .. فهو المريد الفعال وليس فى الكون من أمر أو حدث أو قدر أو تدبير إلا هو مظهر لإرادته وأثر من أثار فعله وآية من آيات حكمته وتدبيره .
وهو الحى وكل حى لا يحيا إلا به .
وهو الوحيد الواحد الذى له أن يقول بحق .. أنا .. " أنا هو الذى أنا " ..
أما كل منا فهو صادر عنه وراجع إليه ولا يحق له أن يقول .. أنا .. فكل منا لا يملك هذه ألـ أنا التى يدعيها .. إنما هى فضل ومنحة وهبة من الله .. أخذها على سبيل الاستعارة .
لا إله إلا الله .
لا فاعل بحق ولا معبود ولا دائم إلا هو ولا ضار ولا نافع سواه .. ونحن فى تقلبنا فى الدنيا تحجبنا الغفلة عن هذه الحقيقة .. فنتصور أن السم هو الذى يقتل وأن الترياق هو الذى يحيى .. وننسى اليد الخفية من وراء الأسباب التى قطرت السم فى ناب الثعبان وجعلت من الترياق شفاء .
ونحن نركب على السفينة ونتصور أنها تنقلنا كما نريد ونهوى .. وننسى أننا نركب على قوانين جاهزة يسرها لنا الخالق .. وأن الله هو الذى يحملنا على قوانينه وأسبابه .. وأننا كشفنا هذه القوانين بإلهامه واخترعنا وسائلنا التى ننتقل بها بوحيه وتعليمه .
وهو القائل لنوح : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} .
وهو الذى { علم الإنسان ما لا يعلم } .
وما نسميه بالظروف والبيئة وحركة التاريخ هى جملة الأسباب والقوانين والسنن التى أجراها الخالق .. تماماً كما قدر للنجوم مساراتها وأفلاكها فى الفضاء كذلك قدر للجموع البشرية قوانين حركتها فى الزمان .. وما نغير حينما نغير من أشكال المجتمع وعلاقاته إلا بالقوى التى أودعها فينا والبصيرة التى أمدنا بها .
يقول القرآن عن ذى القرنين { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84 ) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85 ) } ( الكهف )
هكذا تحدث القرآن عن انتصارات " ذى القرنين ليقول أن كل نصر أحرزه هو تمكين من الله وإمداد له بالأسباب التى مهدت لانتصاره .
وهو كلام لا يعنى أن يقعد الإنسان عن بذل الهمة .. بل نرى أن العزم شرط لازم لجريان تلك الأسباب .
فالله جعل العزم سبباً واجباً لتحقق أى شىء .
هى قوانين شاملة وضعها الخالق فيما وضع ليجرى على سننها الكون .. وما نرى حولنا من أشكال العالم المادى هى فى جملتها مجموع الأسباب التى أقامها الخالق لتكون حجاباً على إرادته التى تعمل فى الخفاء من وراء الأسباب .
ومن وراء هذا الحجاب ذى الرقع المتعددة الألون الذى اسمه العالم المادى , هناك الذات الإلهية فى غيب الغيب .
والمؤمن الموحد لا يكتفى بهذا بل يرى أن نفسه .. أن ذاته هى الأخرى حجاب متعدد الرقع .. وأن ما يتنازعه من أهواء وشهوات ونزول إلى السلطة وحب للترف وتعلق بالماديات هى حجب وأسار كثيفة ومخاضة لزجة تبعده عن الله , عن سر السر المتعال المستخفى وراء الظواهر .. حتى عقله يسجنه فى حيثيات المنطق , وفى أسر المقولات والنظريات .. وهو لا يرى فى التعصب للنظريات إلا عبادة لأصنام مجردة جديدة .
وهو لهذا يرى أنه لكى يصل إلى الله لا بد أن يتخطى العالم المادى , ثم يتخطى نفسه , ثم يتخطى حدود عقله .. فهو فى هجرة دائمة ويقظة وانتباه يخشى أن يغفل لحظة واحدة فيضرب على عينيه حجاباً من تلك الحجب يبعده عن محبوبه الوحيد .. خالقه .. الذى جعل قبلة أسفاره وهدف رحلته فهو هارب أبداً ..
من فتنة المرأة ومن فتنة المال ومن فتنة السلطان ومن فتنة نفسه ومن فتنة عقله .. دعاؤه فى كل لحظة :
ــ اللهم خذنى إليك منى ورازقنى الفناء عنى ولا تجعلنى مفتوناً بنفسى محجوباً بحسى .
وجماع همه أن يعلو فوق نفسه ويتجاوز ذاته ومنتهى أمله أن يضحى بهذه النفس استشهاداً فى قتال , أو تفانيا فى رسالة تقربا ومحبة لذات الله التى لا دوام لغيرها .
ودليله فى التيه هى كلمة " لا إله إلا الله " ينفى بها الفعل عن الفاعل .. فلا فاعل إلا الله .
ثم ينفى الفعل عن نفسه .. فهو أول من تبرأ من انتصاره إذا انتصر .. فلا يقول .. أنتصرت .. بل يقول .. نصرنى الله .
وشعاره كل صباح :
اللهم بك أصبحت وبك أمسيت .
اللهم بك انتشرت .
اللهم بك أصول وبك أجول ولا فخر لى .
وهى كلمات إمام الموحدين وخير الوارثين لكلمة " لا إله إلا الله " محمد عليه الصلاة والسلام .
* * *
وتخطى حدود العقل عن الصوفى المسلم ليس معناه إهدار العقل , وإنما الاستفادة من العقل إلى آخر مدى قدرته , والاستماع إلى صوت العقل حتى كل ما عنده حتى يبلغ حافة المحال , وحينئذ يستلم الصوفى بصيرته ووجدانه ليكمل الطريق .. فلا تناقض بين العقل والبصيرة , كما أنه لا تناقض بين الشريعة والحقيقة .. وإنما شأن العقل كمصباح يلقى بنوره إلى مدى معين , ثم تبدأ منطقة من الظلام لا دليل فيه إلا بنور البصيرة وهدى القلب .
كذلك تخطى الدنيا عند المسلم ليس معناه طلب الفقر وافتراش الرصيف ولبس الخرق .. وإنما تخطى الدنيا هى ألا تضع نفسك فى خدمة أموالك .. وإنما تجعل أموالك فى خدمتك وفى خدمة الآخرين .. وهى أن تملك أرضك وتسخرها للخير العام لا أن تملك أرضك وتسخرها فى تكثيرها .. وهى أن تملك زمام شهوتك وتخضعها , لا أن تكون عبدها وخادمها .. وبذلك تتخطى الإغراء فتجعله خلفك وتحت إمرتك وفى قبضتك .. وتكون سيد الدنيا لا عبدها .
أما الصوفية التى تنادى بإهدار العقل وتمجد الفقر والشحاذة ولبس الخرق على أنها الطريق إلى الله فهى انحراف بالدين وبالطريق .
ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول :
" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " .
والدين يمجد النظافة ويدعو إلى العمل وعلى بن أبى طالب يقول عن الفقر . لو كان الفقر رجلاً لقتلته .
والمال فى القرآن مرادف للخير والنعمة .. حينما يوظف فى مكانه للنفع العام بالإضافة إلى انتفاع صاحبه . وهو نقمة حينما يكتنز بلا وظيفة سوى الشح والبخل .
والمسلم لا يرفض الدنيا .. وإنما يجعل منها مطية إلى الآخرة , ومزرعة للأعمال النافعة تلحق به بعد موته .
ومفهوم الزهد عند المسلم هو رفض الذل للمال لا رفض المال لكونه أجراً كريماً على عمل أو جزاءً عدلاً على جهد ..
الزهد هو الضن بالحياة أن تضاع فى اجتلاب الترف الفارغ .
والزهد يرضى بالكفاف ليكرس كل وقته لبلوغ أشرف المعارف .. معرفة الله ..
وكل همه وكل فكره وكل شاغله أن يعرفه .. هو .
والزاهد الموحد لا يقول .. أنا .. ولا يقول .. أنت .. ولا يقول .. هم ولا يقول .. نحن .
بل يقول .. هو
لا يرى إلا هو .
ولا يقصد إلاّ هو .
لا إله إلا هو .
لا يخشى إلا هو , ولا يتقى إلا هو , ولا يرى فعلاً إلا يرده إليه هو .. ولا يرى ظاهراً ولا باطناً إلا هو .
فإذا أكل فهو يأكل من يد هو .
وإذا شرب فهو يشرب من كفه هو .
وإذا تلقى الرزق فمنه هو .
وإذا تلقى الحرمان فبتقديره هو .
وإذا قضى عليه بالشقاء فبقضائه هو .. { ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ( 78 ــ النساء )
فإذا صبر فهو يصبر بالله على الله .
وإذا هرب فإنما يستنجد بالله على قضاء الله .
وإذا استعاذ فإنما يستعيذ بالله من الله . يستعيذ به من بلائه .. وما الشيطان فى النهاية إلا ابتلاء الله لعباده ..
وما الكون إلا مظاهر أسماء الله وتجلياته صفاته وأفعاله . فهو لا يرى فى أى شىء إلا الله وفعل الله .وهذا مطلق التوحيد .
وهذا غاية ما تقوله الأسماء لقلب المسلم .
أن تقوده إلى مطلق التوحيد .
3 notes
·
View notes