#أماني أبوشبانة

[sama-dai]

عزيزي؛ اعتدت أن أجعل من فكرة الموت - وبالأحرى الانتحار - أمرا رومانسيا؛ لأنه - كما كنت أظن - هو الخلاص. لا ينتهي بالموت أي شيء. القضيَّة - أيا كانت ماهيتها - تبقى معلقة في الخلفية، ومعها صدى الكلمة كما أحب أن أفكر. لطالما آمنت بقوة الكلمة؛ كون أنها كانت سببًا في وجوديَ الحاليّ. ورغم ذلك نسيتُ الكلمة، بل نُفيتُ عنها لأمد طويل امتدّ حتى الآن. اللغة يا عزيزي صديق غادر في بعض الأحيان، فلا تُعوّل على بقائها في حافظتك. صراعي الحاليّ يكمن في محاولة استعادتها. وحين أكتب لك، أشعر بوجودي، وأحسُّ بشيء جميل يقفز في صدري. كن صبورا معي كما عهدتك؛ لربما جاء من هذا الغثِّ بعض الفائدة يوما ما.

[sama-dai]

عزيزي؛ ألا ترى معي أن كلمة "أرض" تحمل معها محبة وطمأنينة من نوع ما، خاصة إن أضفنا لها ياء الملكية؟ هناك من يغترب عن أرضه بينما هو عليها، وهناك من لا أرض لهم مثلي. حدث أكثر من مرة أن أوشكتُ على فقدان اتصالي بالواقع في حضور الطبيب، وفي كل مرة كان يطلب فيها مني أن أضغط بقدميّ على الأرض بكل قوتي. كنت أستغرب ذلك، ثم أدركتُ مؤخَّرًا أن الشعور بوجود أرض تحت قدميّ يمكن له أن يمنحني بعض الاتزان الذي قد يساعد في عودتي مجددا للحظة الحالية. أصبحَتْ كلمة أرض تعطيني شعورا بالثبات والصلابة. عزيزي؛ حنيني عادةً موجَّهٌ لتلك التجارب أو الحالات الشعورية التي لم أختبرها بعد. معظم المغتربين هنا يسكنهم الحنين إلى بلادهم. رغم أني سمعتُ العديد من القصص، إلا أني مازلتُ أدهَشُ في كل مرة أنصتُ لأحدهم وهو يتحدث بمحبة عظيمة وتوْق مؤلم عن كل الأشياء التي تركها خلفه. لم أختبر من قبل شعور الانتماء لأرض ما، ويستغرب البعض مني ذلك أيضًا.

عزيزي؛ لعلك تدركُ الآن مقدار شغفي بمفردات اللغة. أحيانا أختار عشوائيًّا كلمة وأنطقها عدة مرات. أسمعها، أتأملها، وأصفِّيها من المعاني والمشاعر. أحاول فكَّ لغز محبتي الخاصة ببعض الكلمات دون غيرها. أجد أنه من المثير أن لكل فردٍ نظرته الخاصة والفريدة للمفردات ومعانيها. آه، كم أحببتُ دراستي للغة العربية. أذكر تلذُّذِي بالشعر الأمويِّ لمدة لا بأس بها، وانبهاري بنظرية "اعتباطية الدال والمدلول". لأبي بعض الفضل في اختيار تخصصي الدراسي. ذهبتُ إليه في لحظة حزن ويأس شديدين وبيدي استمارة الرغبات، وقلت له "اختر لي أنت، فأنا لم يعد يهمني الأمر!" فكانت اللغة اقتراح أبي الأول. وكم كانت ابتسامتُه طيبة بينما يتحدث معي عصر ذاك اليوم البعيد.

عزيزي؛ يَحدثُ أن يطرأ فجأة على بالي ذكرى – سعيدة كانت أو حزينة – فأنسى كل شيء وأي شيء آخر وأعيش تلك اللحظة الماضية بكل تفاصيلها. على غير هوًى مني، أفقد نقطة ارتكازي في الحاضر. ابتسامة أبي قطَعَتْ تسلسل الأفكار. لطالما كان لي شغف برؤية ابتسامة من أحب، وأدَّعِي أني أستطيع التفرقة بين الزائف منها والحقيقيّ. آه! انقطع عني تسلسل الأفكار مجددا. فلأتوقف هنا، ولي معك حديث آخر. لك مني ابتسامة رائقة. كن بخير.

[sama-dai]

عزيزي؛ بينما تمر بي نسمة هواء لطيفة، قلتُ على حين غرة وبصوت خافت "أنا قائمة بذاتي". منذ البدء والطريق ملتوٍ. لا أحب الشكوى، ولكن حين يُخدِّرني الألم، أفقد إدراكيَ السليم للأشياء. لا أعِي ما أقول أو أفعل. قبل بضعة أشهر أخذتُ جرعة زائدة من الدواء؛ لأنني لم أحتمل. لا أود إخافتك، وإنما أود الاعتذار عن رسالتي السابقة.

عزيزي؛ تحدثتً البارحة مع بعض الأصدقاء عن مغزى الحياة. قلتُ لهم إن لذلك السؤال عدة إجابات منها الحب، المعرفة، التجربة. والحقيقة أني كنتُ أحاول إنقاذ نفسي من الموقف فحسب. لا أحب أن أبدو كئيبة أبدا؛ لذا فقد اعتداد الجميع أن يروا على وجهي ابتسامة واسعة. لا أنسى أبدا أن أبي كان ينتقد ضحكتي العالية ويقول "ضحكتك تصل إلى آخر الشارع!" فأجيب بتعالٍ "مش مهم!" كان يبتسم أحيانا لردّي كما أذكر.

عزيزي؛ لا أظن أني أملك أي حكمة لأقدمها لأحدهم. في فيلم "بِاسم الأب" والذي صدر عام ١٩٩٣، قال الأب لابنه قبل أن يسافر "اذهب وعِشْ يا بني. تلك أفضل نصيحة يمكن أن أقدمها لك." عزيزي ما معنى فعل الأمر "عِشْ"؟ أحس بحيوية نابعة من ذلك الفعل "عاش/يعيش/عش" أرى فيه رقصا، ونغمًا رائقًا، وأملًا. أمر أتوق لأن أحس به/أعيشه. أمر لا يحدث لي إلا في نوبات الهايبومانيا، والتي يدَّعي الأطباء أنها جزء من مرض، وأنها وهم كبير.

عزيزي، أمضيتُ يومي في التفكير في الموت، والفقد. كانت أفكاري غاضبة جدا؛ فقد أحسست بانتفاء العدالة. لي معك حديث طويل عن ذلك فيما بعد. أما الآن فأرى أن الألم يشتد مجددا. لك من السلام والمحبة.

[sama-dai]

كأنكِ هاربة من أغنية حزينة لكن عذبة.

[sama-dai]

عزيزي؛ بفضل اليأس حييت. قلبتُ حياتي رأسًا على عقبٍ في محاولة مني للنجاة. كان يأسي أملًا في حد ذاته. أنا لا أحب أن أتحدث عن الأمل كثيرا؛ فالأمل قد يدفع المرء لارتكاب حماقات لا حد لها. ولستُ ضد ارتكاب الحماقات؛ فمنها نتعلم وننضج. إنما مقصدي هو أن وضع الأمل في غير محله يؤلم كثيرا. بي جزء خفيٌّ يؤمن بأن النور ليس مجرد مجاز أو فكرة، وإنما هو أجمل الحقائق. أرى أن فكرتي تلك ليست إلا مراهقة متأخرة ورومانسية حالمة؛ فبعد أعوام من الخيبات المتكررة يرفض جزء كبير مني أن يستعيد الثقة في الناس أو الحياة. والآن دعك من هذا الحديث الذي لا يفضي إلا لتناقضات كبيرة عبثية، ودعني أحدثك عن دلالات الأسماء. كم هو جميل أن يعبر الاسم عن صاحبه. أتذَكَّر "نور" بابتسامة محبة كبيرة الآن. تلك الطفلة - التي كانت في عمر الرابعة والنصف – أضاءت، بل أحيَت، كل جزء كان ميتا بي في تلك الفترة العصيبة. كانت ابنتي التي لم ألدها. أؤمن باعتباطية وعشوائية الحياة؛ ولكن عليَّ أن أقول إن "نور" سبب من أسباب وجودي على قيد الحياة. منها أيقنت أن المحبة الرائقة وغير المشروطة ليست أسطورة وإنما هي أصل الأشياء. أحبَّتني وأحببتها أضعافا. أخاف عليها من العالم وقسوته، وأتجنب التفكير في احتمالات مصيرها المستقبلي؛ كي لا يتملكني الحزن والهَمّ. حسنا، فلأقل إن الجمال وإن تتابعت محاولات طمسه، لا يموت. ولأقل أيضا – على مضض – إني بي أمل حيّ ينبت من يأسي.

عزيزي؛ منذ عدة أيام وأنا منزعجة من فكرة "الاختفاء". أعلمُ أن اختفائي الذي دام أعوامًا كان ضروريا، وأدرك جيدا أن العودة للساحة ليس أمرا سلِسًا. الأمر وما فيه أن الصبر ينقصني. ماذا أود أن أقول للعالم؟ لا أدري على وجه التحديد، ولكن بي إيمان أن الكلمة ستنبثق فجأة من حيث لا أعلم. عزيزي؛ كن حقيقيا دوما وابق على وصلك.

[sama-dai]

وأسأل الشجر: "كيف هو شعور الانتماء لمكان ما في العالم؟"

[sama-dai]

"حد يشيل الألم!" ذلك صراخيَ المعتاد حين تنتابني نوبة طويلة مؤلمة. كأن إدراكي بعجز العالم يتلاشى تماما، ويحل محله شبه إيمان خائف بأن بإمكان أحدهم حقا أن ينتزع عني الألم. عزيزي، ليلتي ليست هادئة، وكم أحتاج وجودك الرَّائق الآن. أنا أؤمن بي بشكل خافت، وحين أصرِّح بذلك بصوت مسموع، أتألم لسبب ما. أرى أن العالم يمكن أن يكون جميلا، ولكن ليس لي، وإنما للآخرين. حين أقرأ أو أسمع شكوى أحدهم، تنتابني رغبة في الهرولة تجاه ذلك الشخص وهدهدته حتى يبرأ من أي سوء. ستقول أن الإنسان عاجز، ولكن لا ضير من المحاولة يا عزيزي.

وددتُ أن أطلب منك عناقِيَ الآن، إلا أن العناق لا يُطلب. أدور في حلقة مفرغة الآن مفادها "أعمل ايه؟!" أليس هذا تساؤل الجميع؟ لست وحدي إذن.

"أعيريني كتفك قليلا" أردد بيأس وعن غير وعي. مازال بي جزء كبير حالِم، يرى أن بأيد الآخر أن يُمسِّد على جرحي فأهدأ. أكره ذلك، ولي أسباب لن أستطرد في شرحها الآن.

عزيزي، نفدَ منِّ القول. كن أنت أينما كنت.

[sama-dai]

فكرة الخسارة لا تدع للمرء - في أحيان كثيرة - فرصةً للتعبير عن نفسه بشكل حرّ.

[sama-dai]

عزيزي؛ لم أجد قهوة في المنزل، فشربت شايا بوجه ممتعض. طعم الشاي حلو في ذاكرتي فحسب. اعتاد أبي أن يشرب كوبا من الشاي بعد كل وجبة وكأنه طقس مقدس. ينتهي من طعامه، ثم يقول لي مبتسما "يلا اعمليلنا كوباية شاي حلوة من ايدك. بس والنبي بنفس يا أماني عشان آخر مرة كان شاي مايع." كان يعلم أن مِزاجيَ الشخصيّ ورِضايَ عنه يؤثران في طعم الشاي. لم أكن أحب الشاي، ولكني أحببت مشاركة أبي طقسه اليومي، فكنت أطلب منه أن يترك لي ربع كوب شايه. ذاكرتي تردِّد الآن "ألذّ شاي ذقتِهِ في حياتك" عجيب كيف أن للذاكرة رائحة ولون. لك مني ورد ومحبة.

[sama-dai]

حيث إني مش عارفة أكتب، لو حطيت صور لأماكن أو حجات شفتها وحبيتها (شبه يوميات) هيكون كويس بردو ولا لأ؟

[sama-dai]

ربِّتْ على كتفي، وقل أن كل شيء سيكون على ما يرام، وسأعدُك أن أصدقك.

[sama-dai]

اتضح إني حين أتحدث بكلمات كبيرة عن الأمل والحب والحياة، يشتد بيَ التعب بعدها. كل ما أرغب فيه الآن هو أن أقول بصوت عالٍ "أنا متعبة! ألا فليأت الموت هادئا وسريعا!"

[sama-dai]

عزيزي؛ أحدثك بينما أقاوم رغبتي الشديدة في شراء علبة سجائر. لم أفلح يوما في قبول الأمور على علَّاتِها، بينما أخبرني أكثر من طبيب متخصص أن التقبل قد يوصل المرء لسلام نفسي من نوع ما، وأنه قد يكون بداية الحل. أنا لا أؤمن بوجود حل أو خلاص، وكأن شيئا داخليا يمنعني من التصديق بأن هنالك عالم أفضل حيث يمكن للمرء ممارسة حياته بخفة. أحاول بجهد أن أعيش الهُنا والآن كما نصحني الجميع، إلا أن الأمر يتطلب جهدا كبيرا لتنفيذه. دائما هناك ذكرى أخاف منها، أو مستقبل أخاف عليه. عزيزي؛ صورتي عن نفسي ليست ثابتة، ومليئة بالتناقضات، وبقولي هذا أعود لفكرة التقبل مجددا، حيث أني في أحيان كثيرة لا أقبل نفسي أيضا. أعلم أني لست بالشخص السيء، ولكن بعضا من أفعالي كانت سيئة ولا أسامح نفسي عليها. وبينما أرى الجانب السيء بوضوح، أغض الطرف عن كل ما قد يكون جميلا بي.

عزيزي؛ أتستحق الحياة مني المقاومة؟ أتستحق ذاتي أن أصارع من أجلها؟ بتُّ أشك في ذلك. أتساءل على الدوام ؛ أكان أبي على حق حين قال في لحظة غضب "أنت لا شيء!" لا أود تصديق قوله، ولكن - رغما عني - أسقط في فخ الدراما، وأكرِّر قوله عن اقتناع. وودت الآن أن أطلب منك إخباري بالعكس، ولكن تذكرت أني لن أصدقك على أي حال. لا أحاول إثارة سخطك على الإطلاق، وإنما أود أن أقول فحسب أن فكرتي السيئة عن نفسي تثير حزني الشديد. أحيانا من فرط الغضب تنتابني الرغبة في الصراخ "أنا أستحق! أنا أبعد من أن أكون لا شيء! أنا أشياء كثيرة بها جمال وقبح معا!"

عزيزي؛ أحيانا أود أن أسرد قصة حياتي للجميع باستطراد ممل. لا أريد كتابتها، أريد أن أحكيها بصوتي. وربما السبب وراء ذلك هو أني أحيانا كثيرة لا أصدق أني مررت بكل تلك الصِّعاب ومازلت. أريد أن أقول الآن أني صامدة حتى الآن ليس بفضل القوة كما يظن البعض، وإنما غريزة البقاء التي لدينا جميعا كبشر. وأود أن أقول أيضا أني أفكر يوميا في الاستسلام. لم على الحياة أن تكون معقدة إلى هذا الحد، يا عزيزي؟ أتذكر أني قبل أن أترك منزل أبي، قلتُ لصديق لي "أود أن أعيش المغامرة." وكلما فترت هِمَّتي، استعدتُ جملتي تلك.

عزيزي، أتذكر قول الشيخ إمام "وجرحنا ولا عمره دبل"؟ تلك ليست مجرد أغنية، وإنما هي ألم منَغَّم. أحيانا أفكر أن الإنسان من قسوة الألم حاولَ الالتواء عليه بتجميله عبر أغنية أو قصيدة أو ما شابه. أبتسم لذلك الآن. أتمنى أن تكون كلماتي خفيفة عليك. لك من السلام والمحبة.

[sama-dai]

الوقت بيضيع هدر والله منِّي!

[sama-dai]

عزيزي؛

أنا لا أفهم الناس، ولا أدَّعي أني أفهم نفسي أيضا. ما يؤرقني الليلة هو خذلانٌ جديد. أصبحت أفكر أن من يضع ثقته في الناس ليس إلا شخصا أحمق. وأنا هنا غالبًا لا أتحدث إلا عن حمقيَ الخاص. أتُعدُّ صدفةً فكرة أنَ الغالبية العظمى ممن أعرفهم قد خذلوني؟ أم أن الجزء الحالم فيَّ مازال يقِظًا فحسب؟ كنتُ أعتقد أني ميتة من الداخل، ولكن بعد أن تألَّمت اليوم لأن محبتي كانت في غير محلها، عرفتُ أني حيَّة جدا. بينما أكتب إليك الآن ابتسمتُ لتلك الفكرة. المحبة يا عزيزي أجمل ما يمكن أن يحس به المرء، وإن كان الألم رفيقًا وفيًّا لها. قلبي ليس مقبرة للأحبَّة كما ظننت، وإنما عالم ورديٌّ صافٍ من أي شر. لك مني كل المحبة، وإن كنتُ لا أعرفك جيدا، إلا أنك تمنحني الكلمة، وذلك أعظم من أي شيء في الوجود. كن بخير أينما كنت.

[sama-dai]

في جزء جوايا بيقول لي "لسه شوية! شوية كمان بس!" وجزء تاني بيقول كقول فصل "انتهت! مفيش حاجة جاية تستحق!"