القاهرية
منذ أن غنى “يا أجمل مافي البيض يا أحلى ما في السمر” من وقتها ولخبط كل الناس معاه، الصورة الأولى تأتي في الاذهان لحبيبة بيضاء اللون ثم تنقلب سمراء ، وبعد قليل نتخيلها قمحية لو نيلك يامصر ، ولكن أغلب الظن أن جمال حبيبته شامل كل الألوان حتى “الشامبين المط” ، فهي أجمل من كل البيض وأحلى من كل السمر ، الأغنية التي كتبها عادل عمر ولحنها العملاق أحمد منيب ووزعها حميد الشاعري كانت بمثابة عربون…
اعتقد أن ده الدويتو الوحيد اللي جمع بين محمد منير و حميد الشاعري. أغنية من تأليف الشاعر عبدالرحمن أبو سنة، كُتبت سنة ١٩٨٦ في أعقاب كارثة تشيرنوبل النووية. أغنية هادية و لذيذة مش محتاجة فلسفة ولا مجهود في فهم معناها، صديقين بيتكلموا مع بعض و بيحلموا أنهم يعيشوا في عالم فيه خير و محبة و دفيء و سلام و جمال. متعرفش هل حلم الصديقين نابع من تفاؤل و إقبال على الحياة ولا نابع من سخط و كيل طافح من العالم الظالم الفاسد بتاعنا. كل أحلامهم جميلة و مشروعة و لكن الحلم اللي بيلمسني بشكل شخصي دون عن التانيين، هو حلم "الحقيقة الصافية" و أنا كمان والله يا حميد يا أخويا نفسي في حقيقة صافية قاطعة و واضحة وضوح الشمس، حقيقة صافية واحدة بس في عمري، حقيقة أجري وراها و أصدقها و أحارب عشانها بدل ما الواحد عايش لأجل العيشة وبس
كل ما البس الدريس الاسود اغنية حميد الشاعري بتبتدي تشتغل في خلفية دماغي وساعتها بحس اني شخصية نرجسية وبعدين بفتكر ان حب الذات واجب والله فلما بروح بسمع الاغنية 😂
كانت تجربة المرور بجانب معهدي الابتدائي ليلًا واحدة من أعجب تجارب الطفولة وأكثرها سحرية. لطالما روعني الشعور بأن هذا البناء الذي أمضيت فيه سحابة اليوم وساعات النهار يبدو مختلفًا تمامًا تحت سماء ليل اليوم ذاته. ليست المسألة في أنه كيان حافل ونابض في النهار بالأصوات والروائح والتجارب المؤسسة والذكريات القاهرة، هذا أمر مسلم به، لكنه يبدو في الليل مختلفًا بشكل راديكالي، كأني دخلت فجأة إلى عالم آخر، إلى بعد آخر، فيه عالم كعالمنا، لكنه ليس عالمنا بالتأكيد.
في الصباح التالي، أستعيد عالمي الأصلي. العالم المدرسي الأساسي، حيث نور الصباح، والرغبة المستمرة في التقيؤ من شدة الخوف، والقلق الأكاديمي، والشيوخ والكتب والأصوات العالية والطاقة الفذة. مم انبثق هذا العالم الصباحي؟ من أين أتى وقد كان بالأمس غير موجود على الإطلاق؟ لما حدثت الأصدقاء عن شعور الغرابة الذي انتابني حين مررت بالمعهد ليلًا وجدت الجميع يشتركون فيه، ولا أظن أنها مصادفة.
إنها تجربة عالمية، يعرفها كل من مر في نفس الشارع مرة نهارًا ومرة ليلًا، من جرب المبيت في المستشفى ومن قضى فيها ساعات الصباح، ومن تصادف أن يمر بجانب معهده أو مدرسته الابتدائية ذات ليلة. لاحظ البشر هذا الاختلاف الجوهري الرهيب في طبيعة العالم في ليله ونهاره، اقترحت الثقافات والأديان القديمة أن الليل والنهار ممالك مستقلة بذاتها، تحكمها إلهات وآلهة يتبادلون الأدوار، تجر أورورا عربتها حين الفجر ويتسلم منها المناوبة أبوللو بشمسه وبكل ما لمملكته الصباحية من بهاء جارح. لدينا في نفس العالم، عالمان مختلفان تمامًا.
تذكرت ذلك الكاتب الأمريكي الذي كتب أساسًا للأطفال، قال "أن هناك إمكانية لإيجاد عالم غير عالمنا، لكن هذا العالم المأمول، موجود داخل عالمنا أيضًا". كما أن عالم الليل داخل عالم النهار رغم أنه مستقل عنه، وبالعكس. قال: "يخرج الليل من النهار ويخرج النهار من الليل". هكذا هو الأمر. أومن أن الزمن نهر مستمر، لكن الليل والنهار كيانات مستقلة ومتمايزة، وربما لذلك تبدو ساعات الغروب والفجر كأنها بوابات لمداخل كونية عجيبة.
رغم أن الليل والنهار معجزتان حقيقيتان لعينتان، لكن يعذر الواحد/ة لو اعتادهما، فهما يتكرران لررلي كل يوم. لكن يمكن للواحد/ة اختبار التجربة التالية: لو سلمنا أن الليل والنهار هما آلات صناعة الزمن وكتابة التاريخ، "الدنيا غروب وشروق" كما في أغنية حميد الشاعري الجميلة. يخرج الواحد منهما من الآخر، وفي تعاقبهما يُخرجان عوالم مختلفة من عالمنا الواحد. يمكن للواحد أن يفكر في طفولته، هذا العالم الذي استولد منه اختلاف الليل والنهار عالمَ البالغين الأسود. يمكن له الآن أن يفكر في أيام يناير ٢٠١١، هل ما تزال مجرد مرحلة من التاريخ الشخصي والجمعي، أم أنها صارت عالمًا متمايزًا بذاته حل مكانه عالم مختلف تمامًا تمامًا تمامًا خمسة تمامًا؟
يمكن له الآن أن يتصور مصر المملوكية، ما يفصله عن أمسه القريب هو ما يفصله عن مصر المملوكية: تعاقب الليل والنهار. يمكن له تتبع آثارها في غدوه ورواحه في القاهرة، يمكن له المرور بالقلعة في طريقه للجحيم المسمى بمدينة نصر، أو بمساجدهم وأسبلتهم في القاهرة الأثرية، يمكن له/ا الآن إدراك أن عالمه الحالي العجيب انبثق من عالم عجيب آخر.
يمكن له التفكير في الطحالب الخضراء المزرقة، التي يطلق عليها علماء الأحياء: جدة العالم، تلك الكائنات الزلقة التي تطورت عنها أشكال الحياة، بأمس ليس بقريب، كان هناك عالم فيه طحالب وأشنات وكائنات -الله يرحمها دلوقتي بقت أحفوريات ونفط- فقط، تفصلنا عنه رقصة ممالك الليل والنهار ذاتها؛ هل تجسر على أن تدعي أننا من عالم واحد؟
في واحد من أجمل سير الحرب التي قرأتها في حياتي، يحكي الكاتب عن مطلع الثورة في سوريا، التي أعادت عمه الفنان التشكيلي الشاب إلى أرض الرقة مدفوعًا بسكرة الأمل والوطنية، وكيف صمم مقهى فاتنًا على ضفاف النهر، نوافذه من زجاج ملون طلاها العم الفنان بنفسه، وضع في الجدران عصارة روحه، أفرد الكاتب صفحات كاملة في وصف ذلك الزجاج الملون الجميل. ولما أخذت الثورة ذلك المنعطف المعروف، غادر العم، ��ولى الكاتب أمر المقهى، شاهد الزجاج الملون ينشرخ في تظاهرة بعد تظاهرة، ينفجر في القصف. تنتهي السيرة وقد تحول المقهى الجميل إلى هيكل خرساني لسايبر يتواصل فيه جنود تنظيم الدولة مع أسرهم، يضمدون فيه جرحاهم، وأخيرًا، يحتجزون فيه سباياهم من النساء. ألم تتعاقب عوالم كاملة على ذلك المقهى الجميل خلال سنوات معدودات؟
في اختلاف الليل والنهار آيات لصاحبات وأصحاب العقول الجميلة. هؤلاء الذين تقع أعينهم المختارة، البصيرة، على احتمالية عالم مختلف تمامًا اختلاف ابن جزمة عن عالمهم الحاضر الذي يستغرق الجميع ويخدر شعورهم. يسفكون الدماء الأولى، يخرجون في الاحتجاج الأول، يكتبون العريضة الأولى، يحفزون التفاعل الكيميائي الأول، فيستولدون العالم التالي في تاريخ الدنيا. يتلصصون على عوالم خفية محتملة، مختبئة بإحكام في طيات عالمنا الحالي المعروف، كما يختبئ عالم مدرسة الليل العجيب الساحر الذي لن أنساه داخل عالم مدرسة النهار الذي يعرفه كل أحد.