ثمِّةَ أماكِنَ تُوقِضُ وَمضَةً من ذَاكِرَتي عنْ ذاتُ الأماكِنَ أو شَبيهَتُها قدْ حَضَرتُها أو عبرتُ من خِلالِها فيمَا مضَى، يَتعسَّفُ عليَّ تَذَكُّرها، لأنَّها شَديدةُ الضَّبابيَّة، مثلَ وَهجةٍ طفيفةٍ وسطَ العتْمَةِ تظهَرُ ثمَّ تتلاشَى.
يَنطَلِقُ شُعورٌ قَوَيٌّ، مُؤكِّدًا أنَّني في مَا مَضَى قدَ عبَرتُ مكانًا مُغايرًا لها، أو بِهَا شُعورٌ تُشَابِه الشُّعورُ الَّتي شَعرتُ بِها، مع ذَلِك تَتأسَّفُ ذَاكِرَتي وتَعْذَر عن وَصْفِ الذِكْرَى بشكْلِها النِهائي.
أستَعينُ بالمُوسِيقَى، كلَّ مُوسيقَى وكلِّ لحنٍ ونغمَةٍ يَحينَ دورَهُا تزَيدُ من وَهجِ الوَمضَةِ لديَّ، أو أطَّلِعُ صُورًا لمكَانٍ يَحمِلُ إلى حدٍ ما ذاتُ الوصفِ، يَزدَادَ شُعوري كمَا لو أنَّ تلكَ المُؤثِّرَاتِ تَشحنُها، لازَلت الذَّاكِرة ضَبابيَّة، والومَيضُ يَتلاشَى مُجدَّدًا.
يُخْبِرُني العَقْلُ أنَّهُ قدْ وقدْ لا يَتلاعَبُ بي، لتَبديدَ الغُموضِ والتَساؤُلِ الذي يَجْلبُ الضيَاعَ، سَارَعَ هوَ بالتَّعاونِ مع اللاوَعيَ في محاولةِ الإسْعَافِ عبرَ إنشَاءِ ذَاكِرةً مُتقاربَة أو وهميَّةً مع الحِفَاظِ على قتامَةِ بعضَ الجَوانِبِ.
ليسَت بالضِّرُورةِ أنَّها في الماضي، رُبما عنْ ماضٍ قريبٍ جدًا، أو أنَّني وحسْب، لم أصَادِف المكانِ قطِّ، ولكن رُبما ثمَّةَ أمنيَّةٍ وُلدِت ودُفِنَت في ذاتِ الآنِ بشأنِ المكانِ، ونَسيْتُها فَيعودُ العقْلَ لإحيَاءهِا بواسطَةِ ذَاكِرة مُزيَّفة، مثلَ حلمِ اليَقظَة، بالطَّبعِ لغايةِ التنفيسِ.
تُخْبرُني ذَاكِرَتي أننَّي فيمَا مضَى رَأيتُ مكانًا مُشابِهًا لِمنزل غارِقٌ بينَ الشَجَرِ والزُّهورَ، الكثيرَ منَ الزُّهورِ إلى دَرجَةِ إحتواءِها حولَ جُدرانِ البنَايةِ كامِلاً، كانت ذو نُزعةٍ كئيبةٍ وقاتِمَةً، ولكنَّها تبثُّ لي في ذاتِ الوقتِ شُعورًا مُبهجًا، سَاكِنًا تملئها طُمَأنينةً ... هُنالِك عدِّة جوانبَ في الحَياةِ عندَ رُؤيتها أو سَمَاعها، تُحاولُ إيقاظَ تلكَ الذَّاكِرة، ولكنها تتلاشَى بسُرعة.
لسنواتٍ طويلة سعيتُ للتَّذكُّرَ، ولم أجِد الإجابة.
اليوم يُصادف ذكرى وفاة أبي وقد أيقنتُ أن الفواجع تبقى كما هِي ولو مر عليها دهر ، وأن الحُزن على الراحلين لا يموت ، رحم الله ملامح لا تغيب عن البال وحديثًا اشتقنا لسماعِه. لم أعرف يوماً حُزناً أكبر من حزن موت أبي الذي جعل في قلبي ثقباً يزداد بحنيني وشوقي إليه، موتِه الذي علّمني أن الحياة تموت بموت من نُحبّ رحم الله قلباً لو فنت الدنيا ما أتت بمثله اللهم ارحم أبي برحمتك الواسعه وبث النور في قبره وصبرنا يالله
رحم الله شيب شعره ورائحته , ضحكاته وكلماته اللهم ارحم أبي واغفر له. اللھم ارحم وجهً أحن إليه وروحاً كسرني غيابها وأوجعني رحيلها اللھم ارحم أبي رحمة تسع السمٰوات والأرض. اللهُم اجعل ذلك الوجه البشوش في أعلى مراتب النعيم ، اللهُم ارحم أبي برحمتك التي وسعت كُل شيء، اللهم خفف عنه وحشة القبر، وآمنه بأمانك واحفظه بجوارك يا أكرم الأكرمين
ثقيلةٌ الحياة بدون أب مهما كان الإنسان يتظاهر فيها بالقوة ، موت الأب ألمٌ مميت ، من مات أبوه فقد سنده وإن بلغ ما بلغ ، كسرٌ وفقدٌ شديد ، وحياةٌ أخرى أنتزعت منها الفرحة وأفقدت أصحابها لذَّة الأشياء ، فقدان الأب كسرٌ لا يُجبر ، رحم الله أبي وجميع موتى المسلمين . لا أملك إلا أن أقول أحسنوا لمن تحبون ، فإن الشوق بعد الموت لا يطاق